ما زلت منزعجاً بعض الشيء من تعليق سمعته من شخصية غربية بأن «عالمكم العربي في حاجة إلى ثورة تنوير كالتي كانت في أوروبا في القرن الثامن عشر لأسباب ترتبط بالواقع والتاريخ العربي»، ويقصد هنا بعصر التنوير الزمن الذي انتشرت فيه الأفكار التي تدعو إلى العلم والعقل والفكر كوسائل للتطور وحدها دون أي بُعد آخر خصوصاً الدين. وحقيقة الأمر أنني أختلف مع هذا الطرح إلى حد كبير لاعتقادي أن ثورة عصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر لا يمكن تناولها بمعزل عن التطور الفكري والمجتمعي الأوروبي قبل اندلاعها، وبالتالي الحاجة إلى العودة للقرون التي سبقت هذا العصر هناك والتي كانت مختلفة عن التاريخ العربي - الإسلامي.
حقيقة الأمر أن العالم الإسلامي أو العربي لم يتعرض للضغوط الفكرية والعلمية التي تعرض لها المجتمع الأوروبي في القرون المظلمة حتى عصر النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فلقد كان هذا زمناً مُظلماً، حتى إن المؤرخين أطلقوا عليه «العصور المظلمة» لضعف حركة الفكر والعلم والعلوم داخل المجتمعات الأوروبية والتي كانت في حالة ركود وتخلف علمي وفكري وثقافي، بينما العكس كان سائداً في العالم العربي والإسلامي، حيث كنا نعيش فترة «التنوير العلمي»، إن جاز لنا استخدام هذا التعبير، بعدما تفجرت ينابيع العلم والمعرفة والفكر والفلسفة في أحضان ابن رشد وابن سينا والرازي وابن النفيس، إلخ... وذلك دون معارضة تُذكر لا من الإسلام أو الدولة.
أما في الحالة الأوروبية فلم يكن هناك أي اهتمام بالعلوم أو الظواهر الطبيعية، فالعلم الأساسي السائد آنذاك كان «الثيولوجيا» أو «علوم اللاهوت» تحت رعاية الكنيسة الكاثوليكية، وكانت الحجة الأبدية التي برر بها رجال الدين هذا الأمر أن حياة الفرد ليست بحاجة إلى مثل هذه العلوم، ومن ثم وجب التركيز على العلوم اللاهوتية المستقاة من العهدين القديم والجديد وفكر مؤسسي الكنيسة لأنها تمثل المدخل الطبيعي للإنسان إلى الحياة الأبدية، فلماذا الاهتمام بالعلوم والإنسان روحه على المحك ما بين الجنة والنار في الحياة التالية، ولم تحاول السلطات العلمانية (الملوك والأمراء) التدخل في هذه الأطروحة لحاجتهم إلى الكنيسة لفرض الطاعة على الرعية، وبالتالي وقع المواطن الأوروبي المسكين آنذاك في براثن الخوف غير المبرر من قبل الكنيسة والطاعة السياسية المطلقة للحكام، ولم يخرج من هذه المعادلة إلا بعد حركة الإصلاح الديني في أوروبا في مطلع القرن السادس عشر والتي ضربت نفوذ الكنيسة تماماً خلال الحقب التالية.
وتحت ظلال هذه الخلفية العقيمة من لم يلتزم بها فإنه كان معرضاً لوضع كتبه في «قائمة الكتب الممنوعة» التي ترعاها الكنيسة في روما وتحرقها والمحاكمة بتهمة الهرطقة أو الكفر على أيدي محاكم التفتيش، والتي كانت عقوبتها الموت حرقاً في مناسبات كثيرة، لذلك لم يكن مستغرباً بداية الثورة العلمية الأوروبية مع عصر النهضة، وتمثلت في ملاحظات «ليوناردو دا فينشي» التي فتحت الشهية للعلوم، فكانت ثورة العالم الفلكي «كوبرنيكوس» بمثابة الزلزال الذي حدث لهذه المنظومة الفكرية الهزلية عندما أثبت أن الأرض تدور حول الشمس، منافياً بذلك الفكر «البطالسي» الذي استندت إليه الكنيسة علمياً لتأكيد أن الشمس تدور حول الأرض لاتفاق ذلك مع تفسيراتها للكتاب المقدس، وعندما بدأ الفضول العلمي في القارة وأيد العالم الشهير «جاليليو» هذه الأطروحة تمت محاكمته وفرضت عليه الكنيسة سحب آرائه على الملأ (علماً بأن الكنيسة قدمت اعتذاراً رسمياً له بعد مرور قرابة ثلاثمائة وخمسين سنة بعد هذه المحاكمة)، ومع ثورة الإصلاح الديني وكسر شوكة الكنيسة ومعها هذه المنظومة بدأت حركة العلم تتحرك للأمام في أوروبا ولم تتوقف إلى اليوم، فانتشرت وتطورت أفرع العلوم على أسس تجريبية في مجالات الطب والفيزياء والكيمياء والبصريات، إلخ... وانتشر في أوروبا علماء مثل «لافوازيي» و«بويل» وجيلبير» «ونيوتن» «وبراه» وغيرهم، فقادوا أوروبا إلى ثورة علمية بدأت بعدها تظهر حركة التنوير في فرنسا ثم قامت على أكتافها الثورة الصناعية الأولى ثم الثانية.
ولو أمعنا التدقيق في هذه الخلفية التعيسة للعلم والعلماء والتي بررت ميلاد عصر التنوير ضد الكنيسة والدين معاً، فإن مقولة الغربي تتهاوى جذورها أمام البحث المقارن، ففي التاريخ الإسلامي لم تكن هناك حركة ممنهجة تحت رعاية دينية بدعم من الدولة تدعو إلى قتل أو حرق أي عالم منشغل بالطب أو الفيزياء أو الفلك، إالخ... بل العكس هو الصحيح فالدين الإسلامي بريء تماماً من دم أي عالم تجريبي أو حتى اضطهاده بسبب تجاربه، ومع ذلك فلا ننكر تعرض بعض المفكرين أو المدارس الفكرية لنوع من العنف من قبل دول إسلامية منهم المعتزلة إلى أن أعلن الخليفة المأمون تأييده لمبادئهم، ولكنها لم تدم فترات زمنية طويلة، اللهم إلا للحالات التي كانت موجهة ضد حركات تكفيرية كالزندقة، وهو ما يبرر النهضة الإسلامية العلمية الواسعة آنذاك، لذلك فإن مجال مقارنة الخلفية الإسلامية بالخلفية الأوروبية قبيل ظهور حركة التنوير في الأخيرة تكون باطلة تماماً، أما أطروحة أن العرب بحاجة إلى حركة تنوير فللحديث بقية.
حركة العلم والعلوم قبل عصر التنوير في أوروبا
حركة العلم والعلوم قبل عصر التنوير في أوروبا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة