«أكتوبر الأحمر» في مئويته: سؤال تأخرت إجابته 80 عاماً

تحلّ خلال الشهر الحالي ذكرى مرور مائة عام على ثورة 1917 في روسيا التي أدت إلى إقامة الاتحاد السوفياتي. وسيحيي كثيرون في الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية هذه المناسبة بإقامة مهرجانات وفعاليات خاصة، في حين تبتعد غالبية الروس عن إرث الحزب الذي تراجعت حصة فلوله من أصوات الناخبين إلى ما بين 10 و15 في المائة، واختفت تقريباً غالبية أقرانه من الأحزاب الشيوعية على مستوى العالم، أو تحولت إلى كيانات أخرى.
سيتخذ الحنين إلى الشيوعية شكلاً احتفالياً، لكنه سيمثل أيضاً مناسبة لتذكر ضحايا الثورة البلشفية والستالينية التي تمخضت عنها، إضافة إلى إلقاء نظرة على جذور ثورة «أكتوبر الأحمر» وبداياتها.

أطلق الرئيس الروسي بوريس يلتسن عليها «المأساة الأعظم» في تاريخ الشعب الروسي. وكانت بالنسبة إلى الشاعر الفرنسي لويس أراغون «الحدث الذي أعاد تشكيل العالم المعاصر». ووصفها صحافي أميركي بأنها «عشرة أيام هزت العالم». ما نشير إليه هو الثورة التي أدت في أكتوبر (تشرين الأول) 1917 إلى سيطرة الحزب البلشفي على الحكم في روسيا. ربما لا تكون السيطرة على الحكم هي العبارة الدقيقة؛ لأنه عندما قدم البلشفيون أنفسهم على الساحة، لم يكن هناك حكم أو سلطة بالأساس في روسيا. كان القيصر الذي يمثل واجهة الدولة قد انهار، وكانت الحكومة المؤقتة برئاسة ألكسندر كيرينسكي، تعمل كدجاجة بلا رأس. في بعض الأحيان، كان على رئيس الوزراء العثور على عربة يقودها حصان لتوصله إلى المكتب لأن سائق سيارته اختفى. كانت الإمبراطورية الشاسعة منهكة وعلى حافة مجاعة بفعل ثلاث سنوات من الحرب والمذابح، وكانت إدارتها ممزقة والنشاط الزراعي شبه متوقف.
حين ظهرت مجموعة من البحارة المسلحين خلال جلسة مفتوحة للبرلمان الذي تمخض عن الانتخابات الحرة الأولى والأخيرة، كان في ذهن أعضاء البرلمان فكرة واحدة هي كيفية الهرب والنجاة بأنفسهم. فجأة أصبحت روسيا، أكبر دولة في العالم آنذاك، من دون حاكم. وتظاهر البلاشفة بأنهم قادرون على شغل هذا الفراغ، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أنهم عاجزون عن ذلك، فقد كانوا حزباً صغيراً قوامه من المفكرين من الطبقة الوسطى الحضرية، وأكثرهم كانوا عائدين من المنفى وغير متواصلين مع روسيا. فاز الحزب في الانتخابات البرلمانية بنحو 5 في المائة من الأصوات فقط، لكن كان قائده فلاديمير الييتش أوليانوف، الشهير باسم لينين، يعتقد أن قوة روسيا التي مزقتها الحرب، مثل صندوق جواهر سقط في الشارع ويمكن لأي شخص التقاطه. وكان عازماً على أن يكون هو من يفعل ذلك. لكن ما لم يكن يدركه هو أنه بذلك لن يرث قوة أو سلطة غير موجودة بالأساس، بل مسؤولية اضطلع حزبه بها.
في البداية كان لينين يأمل في الفوز بالمعركة الدعائية بفضل خطاباته اليومية، وهو كان سيد «التغريدات» قبل ظهورها. وبعد أيام من إخباره بأنه بات مسؤولاً عن البلاد، كتب أن هدفه هو أن يستطيع البلاشفة، الذين يعملون من خلال من أطلق عليهم العمال والفلاحين والجنود والبحارة السوفيات، الصمود مائة يوم على الأقل لتطول بذلك مدتهم عن المدة التي قضتها كومونة باريس التي كانت نموذجاً لـ«المدينة الفاضلة» الشيوعية في 1871.
بعد مرور مائة يوم، بدأ لينين يدرك أن إشعال فتيل ثورة أسهل كثيراً من بناء مجتمع جديد، فقد شهد دخول روسيا في خضم حرب أهلية استمرت أربع سنوات أودت بحياة ملايين الضحايا. وكتب في عام 1921: «لقد قتلت الحرب الأهلية البروليتاريا تحديداً عندما أردنا بناء روسيا الجديدة». وبدأ لينين بعدما بات نادماً إلى حد ما على جهوده الدعائية، في التعبير عن شكوكه خلال الاجتماع الحادي عشر لحزبه، وقال: «أسمع بحكم موقعي يومياً الكثير من الأكاذيب الشيوعية العاطفية، وأحياناً أسأم منها».
