ليست الرأسماليّة المتأخرة أمراً يتعلق بسيطرة الرأسمال الخاص على الحياة الاقتصاديّة فحسب، بل هي إطار كلّي ينظّم شروط حياة بشر المجتمعات المعاصرة في جوانبها كافة، وهي منذ استقرت كشكل مهيمن لإدارة عمليّة الإنتاج الاقتصادي، أفرزت ثقافة وعززت اجتماعاً وبنت مؤسسات سياسيّة وطرائق تفكير تعكس بشكل سافر أو متضمن هيكليّة تقاسم الوجود بين مالكين ومستخدمين، وفرضت على مشاعر البشر وإحساسهم بالحياة وبالذات أنماطاً تكرّس هيكلة التقاسم، بشكل أو بآخر.
هذا التقاسم الأفقي فرض على الأفراد الذين ينتمون بحكم واقعهم الاقتصادي إلى طبقة المستخدمين - مهما بلغ ثراؤهم - أن يلعبوا أدواراً متزامنة بما يخدم الهيكليّة القائمة: موظفين مطيعين لما يتطلبه منهم النظام، ومستهلكين دائمين في بحث مستمر لإرضاء حاجات حقيقيّة وموهومة. وقد تسبب ذلك، فيما يرى تريستام آدامز، في أن تحولت المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة إلى مصنع هائل للمرضى النفسيين (السيكوباثيين). فلكي يكسب الأفراد عيشهم اليومي من خلال الاستخدام لدى طبقة المالكين، فهم مضطرون لتمثيل أدوار غالباً ما تكون متعارضة مع شخصياتهم الحقيقيّة وطبائعهم الموروثة. فالكاتب الصحافي مثلاً يمكن أن يضطر للكتابة ضد قناعاته الذاتيّة، والوجوه التلفزيونيّة ترزح تحت ضغوط شديدة تتحكم بشكلها وطريقة لبسها وأدائها، بل وقد تجبرها بطريقة أو أخرى على مقاومة تقدم العمر من خلال عمليات التجميل الدورية حتى يكادوا يفقدون صور وجوهم التي ولدوا بها، كما المهن المرتبطة بخدمات العملاء التي تتطلب من شاغليها أن يكونوا قادرين على إظهار التعاطف، والتعامل الإيجابي مع «الزبائن». وبالطبع، فإن عدم الالتزام بما تتطلبه الوظيفة من أداء على مستوى المشاعر، قد ينتهي بالفرد إما إلى بالبطالة أو فقدان فرص التقدم الوظيفي على أحسن الأحوال. هذه السيطرة على مشاعر الفرد في مجتمع العمل المعاصر، يقول آدامز، تتسبب في إنتاج مجاميع هائلة من السيكوباثيين المرضى الذين يصبحون عرضة للاكتئاب والتوتر اليومي، ومن ثم الوقوع في براثن مضادات الاكتئاب، التي هي بدورها - وبمحض الصدفة - أحد أهم مصادر الرّبح للرأسمال في الاقتصادات الغربيّة.
وعلى الجانب الآخر من المعادلة، فإن متطلبات استمراريّة الاستهلاك، والخضوع للمنظومة السائدة، تفرض على الأفراد المشوهين نفسياً أصلاً بحكم موقعهم في علاقات الإنتاج أن يندرجوا في قناعات آيديولوجيّة تجعلهم يبحثون عن خلاص موهوم، من خلال عبادة الذات، وسعي فردي محض للوصول إلى حياة فضلى يرسمها النموذج الرأسمالي على نحو مثالي مفلتر يشعرهم بنقص دائم واحتياجات متلاحقة، يمكن نظرياً تحقيقها فقط من خلال مزيد من الاستهلاك. وهكذا، تكتمل الدائرة المرعبة، حيث إن هذا الأخير يتطلب حتماً دخلاً أفضل، وبالتالي خضوعاً أعمق لتكيفات المشاعر التي تستدعيها الرأسماليّة، ومزيداً من التشوه النفسي الذي يسهل إخضاع ذات الفرد إلى دائرة الاستهلاك العقيمة، فلا يخرج منها إلا بالموت المحتم.
