إيشيغورو... موهبة التنقيب في منعطفات التاريخ الغامضة

كل أعماله تبدو مجرد تحضير لروايته الأخيرة «المارد المدفون»

إيشيغورو - غلاف رواية «المارد المدفون»
إيشيغورو - غلاف رواية «المارد المدفون»
TT

إيشيغورو... موهبة التنقيب في منعطفات التاريخ الغامضة

إيشيغورو - غلاف رواية «المارد المدفون»
إيشيغورو - غلاف رواية «المارد المدفون»

لا تُكسِبُ الجوائز الأدبيّة - مهما بلغت قيمتها - الشرعيّةَ لكاتب كي يُتوّجَ روائياً في ضمير القرّاء قبل أن يمتلك صوته الخاص، ويستكمل خلق عالمه الموازي. لكن تلك مهمة ليست بالسهلة، فصنعة الرواية مستعصيّة إلا على قلائل كأنّ بهم مس من جن، ويغلب أن تأكل من أعمارهم عقوداً قبل أن يمتلكوها أو هم يقضون دونها. الأكاديميّة السويديّة وكأنها انتظرت البريطاني (الياباني الأصل) كازو إيشيغورو لحين تراصفت ألوان صوته، وصار عالمه مكتمل الأركان قادراً على الوقوف على قدميه خارج الورق ككونٍ بديل، لتمنحه تكريمها الأرفع في دنيا الأدب: نوبل لعام 2017.
روايته الأخيرة «المارد المدفون» (2015) كانت إيذاناً بهذا الاستحقاق: فمن خلالها، وبعد أن راوغته تلافيفها لعشر سنين، امتلك الرّجل الصوت، واكتمل العالم الذي بنى، فكان له أن يستريح في روايته السابعة، ويصعد منها على أدراج الأكاديميّة إلى رحاب بارثينون الروائيين الخالدين.
وعلى الرغم من أن الأمينة العامة للأكاديميّة وصفت نصوص إيشيغورو «وكأنها خليط من جين أوستن وفرانز كافكا مع قليل من مارسيل بروست»، فإنها في الحقيقة كانت تبذل غاية جهدها لوصف ملمسِ صوتٍ غدا بعد أن دفن «المارد» متفرداً لا يشبه أحداً على وجه الخصوص.
الصيغةُ الأكثر اقتراباً من روح إيشيغورو هي رؤية غرامشي للأزمنة عندما تتقلّب في لحظات التاريخ المفصليّة: شخصية العابر الوحيد الذي يتجوّل عبر مشاهد الحياة متمهلاً ليرى العالم وهو يولد بعد موت عنيف، فتختلط عليه الأشياء بين العالم الذي مات، والآخر الذي لمّا يولد بعد، لنرى بينهما غيوماً ووحوشاً وتنانين. في «المارد المدفون» فارس وحصان وسهوب وعالم يموت وآخر لمّا يولد بعد، فكان لا بدّ للوحوش أن تظهر وللتنانين أن تملأ ضباب غموض اللحظة بأنفاس النار.
فارس إيشيغورو يشبه إيشيغورو نفسه: ففيه شيء من بقايا ساموراي ياباني مترفع قديم، وملمح من راعي بقرٍ أميركي غير عابئ بالعالم الملتبس من حوله بينما يسافر عبر السهوب التي لا تنتهي، متشرباً روح فروسيّة أرستقراطيّة ذبل زمانها، فكأنه دون كيشوت - فارس نبيل - يعيش خارج زمان الفروسيّة والنبل. لقد عثر إيشيغورو على ذاته في - شخصية السير غوين - فارس مائدة الملك آرثر المستديرة التائه بين الأسطورة والحقيقة، بين العبث والواجب، بين القصائد والمعارك. السير غوين كان عزفُ إيشيغورو الأكثر اكتمالاً على ثيمته التي طبعت أعماله بمجملها منذ نصّه الأول «مشهد شاحب من التلال» (1982)، فهو ابن لحظة تكوين هائلة، أغمض عنها التاريخ عيونه، فلم تنقل سجلاته الكثير عنها، لكنها أولدت العالم إنجلترا بكل عبقرية شخصيتها التي نعرف اليوم. كانت تلك أيام الجزيرة البريطانية لحظة غياب شمس العصر الروماني، وغزو الأنجلو ساكسون الأوروبيين الذين طهروها من سكانها البريطانيين الأصليين، وامتصوا البلاد وهويتها، وأعادوا تشكيلها: إنجلترا. إيشيغورو وجد في هذه اللحظة الملتسبة ساحته لقول ما يريد، وهو الباحث أبداً عن سحر الغموض في نقطة تقاطع التناقضات بين الذاكرة والنسيان، بين التاريخ والواقع، بين القديم والجديد. السير غوين بينما يسافر في الزّمان يلاقي بشراً ووحوشاً ويواجه فرساناً وتنانين، لكن السّرد عند إيشيغورو يكاد ينقلك من تلك الفانتازيا إلى واقعيّة من شهدَ لحظة الالتباس عندئذ، عندما كان كل شيء ممكناً ومحتملاً ومقبولاً.
ولأن «المارد المدفون» خرج من عالم إيشيغورو المكتمل الأركان، فإن لغته بدت أهدأ وأوضح وأقل تعنتاً من نصوصه الأخرى، فلم تعد به حاجة للكلمات كي يواصل مهمة الخلق.
إيشيغورو يجب أن يُقرأ من روايته الأخيرة، حيث إن أعماله الستة الأخرى، وهي كلها روايات مشغولة بدقة وأنفة وسطوع، تبدو مجرد تحضيرات للمارد المدفون، فلا تكتمل إلا في العمل السابع (نشر بعد «منظر شاحب من التلال»، ثم «فنان العالم العائم - 1986»، ثم «بقايا النهار - 1989»، ثم «من لا عزاء لهم - 1995»، ثم «عندما كنا أيتاماً - 2000»، ثم «لا تدعني أرحل البتة - 2005»).
عاش إيشيغورو في بريطانيا منذ كان في الخامسة، وسقط في غرام الروايات على يد شرلوك هولمز ورفيقه الدكتور واتسن بينما كان تلميذاً في المدرسة، ودرس الفلسفة والآداب في الجامعة قبل أن يُنجز ماجستيراً في الكتابة الإبداعيّة. ولقد أنجب أعماله كلها بلغة شكسبير، رغم اسمه الياباني الفاضح، لدرجة أنك بالكاد تجد يابانياً يعرف اسمه أو قرأ شيئاً من أعماله، حتى أن إحدى الصحف اليابانية الرئيسية عنونت متسائلة بعد إعلان الأكاديمية عن فوزه: «من هو كازو إيشيغورو؟».
هذه التنشئة، مع فضول روائي حار للتفاصيل والحكايات وانطباعات تكاد تُرى كلوحاتٍ تامةٍ للريف الإنجليزي دائم الخضرة في جل أعماله، كلها مكنت شاباً يحمل اسماً يابانياً من أن يخط أفضل رواية إنجليزية عن فسيفساء الحياة الأرستقراطية البريطانية في مرحلة ذبولها، فترة ما بين الحربين العالميين، بلغة العارف بالأمور (بقايا النهار)، وهي قصة تحولت فيلماً من بطولة النجم أنطوني هوبكنز، وصارت أشبه بشهادة حية عن تحول هام في الحياة الاجتماعية البريطانية، لم ينجح أحد تقريباً في التقاطه بهذه الحساسية المفرطة.
اليابان مع ذلك جزء لا يتجزأ من تركيبة إيشيغورو؛ إنه يتحدث بحب عن كتب الأطفال الجميلة التي كان يرسلها له جده من هناك، ويقارنها بكتب الأطفال الإنجليزية الرمادية الباهتة، وأمه إحدى الناجيات من القنبلة الأميركية الغادرة على ناغازاكي في نهاية الحرب العالمّة الثانية، فتشرب أجواء لحظة الموت الجماعي غير المفهوم تلك وما بعدها، لتتحول فكرة كيف يستوعب البشر مثل تلك الأحداث المزلزلة، وكيف يتذكرونها، إلى شغفٍ دائمٍ وهاجسٍ مقيمٍ في كل ما يكتب.
لا يدلك إيشيغورو في رواياته على ما يجب أن تتذكره، ولا يقول لك حتى كيف كانت «الحقيقة» وقتها، لكنه يشير عليك بما يجب أن تنساه، ربما كي يكون بمقدورك الاستمرار بالعيش، وتتذكر الأشياء كما تريدها أن تكون. إيشيغورو ليس عابثاً، رغم كآبته الكافكاوية العميقة، لكنك بالتأكيد تغلق الصفحة الأخيرة من كل رواية له وأنت مصاب بحَيْرَةٍ إضافيةٍ، وليس في جعبتك أي جواب محدد على عشرات الأسئلة المعلقة في فضاء النص، تماماً كما الخواء الذي يصفه بينما يرسم لنا صورة العالم. إنه يستكشف مشاعر لحظة التشارك في الموت بين الضحايا، وألق القيامات بين الناجين، لكنه أيضاً يتفهم نوازع القاتل. فالبشر هم نتاج تنشئة قبائلية المزاج، تجعلهم يمتلكون ناصية الحقيقة كما تراها القبيلة، وتدفعهم للقتل كأداء للواجب تجاه وطن موهوم مشغول من نوستالجيات الطفولة المخدوعة.
كل رواية لإيشيغورو تجربة جديدة في الأشكال الأدبية، حتى يصعب أحياناً على تجار الكتب تصنيفه. فهو يكتب فانتازيا واقعيّة، أو ديستوبيا مسليّة، أو واقعاً موهوماً، أو خيالاً علمياً تتساقط من ثناياه المشاعر البدائية، أو تاريخاً يتطلع للمستقبل، أو حاضراً كأنه ماضٍ ما زال يحدث إلى الآن. هذه التجارب كلها يوحدها النفس الإيشيغوروي المتأني، عميق الشعور لكن الممتنع عن إظهار العواطف المبتذلة، تماشياً مع ثقافتيه اليابانية والإنجليزية معاً.
ورغم أن ثيمة إيشيغورو هي علاقة الناس بتاريخهم، وبحث أركيولوجي في ذاكرتهم، فإنه تجنب دائماً مساحات الزمن المعروف، ولجأ إلى منعطفات التاريخ الغامضة التي لا تشبه أحداً، لكنها تشبه الجميع. هناك يسرد حكاياته بتمهلٍ في بقعة زمنيّة مستعارة دون أن يصادره أحد.
نوبل للآداب في حالة إيشيغورو لا تشبه تكريمات سابقة، مالت إلى ختم تجربة روائي آخر عظيم قبل تقاعده بثوانٍ. إيشيغورو بالكاد انتهى من خلق عالمه في «المارد المدفون»، وما الجائزة إلا تلميح بمواعيد ممكنة مقبلة على حدود التقاطع بين العوالم المتأزمة والأزمنة الحائرة والذكريات المشتبهة والانتماءات الملتبسة والأحزان التي هي أكبر من الحياة نفسها.