وبعد حشد طاقة حزبه لتقويض الطبقة «البرجوازية» المكروهة أدرك أن روسيا كانت في حاجة إلى تلك الطبقة من أجل إعادة بناء الدولة، وهو ما لخصه في قوله: «فكرة أن الشيوعيين قادرون وحدهم على بناء مجتمع شيوعي فكرة ساذجة وطفولية. ما نحن الشيوعيين سوى نقطة في محيط من البشر. وسنتمكن من بناء الشيوعية فقط حين نجعل البورجوازية المهزومة تعمل لصالحنا».
وكان ماركس يقول إن كل دولة لا بد من أن تنتمي إلى طبقة مهيمنة في مراحل مختلفة من التاريخ، بداية بالمجتمع البدائي مروراً بالمجتمع الإقطاعي، ووصولاً إلى المجتمع الرأسمالي. مع ذلك، في الوقت الذي قدم فيه لينين نفسه بصفته ماركسيا، رفض التحليل الخطي، وأصرّ على أن هناك طريقاً مختصرة تؤدي إلى مسار مباشر للانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، وخلال هذه الفترة ستخضع الدولة لحكم طليعة البروليتاريا أو لنقل الحزب الشيوعي.
سرعان ما أوضحت التجربة أن تفاؤل لينين الرومانسي كان في غير موضعه، فقد أصبحت جموع الروس تعاني الجوع في الوقت الذي شهدت لجنة صناعة القرار خلافاً حول إنفاق احتياطي ذهب القيصر من عدمه من أجل استيراد طعام معلب من فرنسا. وقرر لينين إجبار الفلاحين على مشاركة جزء من محصولهم الصغير لإطعام المدن المتضورة جوعاً.
وفي خطاب إلى ليف كامينيف، الذي كان يتولى مسؤولية الاقتصاد حينها، كتب لينين: «لا يوجد تطور ولا تقدم من دون إرهاب سياسي واقتصادي». ولجعل هذا الإرهاب منهجياً، أنشأ الشرطة السرية أو «هيئة الطوارئ الروسية لمكافحة الثورة المضادة والتخريب»، المعروفة اختصاراً باسم «تشيكا»، والتي يمكن اعتبارها سلف جهاز الاستخبارات الروسي «كي جي بي»، وعين على رأسها العسكري البولندي فيلكس دزيرجينسكي.
مع ذلك، لم يكن البلاشفة بالكثرة الكافية للاضطلاع بالأدوار القيادية والإدارية اللازمة داخل بلاد ضخمة تعاني أزمة استثنائية في تاريخها. قبل وفاته بأيام في 1924، قدّر لينين عدد كوادر البلاشفة بما يقرب من 4700، كان الكثيرون منهم قد قفزوا إلى صفوف الفريق الرابح في أعقاب انتصار الثورة.
دفع ذلك لينين وحزبه إلى اتباع سياسة جديدة أطلق عليها اسم «خطوة للخلف من أجل خطوتين إلى الأمام»، وعرفت هذه السياسة رسمياً باسم «السياسة الاقتصادية الجديدة» وطرحت فكرة إنشاء مؤسسات تقوم على المشاركة بين القطاعين العام والخاص وبناء رأسمالية تتبع الدولة. وعندما انتقد بريوبراجنسكي، عضو اللجنة المركزية بالحزب، لينين علانية لسعيه نحو إقرار نسخة جديدة من الرأسمالية، لجأ «أبو الثورة» في رده إلى السفسطائية، قائلاً: «في إطار المجتمع الرأسمالي، تعمل البروليتاريا من أجل الطبقة البرجوازية، لكن داخل المجتمع الشيوعي، تعمل البرجوازية من أجل البروليتاريا». وأضاف: «يسألنا الفلاحون: لقد تمكن الرأسمالي من إمدادنا بما نحتاج إليه، ورغم أنه فرض أسعاراً باهظة وأذلنا ونهب أموالنا، تظل الحقيقة أنه في نهاية الأمر وفّر لنا احتياجاتنا. ماذا عنكم أنتم أيها الشيوعيون؟ هل بمقدوركم توفير احتياجاتنا؟ ربما كنتم قديسين ستخلدون في النعيم، لكن هل بإمكانكم إدارة الأمور؟ هل باستطاعتكم تلبية احتياجاتنا؟».
في الواقع، لقد استغرق الأمر من التاريخ قرابة 80 عاماً للرد على هذا التساؤل بالنفي. بادئ الأمر، راودت لينين الرغبة في عقد حوار مجتمعي يشارك فيه جميع الروس الذين اعتادوا الصمت لقرون، يعبرون فيه عن مظالمهم وآرائهم. إلا أنه سرعان ما أدرك أن حرية التعبير والصحافة قد تحمل خطورة على نمط الدولة المركزية الذي يسعى إلى بنائه.
