ظاهرة «الذئاب المنفردة»... بدأت غربية ثم استلهمها «القاعدة» و«داعش»

من بين أخطر المعضلات التي تقابل القائمين على مواجهة الإرهاب حول العالم كافة، وفي أوروبا وأميركا بنوع خاص؛ تأتي إشكالية حديثة العهد نسبياً، تلك التي أطلق عليها لقب «الذئاب المنفردة» أو «الذئاب الوحيدة»، وهي في واقع الأمر جزء من خريطة أوسع لما يعرف بـ«الخلايا النائمة» تلك التي تستخدمها التنظيمات المتطرفة لتنفيذ عمليات في أماكن بعيدة عنها لأهداف بعينها.
المؤكد أن الحديث عن «الذئاب المنفردة» يقتضي طرح العديد من التساؤلات، في المقدمة منها: «هل المنظمات الإرهابية التي ملأت العالم مؤخراً رعباً وهلعاً تقر بوجودها؟ وإن كان ذلك كذلك فكيف ولماذا؟».
في سياق البحث لأجل تأصيل تلك الظاهرة، تقابل الباحثَ ورقةٌ صادرةٌ عما يعرف بـ«الجبهة الإعلامية لنصرة الدولة الإسلامية» فرع «مؤسسة الخلافة الإعلامية»، والورقة لكاتبها الذي يتخذ اسماً حركياً «حامل البشرى».
يذهب التحليل إلى أن عمل المتطرفين - على حد وصفهم - (الأبطال)، في دول الغرب والشرق من «ضرب لأئمة الكفر، ومن تولاهم، وأعانهم على قتال المسلمين»، هو (في عين الغرب) إرهاب فردي، وبالأصح «ذئاب المدينة المتمردين على أئمة الكفر وجنودهم».
لكن هؤلاء (في أعين المتشددين) يتمثل فيهم قول الله تعالى: «فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك» (سورة النساء 84).
والشاهد أن تحليل النص هنا يأخذنا إلى يقين باعتقاد هؤلاء أن ما يقومون به هو «عبادة عظيمة يتقربون بها إلى الله من قتل لأئمة الكفر وجنودهم، ومن والاهم، ومن كفر بالله مدنياً كان أو عسكرياً، فهم سواء، وأن لهم سلفاً في ذلك».
في الورقة عينها تفسير للنشأة الآيديولوجية (إن جاز التعبير) لفكر الذئاب المنفردة (THE LONE WOLVES). وهي تنطلق من أن ظلم الغرب الكافر الواقع على المسلمين، هو السبب، سواء جرى ذلك في بلاد الغرب أو في بلاد المسلمين. ويلاحظ في كل الأحوال محاولات تسخير صحيح الدين ليكون مطية تساعدهم على تحقيق أغراضهم، وهنا يستخدمون الآية القرآنية الكريمة «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» (سورة البقرة 194).
- «الذئاب المنفردة» مفهوم غربي
يكشف البحث عن ظاهرة «الذئاب المنفردة» مفاهيم ووقائع مثيرة للغاية، منها أن أصل الظاهرة غربي، وليس عربياً أو إسلامياً، والعهدة هنا على الراوي الباحث الدكتور محمود البازي، الذي يقدم لنا بحثاً قيماً جداً تحت عنوان «الذئاب المنفردة... الملاذ الأخير لداعش».
يخبرنا أن مصطلح «الذئب الوحيد» أو «الذئب المنفرد»، «قد شاع عام 1990 حين دعا العنصريان الأميركيان ألكس كيرتس وتوم متذغر، الخلايا الفردية والصغيرة، إلى العمل تحت الأرض، وبسرية تامة، بدلاً من العمل كمنظمات كبيرة فوق الأرض تعمل وتنشر الإرهاب».
ومنذ عام 1990 ظهرت في الولايات المتحدة هجمات عنصرية تقوم بها هذه المجموعات بصفة منفردة، ومن دون هرم تنظيمي، حيث دعوا إلى القبض على غير البيض بكل الوسائل المتاحة، والترويج للاغتيال، وحثوا مناصريهم على القول عند القبض عليهم «ليس لدي ما أقول».
