مهرجانات الربع الأخير من العام تشمل الشرق والغرب معاً

تتغير الشاشات والجمهور... لكن الافلام هي ذاتها

من الفيلم اللبناني «سوليتير»  -  مهرجانات الربع الأخير «المختارون» فيلم إماراتي لمهرجان واشنطن
من الفيلم اللبناني «سوليتير» - مهرجانات الربع الأخير «المختارون» فيلم إماراتي لمهرجان واشنطن
TT

مهرجانات الربع الأخير من العام تشمل الشرق والغرب معاً

من الفيلم اللبناني «سوليتير»  -  مهرجانات الربع الأخير «المختارون» فيلم إماراتي لمهرجان واشنطن
من الفيلم اللبناني «سوليتير» - مهرجانات الربع الأخير «المختارون» فيلم إماراتي لمهرجان واشنطن

في السبعينات من القرن الماضي، وقف مهرجان لايبزغ للأفلام التسجيلية (الذي تأسس سنة 1955)، في الصف الأمامي للمهرجانات المتخصصة في السينما غير الروائية. لايبزغ انتمت آنذاك، بحكم الجغرافيا، إلى القسم الشرقي من ألمانيا. مدينة لا تختلف في هندستها وطرقها ولياليها عن كل المدن الألمانية الكبيرة الواقعة تحت الإدارة الشيوعية. ولأنّ تلك الإدارة حبّذت الأفلام التي تنطق بعناوين التقدم واليسار والثورات على النّظم الرأسمالية فإنّ المهرجان جذب آنذاك كل تلك الأفلام «التقدمية» التي عاشها العالم في تلك الفترة. الحرب الباردة كانت ساخنة على شاشاته عبر الأفلام الآتية من القارات الثلاث، أساساً: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
المشتركون كانوا من الشرق والغرب معاً. الأفلام تنوّعت من تلك التي تناولت تبعات الحرب الفيتنامية إلى تلك التي تداولت قضايا التحرر الأفريقية. وبالطبع كان للسينما الفلسطينية (والعربية عموماً)، موقع الصدارة. الصراع العربي - الإسرائيلي أصدر أتلالاً من الأفلام المناهضة للصهيونية ولإسرائيل، لكن القليل منها كان يستحق الشرائط التي طبعت عليها. الكثير من الأفلام الفلسطينية ذاتها، بصرف النظر عن حقها في طرح الموضوع الفلسطيني أمام الغرب، بروباغاندا ذات توجهات عاطفية وكثير منها، أعتقد أنّ إظهار بشاعة القتل والدم المراق هو جوهر كسب الصراع الدائر. قليل منها فقط كانت قادرة على التوجه إلى البال والذاكرة وليس القلب والجيد من هذه، فنياً، كان أقل.
اليوم، يختلف هذا المهرجان عمّا كان عليه في تلك الأنحاء. بعد الوحدة الألمانية بدا أقدم مهرجانات السينما التسجيلية في العالم غير واثق الخطى.
كيف سيتآلف مهرجان عُرف بطابعه السياسي المناهض للغرب، في زمن انهارت النّظم والآيديولوجيات التي كان يدافع عنها. موقعه على الشبكة لا يحتوي شيئاً يُذكر عن ماضيه. وإذا فتحت أرشيفه لن تجد شيئاً عن سنواته البعيدة. ينطلق الأرشيف من عام 2012 فقط.
على ذلك، فإن ذلك العام هو عام التحوّل صوب استعادة مكانه في الصف الأول على كثرة مهرجانات اليوم في المجال ذاته. وإذ تنطلق دورته الـ60 في الـ30 من أكتوبر (تشرين الأول) وحتى الخامس من الشهر التالي، فإن العدد الماثل من الاشتراكات العربية حتى الآن لا يتجاوز خمسة أفلام آتية من تونس ولبنان وسوريا وقطر.
غالبيتها ينتقل إلى لايبزغ بعد مروره على شاشات سواه من المهرجانات. الاستثناء الأبرز هو فيلم رضا تليلي التونسي «منسيون»: تسعون دقيقة تدور حول أربعة شبان من بلدة سيدي بوزيد خاضوا أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي».
بادرة إماراتية في واشنطن