وبعد ثلاث سنوات من «أكتوبر الأحمر»، عاد الصمت المطبق ليغلف روسيا من جديد. وأعلن لينين أمام المؤتمر العام لحزبه: «يمكننا أن نجري مناقشات بحرية خلال عطلات نهاية الأسبوع، لكن باقي الأسبوع لن يكون به سوى الطاعة المطلقة للزعيم السوفياتي». ولا يملك المرء سوى التساؤل عما كان يمكن أن يصبح عليه الحال اليوم لو كانت كل غرفة دردشة عبر الفضاء الإلكتروني الفسيح سوفياتية.
بعد إطلاقه دعوة لإلغاء الرقابة، سرعان ما لجأ لينين إلى إجراءات لم تكن لتخطر على بال النظام القيصري، ووصف حرية الصحافة بـ«الخطيرة والقاتلة». وشدد على أنه «في جميع أرجاء العالم، في أي مكان يوجد به رأسماليون، تعني حرية الصحافة حرية شراء الصحف، وشراء الكتاب، وتقديم رشى، وشراء الرأي العام وتشكيله لمصلحة البرجوازيين». وتمحورت وجهة نظره حول أنه بما أن التاريخ قد اختار مسار الثورة، فإنه ليست ثمة حرية في الوقوف في وجه هذه الثورة أو إعاقتها؛ لأن حرية الاختيار تنتمي إلى مجتمعات ما قبل الثورة باعتبارها واحدة من القيم البرجوازية.
وعندما واجه الإخفاق المحتوم لثورته في تحقيق «تطوير إيجابي» في حياة العمال والفلاحين، ألقى لينين باللوم على «الرجعية المترسخة بجذورها» داخل روسيا، كما جاء في رسالة إلى اللجنة المركزية قال فيها إن «الحقائق والأرقام تكشف المهمة الهائلة والعاجلة التي نواجهها للوصول إلى مستوى أي دولة متحضرة عادية في غرب أوروبا، مع الوضع في الاعتبار الجهل شبه الآسيوي الذي لم نتمكن من تخليص أنفسنا منه بعد». وأضاف: «طالما ظل الريف لدينا مفتقراً إلى الأساس المادي للشيوعية، فإنني أرى أنه في المناطق الريفية لا يجب تحت أي ظرف أن نسعى على الفور إلى الترويج لأفكار شيوعية خالصة وبصورة حصرية؛ لأن هذا الأمر لن يكون مؤذياً فحسب، وإنما قد يكون مدمراً».
وفي إحدى المرات، اقترح لينين إرسال طلاب إلى بريطانيا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة لتعلم كيفية تنظيم صناعات وإدارتها وتولي مناصب عصرية حديثة، إلا أن اللجنة المركزية لم تحرك ساكناً في هذا الأمر لافتقار الاتحاد السوفياتي إلى المال اللازم، إلى جانب عدم وجود ضمانات تكفل إصدار «الأعداء» الغربيين التأشيرات الضرورية.
في بعض الأحيان، بدت حلول لينين المقترحة لمشكلات كبرى مثيرة للسخرية؛ إذ قال في مذكرة إلى اللجنة المركزية إن نظام التعليم ببلاده على وشك الانهيار، لكن الحل الذي اقترحه كان زيادة حصة الخبز للمدرسين.
وفي مذكرة أخرى، شبّه الوضع القائم بمجموعة تسلقت جبلاً لمسافة غير قصيرة، لكنها وقفت عاجزة عن الوصول إلى القمة. أما الحل الذي اقترحه فكان أن تهبط المجموعة، وتلقي نظرة جديدة على ما ينتظرها من تحديات. بيد أن المشكلة هنا تكمن في أن المجتمعات البشرية لا يمكن التعامل معها وكأنها صفحات بيضاء يمكن للمرء رسم أحلامه عليها أكثر من مرة، أملاً في الوصول إلى الشكل المثالي. على أرض الواقع، قد تقترف خطأ في الطريق فيموت أناس بسببه، ثم تحاول إصلاح الخطأ فيسقط ضحايا جدد.
بمرور الوقت، أصبح القياديون البلاشفة في عزلة داخل شرنقتهم الآيديولوجية، وقضوا كثيراً من الوقت في التشاحن، وانقسموا إلى فرق متناحرة. رغب لينين في دعم بوخارين باعتباره النجم الصاعد، ووصفه بأنه «واضع النظريات الأفضل في حزبنا»؛ الأمر الذي أثار غيرة ستالين. وفي النهاية وبعد وفاة لينين، تمكن ستالين من قتل بوخارين. في المقابل، شعر لينين بالمقت للارين، وفعل كل ما في وسعه لتهميشه. وفي الوقت ذاته، لم يكن أي من زينوفاييف وكامينيف يطيق الآخر، ووقع شجار بين زوجة لينين ناديا كروبسكايا وستالين الذي تحدث إليها بوقاحة عبر الهاتف. ودفع ذلك لينين إلى أن يكتب خطاباً إلى اللجنة المركزية يطلب استبدال ستالين، لكن ذلك لم يحدث نتيجة وفاة لينين في غضون بضعة أشهر. أما عبقرية لينين فتجلت في إدراكه أنه ما من نموذج معياري للثورات. وعن هذا، قال: «كل ثورة تشكل قفزة نحو المجهول، ولكل زمان مجهول مختلف».