مسيرات حاشدة تدعو لوحدة إسبانيا... وبوادر لنزع فتيل أزمة كاتالونيا

الحكومة والشركات تواصل ضغوطها الاقتصادية على الإقليم للعدول عن إعلان الانفصال

جانب من المظاهرات التي شهدتها شوارع مدريد أمس للمطالبة بوحدة إسبانيا (إ.ب.أ)
جانب من المظاهرات التي شهدتها شوارع مدريد أمس للمطالبة بوحدة إسبانيا (إ.ب.أ)
TT

مسيرات حاشدة تدعو لوحدة إسبانيا... وبوادر لنزع فتيل أزمة كاتالونيا

جانب من المظاهرات التي شهدتها شوارع مدريد أمس للمطالبة بوحدة إسبانيا (إ.ب.أ)
جانب من المظاهرات التي شهدتها شوارع مدريد أمس للمطالبة بوحدة إسبانيا (إ.ب.أ)

نزل آلاف المتظاهرين الإسبان، أمس، إلى الشوارع في أنحاء مدريد للدعوة إلى وحدة إسبانيا، والمطالبة بتحرك لحل الأزمة السياسية، على خلفية خطط الانفصاليين في كاتالونيا إعلان استقلال إقليمهم الغني.
وتحولت ساحة كولون، وسط مدريد، إلى بحر من الأعلام الإسبانية، مع مشاركة الآلاف في المسيرة «الوطنية» التي نظمها ناشطون دفاعاً عن وحدة إسبانيا. وتجمع مئات كذلك، ارتدوا جميعهم اللون الأبيض، في ميدان قريب خارج مبنى بلدية مدريد للدعوة إلى الحوار لإنهاء الأزمة، بينهم عائلات مع أطفالها.
وتأتي المسيرات عقب أيام من ارتفاع منسوب التوتر جراء الحملة الأمنية التي استهدفت الناخبين في الاستفتاء على استقلال كاتالونيا، الذي جرى في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وأفضى إلى تحذيرات من مسؤولي المنطقة بشأن إمكانية قيامهم بإعلان استقلال الإقليم بشكل أحادي خلال أيام.
وهتفت مجموعة من المتظاهرين الشباب الذين ساروا نحو ساحة كولون متوجهة إلى رئيس الحكومة ماريانو راخوي «راخوي يا جبان، دافع عن الوطن». فيما قال الكولونيل خاكوان بيناس (52 عاماً)، من فوج الفرسان، الذي كان يشارك في المظاهرة خارج أوقات عمله: «لقد وصل الوضع إلى نقطة تحول، وعلينا المشاركة بفاعلية في الدفاع عن قيم إسبانيا كأمة».
وأضاف الكولونيل الذي وضع العلم الإسباني على كتفيه أن إعلان استقلال كاتالونيا سيكون بمثابة «قطع إحدى ذراعي» إسبانيا، مشيراً إلى وجود «قلق بالغ» من عدم تحرك الحكومة لحل الأزمة، وأكد لوكالة الصحافة الفرنسية: «لا ثقة كبيرة لدي في الحكومة؛ إنها ليست حكومة استباقية... ولا يسع راخوي أن يكون قائداً. في الحقيقة إنه سيء للغاية».
وظهرت بوادر خلال الأيام الأخيرة تشير إلى مساعٍ محتملة يقوم بها الطرفان لنزع فتيل أسوأ أزمة تعصف بالبلاد منذ جيل، وذلك بعدما قدمت مدريد أول من أمس أول اعتذار للكاتالونيين الذين تعرضوا إلى إصابات جراء محاولة الشرطة منع الاستفتاء. لكن مع ذلك، لا تزال الضبابية تهيمن على البلاد، حيث لم يتراجع قادة كاتالونيا عن خططهم لإعلان استقلال المنطقة.
وفي ساحة سيبيليس، صفق المئات، ولوحوا بأيديهم في الهواء، في حشد انضمت إليه كثير من العائلات مع أطفالها، حتى الرضع بينهم، ولكن دون أن يرفعوا الأعلام.