الغزو العربي للمهرجانات بات تقليدياً في السنوات الأخيرة: دبي وطنجة والقاهرة وقرطاج في الخريطة العربية، ومالمو ولوكارنو وتورنتو وكان وبرلين ولندن وفالينسيا ومرسيليا ونانت في العالم الغربي. لكن الأفلام هي ذاتها. تتغير الشاشات والجمهور الذي أمامها لكنّ الأفلام هي - غالباً - ذاتها، تُطلق في مهرجان واحد ثم توالي السفر والترحال.
واحد من المهرجانات المخصصة للسينما العربية (كما حال مالمو السويدي الذي انتهت أعمال دورته السابعة في العاشر من هذا الشهر) يُقام في العاصمة واشنطن منذ 22 سنة. اسمه «مناظر عربية» (Arabian Sights) لكنّه عرف أيضاَ بـ«مهرجان واشنطن دي سي للسينما العربية». وهو قدّم في دورته الأولى التي عقدت لأربعة أيام من شهر فبراير (شباط) سنة 1996 مما اعتبر، بحق، درر تلك الفترة مثل الفيلم الجزائري «مدينة باب الواد» لمرزاق علواش (بعد عامين من إنتاجه) «وآن الأوان» للبناني جان - كلود قدسي (أيضاً من أعمال 1964) و«كومبارس» للمخرج السوري الراحل نبيل المالح (إنتاج 1993).
السبب في أنّ معظم عروضه هي لأفلام سبقت سنة إقامته بأعوام عاد إلى أن الحماس لم يكن متوفراً لدى السينمائيين العرب (مخرجين ومنتجين) ولم تكن الحوافز المختلفة (معنوياً ومادياً) كافية. كان على المهرجان، الذي تابعته من حين لآخر، يعاني من فتور السينمائيين حياله وبالكاد يجمع حفنة أفلامه.
الحال تبدّل منذ سنوات قريبة ونجاحه في الولايات المتحدة بات مقروناً بالرغبة في الوصول بالقضايا التي من أجلها نشهد كل هذه الحالة من رواج الفيلم العربي اليوم. بل إنّ الحماس الرسمي الذي يصاحبه هذا العام في أعلى ذروته، فهو يقام تحت إشراف سفارة الإمارات العربية المتحدة في واشنطن التي ارتأت أنّ مثل هذا الإسهام في نجاح السينما العربية الآتية من المنطقة العربية هو إسهام في إنجاح الثقافة التي نطمح جميعاً لنشرها.
الأفلام المختارة للدورة الثانية والعشرين التي تنطلق في العشرين من هذا الشهر وتستمر حتى التاسع والعشرين منه، ما زالت تصل لواشنطن بعد مرورها على كثير من عواصم العالم. لكنّها جميعاً من الإنتاجات الحديثة مثل فيلم «إن شا الله استفدت» الفيلم الروائي الأول لمحمود المساد و«جسد غريب» للتونسية رجا عماري و«سوليتير» للبنانية صوفي بطرس. الوجود الإماراتي ذاته متوفر في فيلم «المختارون» لعلي مصطفى (وثبة المخرج إلى سينما النوع المستقبلي). لكنّ الأفلام المصرية هي الأكثر عدداً من سواها فمن بين الأفلام التسعة المشتركة (فيلم لكل يوم) هناك عملان مصريان هما «يوم للستات» لكاملة أبو ذكري و«الأصليين» لمروان حامد.
باقي الأفلام المعروضة هي «ما زلت أخفي الدخان» لمخرجة جزائرية اسمها ريحانا و«في سوريا» لفيليب فان ليوف (إنتاج لبناني وبلجيكي وفرنسي مشترك) و«عمي» للمغربي نسيم عباسي.
- أدوار جديدة؟
خارج إطار العالم العربي، هناك حشد من المهرجانات التي تقع في فترة زمنية واحدة. فبينما يوالي مهرجان لندن أعماله حالياً تسير أربعة مهرجانات في موازاة بعضها البعض وهي هامبورغ الألماني في دورته الـ25، وريو دي جانيرو البرازيلي (الدورة 19) ومهرجان ستيجيز الإسباني للسينما الغرائبية (الدورة 50) ومهرجان أديليد الأسترالي (الدورة 8) ومهرجان حيفا (الدورة 33). هذه المهرجانات بدأت في الخامس من الشهر الحالي وتغلق أبواب صالاتها في 15 (باستثناء مهرجان حيفا الذي بدأ دورته الحالية في الـ15 لكنه ينتهي في الـ14 من الشهر).
مهرجان بوسان الكوري انطلق في 12 من الشهر الحالي ويستمر حتى الـ21 منه. فيينا (في دورته الـ55) يفتح أبوابه في 19 من الشهر ثم يغلقها في الثاني من الشهر المقبل أي قبل يوم واحد من انتهاء مهرجان طوكيو الـ30.