هل يعني حديث الباحث البازي، أننا في مواجهة لظاهرة غربية الأصل قد تكون لها جذور ما ورائية وليست ظاهرة إسلامية جديدة؟
الشاهد أن هناك عدة حوادث جرت بها المقادير في أميركا وأوروبا تحمل بصمات واضحة لـ«ذئاب منفردة» أنجلوساكسونيين بروتستانت لا مسلمين.
من عينة ذلك ما جرى في فبراير (شباط) 1992، عندما أطلق الشرطي جيمس آلن مور النار على ثلاثة رجال كاثوليك قرب المكتب الرئيسي لحزب «نحن أنفسنا» في بلفاست، وهو حزب سياسي جمهوري يدعو إلى توحيد آيرلندا.
في الطريق عينه سار الطبيب اليهودي الإرهابي باروخ غولدشتاين، ففي 25 فبراير 1994 فتح نيران سلاحه الرشاش داخل الحرم الإبراهيمي في الخليل بفلسطين، فأوقع 29 شخصاً وأصاب 150 آخرين. ولعل أسوأ حادثة في تاريخ «الذئاب المنفردة» عرفها العالم كانت تفجير المبنى الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما الأميركية في 19 أبريل (نيسان) من عام 1995، حين أقدم الشاب الأميركي تيموثي ماكفاي على قيادة شاحنة محملة بالمتفجرات للانتقام من الحكومة الأميركية، وأدت حادثة أوكلاهوما إلى وفاة 168 شخصاً وإصابة نحو 680 آخرين.
وفي عام 2011 ارتكب المدعو أندرس بهرنغ بريفيك أخطر عمل إرهابي يمكن لأحد أن يقوم به، عندما قتل ما لا يقل عن 85 شاباً في جزيرة أوتويا في النرويج، رغم أنه يعرف نفسه بأنه «مسيحي علماني سيطر عليه التعصب الديني والعنصرية وخيالات الحروب الصليبية».
- «القاعدة» قبل «داعش»
والثابت أن الحديث عن علاقة الولايات المتحدة الأميركية بحركات الإسلام السياسي ثم «القاعدة» في أفغانستان، قد سال من جرائها حبر كثير على الأوراق طوال العقدين الماضيين، وقد كانت «داعش» بدورها إفرازاً جديداً نما وازدهر من حضن «القاعدة»، ولهذا فإن علامة الاستفهام المطروحة هنا: «هل كانت (الذئاب المنفردة) نهجاً قاعدياً قبل أن يكون داعشياً؟».
يمكن أن يكون هذا كذلك مرة أخرى قولاً وفعلاً. الذين قدر لهم الاطلاع على الكتيب الواقع في نحو 62 صفحة، الذي يقدم الوصايا والأوامر السرية لـ«الذئاب الداعشية المنفردة» يدرك تمام الإدراك، وكما تشير إلى ذلك صحيفة «الديلي تليغراف» البريطانية، أن العمل الفكري هذا صدر عن «القاعدة» أولاً، ثم لاحقاً تبناه «داعش»، وترجمه إلى الإنجليزية، ليصل لأتباعه ومريديه حول العالم.
والمثير أن ما جاء في الكتيب يتفق في الشكل والمضمون مع «منشورات الخلافة الإعلامية»، ومن أهم تلك التوجيهات «الابتعاد قدر المستطاع عن الأماكن التي كانوا يقطنون بها سابقاً بعد تنفيذ عملياتهم الإرهابية، واجتناب المحادثات الهاتفية قبل وبعد العمل، وعدم استخدام الوثائق الأصلية في الأعمال، والحذر من ترك البصمات، عطفاً على تغطية الوجه ووضع خطة للانسحاب قبل التفكير في بدء العمل، كي يزداد غيظ الكفار»، ناهيك بوصايا من عينة «الانتقال المباشر من ولاية لأخرى، أو مدينة لأخرى». ولإحداث أكبر ضرر بالآخرين جاء في الكتيب المشار إليه سلفاً: «تلفحوا بأحزمتكم ولا تكونوا لقمة سائغة لهم، فلا تقتلوا إلا ومعكم قتلتكم، واجتنبوا العدد الكبير في أعمالكم تلك التي تسبب صعوبة في الانسحاب».