خالد النبوي يعوّل على غموض أحداث «سراب»

خالد النبوي ويسرا اللوزي مع المخرج أحمد خالد خلال التصوير (الشركة المنتجة)
خالد النبوي ويسرا اللوزي مع المخرج أحمد خالد خلال التصوير (الشركة المنتجة)
TT

خالد النبوي يعوّل على غموض أحداث «سراب»

خالد النبوي ويسرا اللوزي مع المخرج أحمد خالد خلال التصوير (الشركة المنتجة)
خالد النبوي ويسرا اللوزي مع المخرج أحمد خالد خلال التصوير (الشركة المنتجة)

في عودة للمسلسلات المأخوذة عن «فورمات» أجنبية، انطلق عرض مسلسل «سراب» المأخوذ عن رواية بعنوان «سبعة أنواع من الغموض» (Seven Types Of Ambiguity) للكاتب الأسترالي إليوت بيرلمان، التي حُوّلت مسلسلاً عُرض عام 2017، وحقّق نجاحاً لافتاً. وتدور أحداثه في قالبٍ من الغموض والإثارة، وهو ما يعوّل عليه بطل المسلسل المصري الفنان خالد النبوي، بمشاركة مجموعة كبيرة من الفنانين، من بينهم، يسرا اللوزي، ونجلاء بدر، ودياموند بوعبود، وأحمد مجدي، وهاني عادل، وأحمد وفيق، وإنجي المقدم، وسيناريو وحوار ورشة كتابة بإشراف المؤلف هشام هلال وإخراج أحمد خالد.