تقاطع المهرجانات مع بعضها البعض ليس جديداً ولا غريباً والمهرجانات العربية تدخل هذا النطاق بجدارة. صحيح أن مراكش توقف هذا العام، وكذلك فعل مهرجان أبوظبي ومهرجان الدوحة، مما خلق بعض المسافات بين المهرجانات الكبرى، لكن الصحيح كذلك أنّها مسافات قليلة. في الأسابيع المقبلة ستتوالى مهرجانات قرطاج والقاهرة ودبي عدا عن مهرجانات أخرى أصغر حجماً في منطقتي الخليج والمغرب العربي.
وفي العام المقبل ينوي مهرجان دمشق العودة إلى النشاط في مثل هذا الشهر وقد يعود مهرجان مراكش بعد التعديل وهذا ما سيعيد تضارب مواعيد المهرجانات العربية إلى سابق عهده.
لكنّ هذا لا يبدو أنّه يقلق أحداً في الوقت الراهن. ومع أنّ الكلام كثير حول «التعاون» وضرورة «أن نعمل معاً» وليس بالضرورة «أن نتنافس»، إلا أن الواقع هو أنّ التنافس حالة لا بد منها. والوضع القائم حالياً يتجه إلى مزيد من التنافس حقاً.
في السنوات السابقة خلق وجود مهرجانين في دولة الإمارات وضعاً مثالياً للتنافس. كان مهرجان دبي (تأسس سنة 2004) وبعد ثلاث سنوات تبعه مهرجان أبوظبي. وسريعاً انضم إليهما مهرجان الدوحة الذي سرعان ما افتقر إلى دور يلعبه فتوقف ليتم تفريخ مهرجانين صغيرين عنه غير قابلين للتنافس مع سواهما من مهرجانات المنطقة.
مهرجانا دولة الإمارات أثريا النشاط السينمائي في منطقة الخليج بأسرها، كذلك فعل مهرجان «السينما الخليجية» الذي أقيم أيضاً في دبي. لكنّ مهرجان أبوظبي ومهرجان السينما الخليجية توقفا منذ ثلاث سنوات ليبقى مهرجان «دبي» وحده.
من ناحية أخرى، منح توقف مهرجان أبوظبي ميزة انفراد دبي بنشاطاته السينمائية وتأكيد حضوره كأكبر هذه المهرجانات، لكن، ومن ناحية ثانية، لا يمكن إلّا ملاحظة أنّ هذا الوضع الذي يجد فيه مهرجان دبي نفسه منفرداً ينمّ عن اضمحلال فرص التحديات التي كانت موجودة والتي كانت تعني، بالضرورة، العمل الحثيث على تبوء المركز الأول ما يعود على الجمهور بالنفع الكبير.
الآن، يشكل مهرجان الجونة الذي أطلق قبل أسابيع في دورة أولى ناجحة احتمال قيام منافسة جديدة بينه وبين مهرجان دبي. نعم، من المبكر الحديث عن هذا الشأن، لكن ليس من المبكر ملاحظة أنّ المهرجان الجديد وضع مهرجان القاهرة على المحك، في الوقت الذي يحتاج مهرجان القاهرة لكل الجهود المتضافرة لمساعدته تجاوز محن وأزمات مادية يواجهها منذ سنوات.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
رياضة سعودية إقامة شوط للسيدات يأتي في إطار توسيع المشاركة بهذا الموروث العريق (واس)

مهرجان الصقور: «لورد» غادة الحرقان يكسب شوط الصقارات

شهد مهرجان الملك عبد العزيز للصقور 2024؛ الذي ينظمه نادي الصقور السعودي، الجمعة، بمقر النادي بمَلهم (شمال مدينة الرياض)، جوائز تتجاوز قيمتها 36 مليون ريال.

«الشرق الأوسط» (ملهم (الرياض))
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق جوي تتسلّم جائزة «أفضل ممثلة» في مهرجان «بيروت للأفلام القصيرة» (جوي فرام)

جوي فرام لـ«الشرق الأوسط»: أتطلّع لمستقبل سينمائي يرضي طموحي

تؤكد جوي فرام أن مُشاهِد الفيلم القصير يخرج منه وقد حفظ أحداثه وفكرته، كما أنه يتعلّق بسرعة بأبطاله، فيشعر في هذا اللقاء القصير معهم بأنه يعرفهم من قبل.

فيفيان حداد (بيروت)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».