هنا فإن التعليمات تخص العمليات وما بعدها، غير أن هناك توجيهات أخرى سابقة بها إمعان في التنكر والمراوغة من عينة «احلقوا لحاكم وارتدوا الملابس الغربية واستخدموا العطور العامة والعادية التي تحتوي الكحل، وشفروا هواتفكم». ومن تعليمات الكتيب عينه أن «أي (ذئب منفرد) يجب أن يحاول الانصهار والاندماج في المجتمع المحلي، بحيث لا يبدو مثل المسلمين، وهذا بارتداء ملابس غربية، وكذلك عدم الصلاة في المساجد بشكل منتظم».
ويوصي واضع الكتيب، «الذئاب المنفردة»، بأن «حاولوا أن تكونوا دائماً مثل أي سائح عادي أو مسافر تقليدي، وحاولوا أن تكون ألوان الملابس متناسقة، فارتداء القميص الأحمر أو الأصفر مع البنطال الأسود يجعلكم موضع شبهة، ولا داعي لأن ترتدوا ملابس جديدة لأن ذلك قد يثير الشبهات، والبعض من الإخوة يميلون إلى شراء ملابس جديدة بالكامل، وهذا يجلب انتباه الآخرين وبقوة».
يعنُّ لنا في هذا السياق طرح علامة استفهام دون تقديم جواب لها: «هل يمكن أن يكون واضعو مثل هذا الكتيب عناصر جهادية مبتدئة، أو متطوعين مدفوعين برغبات عاطفية أو شطحات قتالية، أم أن وراءها عقولاً لها خبراتها الطويلة في عوالم وعواصم الاستخبارات الدولية، وتجيد فنون التنكر والقتال، ولديها خطوط طول وعرض لاستراتيجيات الإرهاب المنظم والمعولم، لا العمل العشوائي الذي يكشف عن نفسه قبل حتى أن يبدأ؟».
- الطريق إلى التجنيد... كيف ومن؟
ولعل السؤال المهم والحيوي، مهما كان من أمر العقول التي تقف وراء «الذئاب المنفردة» فكرياً وعملياتياً هو: «كيف لهؤلاء وأولئك استجلاب عناصر جديدة على الرغم من بعد المسافات أولاً، وما سمات المرشحين ثانياً؟».
المؤكد أن إشكالية بعد المسافات واتساعها لم تعد قضية كبرى، أو عقبة كؤود في طريق التواصل، فقد قربت وسائط الاتصال الاجتماعي والتكنولوجي الحديثة، المسافات الجغرافية، لا سيما الهواتف الفضائية المتصلة بالأقمار الاصطناعية، ما يمكن تلك الخلايا من الهروب من الرقابة الصارمة عليها من قبل الحكومات والمؤسسات الاستخبارتية. وفي الأعم الأغلب يتم جذب وتجنيد عناصر «الذئاب المنفردة» من خلال الشبكة العنكبوتية، وهناك دراسات تشير إلى أن تنظيم داعش يمتلك على شبكة الإنترنت في حاضرات أيامنا ما يزيد على 90 ألف صفحة موزعة بين «فيسبوك» و«تويتر» باللغة العربية، عطفاً على 40 ألف صفحة بلغات أخرى بما يوسع من قدرات «التنظيم» على شن هجمات دون أن تتمكن الأجهزة الغربية من تتبع حركتهم.
والمقطوع به أن «الخلايا الفردية» أو «الذئاب الوحيدة»، كما يسميها مكتب التحقيقات الاتحادية الأميركي (إف بي آي)، عادة ما تكون أكثر صعوبة في متابعتها، رغم إجراءات المراقبة البشرية والتقنية، وهي تمثل تحدياً للاستخبارات أكثر من شبكات العمل على الأرض، لأن الأخيرة ممكن أن توفر لها بعض المعلومات والحقائق من خلال المراقبة والمتابعة، لكن الجماعات والأفراد المتطرفين فكرياً ينمون ويزدهرون يوماً تلو الآخر، وراء أفكار وقناعات تتشظى بشكل سريع بما يصعب السيطرة عليها بأدوات الحرب التقليدية، ولعل هذا يفسر تصريحات مدير مكتب التحقيقات الاتحادية السابق جيمس كومي، أن «تنظيم داعش يستطيع أن يحشد الآلاف من الأتباع عبر الإنترنت داخل الولايات المتحدة الأميركية فقط»، وعليه فما بالنا ببقية أرجاء العالم، وأوروبا في المقدمة، دون أن نوفر العالم العربي والإسلامي بنفسه.
