فشل «إضرام النيران في الشرق» فحل «خريف الأحزان» على مسلمي روسيا

كانت عبارة «أضرم النيران في الشرق» الأمر المختصر الذي أصدره قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين إلى غريغوري زينوفاييف عندما أرسله في مهمة لحشد المسلمين الخاضعين للإمبراطورية الروسية، لمساندة «ثورة أكتوبر (تشرين الأول)» قبل مائة عام.
زينوفاييف كان الاسم الحزبي لأوفسي غريشين أرنوفيتش رادوملكسكي أبفلبوم، وهو مفكر يهودي أوكراني قضى سنوات منفياً في أوروبا ولم يكن على دراية بما يعرف بـ«الحدود البرية» في وسط آسيا والقوقاز، حيث يعيش المسلمون التابعون للقيصر. اعتاد زينوفاييف الجلوس في المقاهي للتحاور مع مثقفين مستغربين، بيد أنه فشل في خلق جو من الألفة مع أي من القبائل المسلمة في المناطق الروسية، ودخل في عداوات مع القيادات الدينية بوسط آسيا والقوقاز بتبنيه لشعار: «إما إن تؤمن بالله أو بالثورة».
وبعد فشله في «إضرام النار في الشرق»، عاد زينوفاييف إلى المركز ليقود ما يعرف بالأممية الشيوعية «الكومنترن» بهدف السيطرة على أحزاب الاشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين في أوروبا، وهي المهمة التي أداها بكفاءة عالية قبل مجيء ستالين الذي بات الديكتاتور الأوحد بعد موت لينين، إذ أمر الزعيم الجديد بإعدام زينوفاييف مع آخرين من كبار البلاشفة بتهمة الخيانة.
وبعد أن استفاد من خبرة زينوفاييف في التعامل مع مسلمي روسيا، قرر لينين أن خدعة «التربية والإقناع» لن تجدي نفعاً مع شعوب لطالما ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بدينها ونمط حياتها التقليدي. كان مبعوث لينين الثاني ميخائيل فرونيز مصمماً على كسب ود مسلمي روسيا بالقوة، لا عن طريق الإقناع. وعندما تمردت قبائل كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان على النظام البلشفي القديم، لم يطلب فرونز المزيد من المعلمين الآيديولوجيين، بل طلب المزيد من الأسلحة والطائرات لقصف المتمردين. فأرسل إليه لينين برقية مختصرة قال فيها: «اقتل رجالهم، صادر ماشيتهم، قُد نساءهم وأطفالهم وسر بهم عبر الحدود».
فعل فرونز ذلك وبحماس زائد ليكتب أحد أسوأ فصول التاريخ السوفياتي وأكثرها قتامة، وهو ما تذكره دول آسيا الوسطى باسم «خريف الأحزان». مات فرونز بعد لينين بعام، أي قبل أن يتمكن ستالين أيضاً من قتله.
كان للثورة البلشفية بعض أنصارها البارزين بين المثقفين المسلمين في القوقاز ووسط آسيا. من أكثرهم شهرة سلطان غالييف، التتاري الذي عرف باسم «لينين المسلم». كان غالييف دعائياً لامعاً يتمتع بكاريزما واضحة، وكان يحظى بمكانة كبيرة وسط القيادة البلشفية، لدرجة أنه كان أحد من حملوا نعش لينين. فقد أراد غالييف ثورة شيوعية واضحة في المناطق الإسلامية من الإمبراطورية الروسية. وكانت أفكاره مصدر إلهام لأحداث مهمة مثل «حرق البراقع» و«حلق اللحى الجماعي» في مناطق التتار وباشكير وأوزبكستان.
سعى مثقفون مسلمون آخرون إلى طرق للوصول إلى نسخة شيوعية يمكن أن تلتقي مع بعض أوجه تعاليم الدين الإسلامي. وشدد هؤلاء على أهمية التعليم والمساواة بين الرجال والنساء وقبول التنوع الثقافي. كان أكثرهم عبقرية صدر الدين عيني وعبد الرؤوف فترات. غير أن تأثير الثورة البلشفية احتاج عقوداً كي يترك أثره في العالم الإسلامي، وجاء ذلك مع تأسيس الأحزاب الشيوعية في إيران وتركيا وبلدان عربية. وفي حقبة الخمسينات، أصبحت الشيوعية جانباً مهماً من جوانب الحياة، وشكلت صرعة جديدة أشبه بالموضة في الحياة السياسية والثقافية في الشرق الأوسط، وبين المسلمين في شبه القارة الهندية وإندونيسيا.
بيد أنه كان هناك العديد من النشطاء الإسلاميين البارزين الذين رأوا في كلمة شيوعية بصفة عامة وفي تعاليم لينين كُفراً بيناً، لكن في الوقت نفسه كان منهم من أقروا بأنهم نهلوا الكثير من أفكاره. فمثلاً حسن البنا، المدرس الذي أسس جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، أقر بأنه تعلم الكثير من أفكار لينين. وكذلك فعل سيد قطب، المنظر البارز للجماعة نفسها الذي سار في كتابه «معالم في الطريق» على نهج لينين في كتابه «ما العمل؟». وذكر الزعيم الديني السياسي الباكستاني أبو الأعلى المودودي أنه لا يعارض أن يلقب بـ«تلميذ» لينين «عندما يتعلق الأمر بدور الطلائع في إعادة صياغة المجتمع».
وليس سراً أن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي من أشد المعجبين بلينين. وفي اختيار غريب للتوقيت، كرر خامنئي في حديث جرى الشهر الماضي، حكاية لينين عن «متسلقي الجبال» كلمة بكلمة. لكن على نطاق أوسع، لم يبد العالم الإسلامي ترحيباً بالشيوعية، كما اتضح من سحق حكوماته لمروجي آيديولوجيتها ونبذ شعوبه لهم.