يؤدي خالد النبوي في المسلسل شخصية «طارق حسيب»، الذي يتمتّع بحاسة تجعله يتوقع الأحداث قبل تحقُّقها، في حين تجسد يسرا اللوزي دور زوجته «الطبيبة ملك». يفاجأ الزوجان باختفاء طفلهما زين (7 سنوات) من مدرسته، ورغم عودته سالماً لوالديه، تتكشف لهما وقائع صادمة كثيرة؛ مما يقلب حياتهما الهادئة رأساً على عقب.

المسلسل تعرضه منصة «TOD» القطرية حصرياً في 10 حلقات ابتداءً من الثلاثاء، وقد عُرضت 3 حلقات منه، وحظي باهتمام لافتٍ منذ بثّ الإعلان الرسمي له، الذي أثار حالة تشوّق كبيرة من متابعين عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمشاهدته.

وأكد المؤلف هشام هلال، أن «المسلسل المصري لا يُقدّم نسخة مطابقة للمسلسل الأسترالي، بل يقدم معالجة مصرية خالصة، بحيث لا يمكن المشاهد أن يشكك في كونها عملاً غير مصري»، لافتاً إلى تولّيه الإشراف على فريق من الكتابة يضمّ 5 مؤلفين هم، محمود حسن، ومحمود شكري، وخالد شكري، ودعاء حلمي، وبسنت علاء. منوهاً إلى أن «المسلسل الأسترالي دارت أحداثه في 6 حلقات، في حين يُقدّم العمل المصري في 10 حلقات لإضافة شخصيات جديدة لأن الموضوع يسمح بذلك»، حسب قوله.

بوستر المسلسل (الشركة المنتجة)

ويشير هلال إلى اختلاف طريقة السّرد الدرامي في الحلقات قائلاً: «اتبعنا أسلوباً غير سائدٍ في كتابة الأعمال الدرامية، لم يعتده المُتفرج المصري والعربي؛ إذ تتناول كلّ حلقة شخصية من الشخصيات التسع الرئيسية، في حين تجمعهم الحلقة العاشرة والأخيرة. كما أن المخرج أحمد خالد يُقدم أسلوباً مغايراً ينتقل خلاله بين الزمن الحالي والأزمنة السابقة التي وقعت فيها أحداث في المسلسل».

من جانبه، قال الناقد الفني محمد عبد الرحمن، لـ«الشرق الأوسط»: إن «الحلقات الثلاث الأولى من المسلسل تمتّعت بمستوى عالٍ من التّشويق، خصوصاً بعد العثور سريعاً على الطفل المفقود، بشكل يجعل علامات الاستفهام أكبر، وفي اتجاه غير معتادٍ درامياً، فبدلاً من السؤال عن مكان الطفل، بات البحث عمّا حدث في ماضي الأبطال للوصول إلى لحظة اختفائه».

الفنان أحمد مجدي خلال تصوير المسلسل (الشركة المنتجة)

ويرى عبد الرحمن أن أداء الممثلين في «سراب» جيّدٌ واحترافي، وأن خالد النبوي يقدم شخصية «طارق» بتركيزٍ واضح بجانب الاهتمام بتفاصيل الشخصيات نفسياً، وهو أمر يُحسب لورشة الكتابة بإشراف هشام هلال، وللمخرج أحمد خالد أيضاً، الذي حرص على توفير إيقاع سريع للأحداث، واستغلال كل أحجام الكادرات للتعبير الدرامي عن التفاصيل، مثل مشهد وصول «النبوي» إلى مقرّ عمله، وتقسيم جسده إلى كادرات تعكس ثراءه الشديد وثقته بنفسه.