أما عن المواصفات الشخصية لـ«الذئاب المنفردة»، فهذا حديث قائم بذاته، لكن باختصار غير مخل يمكن القول، إن أفضل عناصر يمكن لـ«داعش» تجنيدها هي تلك المصابة باضطرابات نفسية واجتماعية، ولديهم سجلات إجرامية.
غير أن المثير ظهور عناصر جديدة غير منضوية تحت أجنحة الفئات السابقة ما يجعل رصدها ووقف أو قطع الطريق عليها عملية شبه مستحيلة، وفي كل الأحوال تبقى استراتيجية «الذئاب المنفردة» كالتالي: «الإثخان في العدو، وتشتيته عبر العمل منفرداً من غير تنظيم كبير»، فالجيوش النظامية يصعب عليها مواجهة الحالات المتطرفة الشعبوية السائلة، لأنها تفقد قدرتها على التنبؤ والتوقع في هذه الحالة، كما تتشتت قدراتها الأمنية في متابعة كل هذه المجموعات المنفردة، وتكمن سياسة الأعمال الإرهابية المنفردة في شعار «انفروا فرقة من بعد فرقة ومجموعة بعد مجموعة».
على أن هناك توجهاً فكرياً جديداً يرى أن منظومة «الذئاب المنفردة» لا يمكن بحال من الأحوال فصلها عن سياق التوجهات الأكبر الصادرة عن قيادات «التنظيم».
أهم من أشار إلى هذا الواقع مؤخراً كان البروفسور جيتي كلاوسن، أستاذ التعاون الدولي في جامعة برندس، الذي يعمل في مركز الدراسات الأوروبية في جامعة هارفارد، في مقال له عبر مجلة «فورين آفيرز» الأميركية تحت عنوان «لا مزيد من الذئاب المنفردة»، وعنده أنه بعد سنوات من القلق مما يطلق عليه «الذئب المنفرد الإرهابي»، «اتضح أن الإرهابيين الخطرين حقاً لا يفترقون، فالتركيز العالي من الانتحاريين المستعدين للتفجير والقتل العشوائي في حي صغير واحد، يمكن فهمه عبر النظر إلى الخطر الإرهابي كفيروس اجتماعي ينتشر عبر عملية عدوى معقدة».
«الإرهابيون الخطيرون لا يفترقون»... هل من صحة لهذه المقولة؟ مؤكد أن حصول «الذئاب المنفردة» على التوجيهات المباشرة بات حقيقة واقعية كشفتها أحد إصدارات «التنظيم المتطرف» الذي حمل عنوان «استراتيجية الذئب المنفرد» لـ«أبو أنس الأندلسي» نشر في أغسطس (آب) 2015، وصف فيها الداعشي «محمد مراح» بـ«رائد عمليات الذئب المنفرد ومنفذ (غزوة تولوز المجيدة) في 11 مارس (آذار) 2012». وبحسب ما تكشف من خلال التحقيقات، «لم يكن (مراح) حقاً ذئباً منفرداً، وإنما هو منضم إلى إحدى الجماعات الأصولية المتطرفة التي أطلقت على نفسه اسم (جند الخليفة)».
الخلاصة نحن أمام «ذئاب منفردة إرهابية» بفعل إرادي غير ناتج عن الاتصال، فقط فعل ناتج عن دافع داخلي محض، و«ذئاب منفردة متفاعلة» بشكل وثيق مع جماعات إرهابية فرعية تتبنى المعتقدات المتطرفة نفسها، الأمر الذي يجعل السؤال «كيف الطريق للتعاطي مع هذه وتلك لتجنب أضرارهما؟».