كارليس بوتشيمون... الرجل الذي هزّ عرش مملكة إسبانيا

وسط العد التنازلي لحسم تداعيات الاستفتاء الكاتالوني

كارليس بوتشيمون... الرجل الذي هزّ عرش مملكة إسبانيا
TT

كارليس بوتشيمون... الرجل الذي هزّ عرش مملكة إسبانيا

كارليس بوتشيمون... الرجل الذي هزّ عرش مملكة إسبانيا

ساعات وتنتهي المهلة المحددة التي منحتها الحكومة الإسبانية في مدريد إلى الرئيس الكاتالوني كارليس بوتشيمون، للإعلان صراحة عن نوايا الإقليم، سواءً بالانفصال التام أو البقاء داخل البيت الإسباني. وللعلم، فإن رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي كان حازماً مع بوتشيمون عندما أمهله حتى الساعة العاشرة من صباح بعد غد الاثنين، ليكشف عن نواياه الحقيقية حول استقلال إقليم كاتالونيا، ولكن حتى هذه اللحظة تسود حالة من الضبابية في المواقف السياسية من الأطراف الإسبانية كافة مع اقتراب انتهاء المهلة.
مع انتهاء المهلة المحددة لحسم تداعيات الاستفتاء على استقلال كاتالونيا، بشمال شرقي إسبانيا، سيحق لرئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي العمل على «إعادة الشرعية إلى الإقليم» - على حد وصفه - عبر تطبيق المادة 155 من الدستور الإسباني، فبموجبها سيُعاد إقليم كاتالونيا إلى «بيت الطاعة» الإسباني مجدداً عبر إلغاء وضعية «الحكم الذاتي» autonomy التي كان يتمتع بها، والمباشرة في الإعداد لانتخابات تشريعية إقليمية جديدة.
الجدير بالذكر أن كارليس بوتشيمون، رئيس كاتالونيا الانفصالي، مضى في مسيرته السياسية على أساس تحقيق حلم طفولته، وهي رؤية منطقته تنفصل عن إسبانيا، وتغدو دولة مستقلة. وكان إعلان بوتشيمون (54 سنة) في الخطاب الذي ألقاه أمام نواب البرلمان الكاتالوني عن الانفصال قد أثار حالة من الترقب القلق بعد حصوله على تفويض من الشعب لإعلان الاستقلال، بيد أنه في ضوء ردات الفعل الإسبانية والأوروبية السلبية اقترح تعليق العملية إفساحاً في المجال للحوار.
يمثّل بوتشيمون، وهو صحافي سابق ذو شعر كثيف بني اللون، اليوم، وجه الحركة الاستقلالية الكاتالونية أمام العالم. وكان الرجل الذي قاد حزبه للحصول على تأييد 47.7 في المائة من الأصوات في الانتخابات المحلية عام 2015، قد جعل الأوساط الاقتصادية تتحدث عن «مفعول بوتشيمون» عندما تتحدث عن رحيل شركات من المنطقة، بينما يطالب مدافعون عن وحدة إسبانيا بزجّه في السجن.
في المقابل، قال بوتشيمون إنه سيواجه احتمال توقيفه دون خوف، وذلك في سيرة نشرت في العام 2016. كما كتب عنه صديقه الصحافي كارليس بورتا أن بوتشيمون «رجل صادق ومرن وانفصالي منذ البداية. كما أنه عنيد، وهي صفة يمكن اعتبارها تضيف جوانب إيجابية وسلبية في الوقت نفسه لشخصيته».
فضلاً عن ذلك، يقول خصوم بوتشيمون عنه أنه «لا يتمتع بخلفية ثقافية، لكنه منذ 16 سنة استقلالي حتى العظم» ولديه «قناعات راديكالية». وتجدر الإشارة هنا إلى أن حياة بوتشيمون انقلبت في أحد أيام يناير (كانون الثاني) 2016 عندما دُعي إلى ترؤس تحالف غير منسجم من الانفصاليين المصممين على تحقيق الاستقلال للإقليم البالغ عدد سكانه 7.5 ملايين نسمة. إذ إنه بعدما ترأس بلدية مدينة جيرونا، البالغ تعدادها السكاني 98 ألف شخص منذ 2001، عين رئيساً للإقليم خلفاً للسياسي المحافظ البارز آرتور ماس، الذي أثار تبنيه الخط الانفصالي حديثاً، وتأييده سياسات التقشف التي ينتهجها، استياء اليسار الانفصالي المتطرف. ومن ثم ورث كارليس بوتشيمون عن ماس مهمة صعبة لا يحسد عليها، وبات «العدو الأول» للحكومة الإسبانية برئاسة المحافظ ماريانو راخوي الذي لم يجر معه أي حوار. وبالمناسبة، لعل النقطة المشتركة الوحيدة، ربما، بين الرجلين «الخصمين» راخوي وبوتشيمون، هي أنهما تعرّضا إبان فترة شبابهما لحوادث سير خطيرة، آثارها لا تزال بادية تحت لحية راخوي، بينما تظهر على شفة وجبهة بوتشيمون.