تقول يورينا دياز، وهي طبيبة تبلغ من العمر 36 عاماً، إنها تتظاهر «ليجري حوار قبل أن نضيع أنفسنا، نتظاهر لكي يجلسوا ويتحدثوا معاً... لا يزال هناك كثير من التوتر والعنف الذي يزداد سوءا في كل مرة... لقد أثار ذلك كثيراً من المخاوف، والوضع خطير».
وتعهد راخوي بمنع أي تحرك نحو الاستقلال، ورفض جميع دعوات الوساطة في النزاع الذي أثار القلق في كل أنحاء إسبانيا، بما في ذلك في صفوف لاعبي كرة القدم من فريقي برشلونة وريال مدريد.
وفي المقابل، قال جوردي كوتكشارت، رئيس إحدى المجموعات المؤيدة للاستقلال، عبر إذاعة كاتالونيا: «يجب أن يكون هناك التزام تجاه الحوار، ولن نرفض ذلك على الإطلاق، لكننا سنظل نطالب بالالتزام بتنفيذ قانون الاستفتاء».
وأثارت هذه الأزمة مخاوف من وقوع اضطرابات في المنطقة التي تعد نقطة جذب للسياح، وتضم 7.5 مليون شخص، كما تساهم بخمس الاقتصاد الإسباني.
وفيما دعا معارضو الاستقلال إلى مظاهرات في أنحاء إسبانيا أمس، وفي برشلونة اليوم، دعت مجموعة أخرى تدعى «فلنتحاور» المواطنين إلى التجمع بلباس أبيض أمام البلديات للمطالبة بالحوار، بهدف إنهاء الأزمة تحت شعار «إسبانيا أفضل من حكامها».
وشهد أول من أمس أولى البوادر التي تشير إلى أن الطرفين على استعداد للابتعاد عن شفير نزاع سياسي قد ينعكس على الاستقرار في أوروبا برمتها. فبعد أيام على السجالات الحادة بين الطرفين، أعربت مدريد عن أسفها جراء الإصابات التي تسببت بها الحملة الأمنية في الأول من أكتوبر، واقترحت أن تجري كاتالونيا انتخابات إقليمية لحل الأزمة، وقال ممثل حكومة إسبانيا في كاتالونيا إنريكي ميو: «لا يسعني سوى التعبير عن أسفي، وتقديم اعتذاري نيابة عن العناصر الذين تدخلوا».
إلا أن الشركات والحكومة واصلت ضغوطها الاقتصادية على كاتالونيا، حيث أعلنت عدة شركات كبرى أنها تنوي نقل مقارها إلى أنحاء أخرى من إسبانيا. أما رئيس إقليم كاتالونيا كارليس بوتشيمون، فكان سيلقي كلمة أمام برلمان الإقليم غداً الاثنين، إلا أنه أرجأها ليوم واحد.
ورغم أنه لم يتضح مضمون خطابه، فإن بعض المسؤولين أعربوا عن أملهم في أن يستغل الفرصة لإعلان الاستقلال.
وانتهت أول من أمس جلسة استماع في المحكمة إلى زعيمي حركتين انفصاليتين بارزتين في كاتالونيا، وقائد شرطة الإقليم جوزب لويس ترابيرو، لكن دون توقيفهم على خلفية اتهامات بإثارة الفتنة.
وفي حال أعلنت كاتالونيا استقلالها، فبإمكان مدريد الرد عبر تعليق الوضع الحالي للإقليم، كمنطقة حكم ذاتي، وفرض سلطتها عليها بشكل مباشر.
وتشير استطلاعات صدرت أخيراً إلى أن الكاتالونيين منقسمون بشأن الاستقلال، رغم أن القادة أفادوا بأن العنف الذي وقع أثناء الاستفتاء زاد من حجم المعارضة للسلطات المركزية.
وتعود مطالبات كاتالونيا، التي لديها لغتها وتقاليدها الخاصة بها، إلى قرون، إلا أنها كثفت خلال الأعوام الأخيرة الماضية على خلفية الأزمة الاقتصادية.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