بطاقة هوية
ولد كارليس بوتشيمون عام 1962 لأسرة تعيش في بلدة حدودية مع فرنسا في جبال البيرينيه (البرانس) على بعد مائة كلم تقريباً من برشلونة. وهو ابن وحفيد صانعي حلوى متواضعين، وترتيبه الثاني بين ثمانية أولاد، ولم يكن عمره يتجاوز تسع سنوات عندما أرسل إلى مدرسة داخلية حيث «تعلم الكفاح» حسب تعبيره. وهو حالياً متزوج من سيدة رومانية وأب لفتاتين صغيرتين.
عندما توفي الديكتاتور الإسباني فرانسيسكو فرانكو كان بوتشيمون لا يزال في الثالثة عشر من عمره. ولقد عاشت في ذاكرة هذا الشاب المتعلق باللغة الكاتالونية والشغوف بالتاريخ ذكريات القمع التي فرضت على إقليمه بعد الحرب الأهلية بين 1936 و1939.
وبدأ الشاب الطموح مسيرته الصحافية والسياسية بالعمل مصححاً في صحيفة «بونت أفوي» القومية عام 1982، وانتهى به الأمر إلى تولي رئاسة تحريرها، وكان في هذه الحقبة يمارس نشاطه السياسي إلى جانب عمله الصحافي. ويذكر أنه كان في العام 1980 قد انضم إلى حزب التوافق الديمقراطي الكاتالوني، وهو حزب قومي محافظ يترأسه جوردي بوجول، الذي تفاوض مع مدريد من أجل الحصول على حكم ذاتي أوسع للإقليم.
في تلك الأيام كان الانفصاليون الكاتالونيون لا يتمتعون بشعبية كبيرة، إلا أن بوتشيمون انصرف في صيف 1991 لدراسة حالة جمهورية سلوفينيا التي أعلنت استقلالها بعد استفتاء محظور عن جمهورية يوغوسلافيا، وتلي ذلك نزاع مسلح قصير.
وفي السنوات التالية دعا بوتشيمون إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للحركة الاستقلالية، واعتماد مبدأ النضال اللا عنفي على غرار نضال المهاتما غاندي في الهند. وحقاً، كتب بورتا عنه في سيرته أنه كان «يرفض الاستعجال ويريد السير بالأمور كما يجب».

جوانب من شخصيته
لا يواجه بوتشيمون صعوبة في التعامل مع التقنيات الحديثة، كما أنه يجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية والرومانية، إضافة إلى اللغتين الإسبانية والكاتالونية، ولقد أسس وكالة صحافة كاتالونية وصحيفة ناطقة بالإنجليزية حول الإقليم، كما ترأس جمعية المناطق للمطالبة بالاستقلال. يضاف إلى ذلك، أن عالم السياسية أنطون لوسادا يشير إلى أن الزعيم الكاتالوني يتمتع أيضاً بـ«حس مسرحي كبير ويعرف كيف يوظف وسائل الإعلام لغاياته».

التزم بوعوده
جدير بالذكر أنه منذ خمس سنوات، طالبت مظاهرات حاشدة في إقليم كاتالونيا، الحكم المركزي الاتحادي الإسباني في مدريد، بإجراء استفتاء لتقرير مصير الإقليم. وحقاً التزم بوتشيمون بوعده ونظم في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الحالي استفتاء شعبياً - حظره القضاء الإسباني - شهد أعمال عنف مع الشرطة. وكانت النتيجة المعلنة هي تأييد 90.18 في المائة ممن أدلوا بأصواتهم إعلان كاتالونيا «جمهورية»، علماً بأن نسبة الاقتراع لم تزد عن 43 في المائة... وبناء عليه، ندد قسم من السكان بما اعتبره «احتيالاً ديمقراطياً» يهدف إلى إضفاء صفة شرعية على إعلان الاستقلال، ويتجاهل تجاهل النصف الآخر من السكان غير المؤيدين للاستقلال.
هذا الأمر وصفه عالم السياسة الإسباني خوان بوتيلا «هناك هروب إلى الأمام... ثم إن بوتشيمون يعتقد أن القدر يحتم عليه قيادة الكاتالونيين إلى مستقبل أفضل. لكن من الصعب التكهن بما سيقرره المقربون منه، كما أنه ليس منضبطاً جداً إزاء حزبه، حيث يسود شعور بالقلق». مع هذا يرى بوتيلا أن بوتشيمون «ليس ذلك الرجل المتعصب كما تصوره مدريد».
في المقابل، مع تبلور صورة الزعيم الكاتالوني الذي يهدد الدولة الإسبانية بالتصدع قالت سورايا ساينز دي سانتا ماريا، نائبة رئيس الوزراء الإسباني، معلقة على توقيعه على إعلان استقلال الإقليم عن مدريد مع وقف التنفيذ، «بوتشيمون لا يعرف أين هو، ولا إلى أين يسير، ولا أين يريد أن يذهب». وذكرت أن الحكومة الإسبانية ستعقد اجتماعات طارئة لاتخاذ قرار رداً على ما أقدم عليه الانفصاليون الكاتالونيون، ثم شددت على أن استفتاء 1 أكتوبر «غير شرعي، ويشوبه تزوير ولا يتمتع بأي ضمانات» للديمقراطية. من ناحية أخرى، رفضت ساينز دي ماريا دعوات بوتشيمون لإجراء وساطة مع مدريد، قائلة: «ليس بإمكان بوتشيمون أو أي شخص كان الادعاء بفرض وساطة من دون الرجوع إلى الشرعية والديمقراطية... إن الحوار بين الديمقراطيين يكون باحترام القانون».
تشدد مواقف مدريد عبّر عنها أساساً إعلان راخوي رئيس الحكومة الإسبانية أنه لا يستبعد تعليق العمل بـ«الحكم الذاتي» في كاتالونيا ما لم تتراجع قيادة الإقليم عن إعلان الاستقلال. وفي رد منه على سؤال لصحيفة «إلباييس» حول تطبيق المادة 155 من الدستور، التي تتيح تعليق العمل بالحكم الذاتي في كاتالونيا، قال راخوي «أنا لا أستبعد شيئاً، لكن يجب فعل الأشياء في وقتها»، في إشارة إلى التلويح بالقوة لإعادة الشرعية إلى الإقليم. كذلك استعرضت مدريد قوتها العسكرية إبان الاحتفال باليوم الوطني، في إشارة واضحة إلى أن سلطات مدريد لا تنوي التفريط بوحدة الأراضي الإسبانية.
وعلى صعيد آخر، شهدت مدن إسبانيا مظاهرات عدة دعت إلى وحدة البلاد. إذ نزل عشرات آلاف المتظاهرين إلى الشوارع في أنحاء إسبانيا خلال الأيام الماضية، داعين إلى وحدة البلاد، ومطالبين بتحرك لحل الأزمة السياسية، ورافضين سعي الانفصاليين في كاتالونيا استقلال إقليمهم الغني عن الدولة الإسبانية. ولقد تجمع متظاهرون يرتدون الزي الأبيض أمام مباني البلديات في أنحاء إسبانيا للمطالبة بعقد حوار لإنهاء الأزمة. وهتفت جموع من المتظاهرين الشباب الذين ساروا نحو ساحة كولون متوجهين إلى رئيس الحكومة راخوي بالقول: «إنه يجب الدفاع عن الوطن»، ولوحوا بأعلام إسبانيا وأخرى تحمل شعار «العقاب الأسود» الذي يعود إلى حقبة الديكتاتور فرانكو. وصرح الكولونيل خاكوان بيناس، الذي كان يشارك في إحدى المظاهرات أن «الوضع وصل إلى نقطة تحول، وعلينا المشاركة بفاعلية في الدفاع عن قيم إسبانيا كأمة».

مرونة... وضبابية
في أي حال، يرصد مراقبون بوادر مساع محتملة يبذلها جانبا الأزمة لنزع فتيل أسوأ أزمة تعصف بإسبانيا منذ جيل، بعدما قدمت سلطات مدريد أول اعتذار الجمعة للكاتالونيين الذين تعرضوا لإصابات جراء محاولة الشرطة منع الاستفتاء. إلا أن الضبابية ما زالت مهيمنة على المواقف، وقد يتفاقم الوضع إذا لم يتراجع قادة كاتالونيا عن خططهم الاستقلالية بعد انتهاء المهلة يوم الاثنين المقبل.
وفي هذا السياق، أكد كارليس بوتشيمون أنه لم يجر أي اتصال بالحكومة الإسبانية لحل الأزمة. وتابع في حديث لمحطة «تي في3» الكاتالونية «ملايين الأشخاص صوّتوا ويريدون اتخاذ قرار، وبالتالي علينا التعامل مع هذا الأمر». ومقابل ذلك تعهد راخوي بمنع أي تحرك نحو الاستقلال، رافضاً كل دعوات التوسط في النزاع الذي أثار قلقاً في كل أنحاء إسبانيا، بما في ذلك في صفوف لاعبي كرة القدم من ناديي برشلونة وريال مدريد، إذ قال رئيس الحكومة أن «إسبانيا ستظل إسبانيا وهي ستبقى كذلك فترة طويلة». وشدد لاحقاً على أنه في حال تم إعلان استقلال كاتالونيا، فـ«هذا الإعلان لن يؤدي إلى شيء».

الشق الاقتصادي
في هذه الأثناء، على الصعيد الاقتصادي، واصلت الشركات والحكومة الإسبانية ضغوطها الاقتصادية على سلطات كاتالونيا، وأعلنت شركات كبرى عدة نيتها نقل مقارها الرئيسية إلى أماكن أخرى من إسبانيا. وكما سبقت الإشارة، في حال أصرت قيادة كاتالونيا - التي تشكل خُمس الثقل الاقتصادي للبلاد - على إعلان استقلالها، ستستطيع مدريد الرد عبر تعليق «الحكم الذاتي» للإقليم، وفرض سلطتها عليها بشكل مباشر. وبالفعل، واصلت حكومة مدريد ممارسة الضغوط على الإقليم اقتصادياً لثنيها عن خططها الانفصالية الاستقلالية، إذ مرّرت الحكومة مرسوماً يجعل من السهل على الشركات نقل مقارها من إقليم إلى آخر.
يبقى أن نشير إلى أن الاستطلاعات في الآونة الأخيرة تبين أن الكاتالونيين منقسمون حيال الاستقلال، وهذا مع أن قادة الإقليم ادعوا أن العنف الذي حصل أثناء الاستفتاء زاد التعاطف الشعبي معهم ومع الاستقلال. كذلك نشير إلى مطالبات كاتالونيا، التي لديها لغتها وتقاليدها الخاصة، إلى قرون، لكن هذه المطالبات ازدادت خلال السنوات الأخيرة على خلفية الأزمة الاقتصادية وارتفاع شعبية بوتشيمون.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.