عبادة الذات هذه أصبحت على يد الرأسماليّة بمثابة فعل إيمان غيبي أشبه بالأفيون الذي وصفه ماركس في مقولته الشهيرة عن أفيون الشعوب. لم يكن الأفيون حينها مخدراً يتسبب بالإدمان كما نعرفه اليوم، بل كان لمعاصريه كما عقار يخفف الألم، ويجعل من تجربة الوجود شيئاً يمكن احتماله. ولعل تجربة البشرية في العقد الأخير من خلال مواقع التواصل الاجتماعي - وبالذات من خلال ثقافة الصور الذاتيّة (سواء سيلفي أو فيديوهات) - تكشف وعلى نحو موثق الآن، لم يكن متاحاً أيام فرويد ويونغ أو حتى لاكان، عن مدى تفشي ظواهر التشوه النفسي هذه التي تسببت فيها الرأسمالية، لتتحول إلى وباء شامل يفتك بمعظم البشرية دون رحمة.
يقدر مراقبون أن موقع «إنستغرام» يستقبل كل دقيقة ما يزيد على 100 ألف صورة سيلفي، وضعفها على موقع «فيسبوك». ويقول الخبراء إن جزءاً أقل من هذه الصور يخدم أغراضاً إيجابية على نحو «شكراً يا أمي على هذه الهدية اللطيفة» و«ماما، نحن بخير ونقضي أوقاتاً جميلة هنا»، بينما أغلبها صور مفلترة لاستعراض نرجسي بائس، على درجات متنوعة وفق مقاييس المرض النفسي المعروف، يتضمن رسائل ذات مضمون جنسي عميق ينتمي إلى مشاعر الثدييات البدائية، كما طواويس تستعرض ريشها للإغواء، أو كواسر تتقاتل لجذب انتباه الإناث. التحاق الفرد في منافسة السيلفيات هذه لا تؤدي به إلى اكتساب الثقة بالذات، أو تحسين شعوره بقيمته الذاتية، بقدر ما يدفع به إلى بذل جهود استهلاكية متعاظمة، لضمان استمرارية السردية التي وضع نفسه - أو نفسها – بها، حتى إن دفعتهم للاستدانة أو التظاهر الكاذب، لا سيما أن المنافسة لا ترحم، سواء من الأقران والقرينات، أو حتى من النماذج «الكارديشيانية» التي يرّوج لها على نطاق واسع. فالنتيجة أن الفرد دائماً ينتهي إلى الاعتقاد أن المجتمع ناجح ومكتمل ومفتوح للصعود، بينما أن التقصير دائما منك - أيها الفرد - لأنك لا تبذل الجهد اللازم لتكون مؤهلاً لمجاراة الناجحين. الخطر من ذلك كله هو أن هذه الممارسة النرجسية قابلة للتصاعد إلى درجات أعلى من المرض مع تكرارها، ولأنها تؤثر غالباً سلباً على المحيط الاجتماعي. فلا شك أن مراهقة غرة ستظن أن سر نجاح تلك الممثلة أو هذا الوجه الإعلامي إنما هو نموذج هويتها المثالية المزعومة على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما على تطبيق «الإنستغرام»، وهي مثالية دائماً، فمن منا يجرأ على تعميم صورة سيئة له؟ فتتقمصها دون أن تدري، وتنتهي بها إلى تشوه نفسي أكبر، وضحيّة جاهزة لأن تفتك بها وتُخضعها المنظومة الرأسمالية. كما أن سلاسل السلفيات لا شكّ تضع ضغوطاً لا مبرر لها على الأفراد المشغولين بكسب العيش على أدنى مربوط الطبقة المسحوقة، وأولئك الذين لا يحسنون التعامل مع وسائل التكنولوجيا الحديثة، أو حتى الأغلبيّة الكبرى من البشر الذين لا يتمتعون بحسن الطلة، ولا يمتلكون مداخيل كافية لاستثمارها عند دجالي جراحة التجميل.
إن آيديولوجية الخلاص الفردي من خلال عبادة الذات ونوادي التكاذب المتصاعد - كما هي في عالم «الإنستغرام» والعوالم الأخرى الموازية - إنما تقرّ في أذهان الأكثريّة وهم إمكانيّة التغيير لوجود أفضل عبر الاستهلاك والخضوع، دون أي حراك جماعي أو تضامن طبقي يسمح بمواجهة حقيقية مع أسباب انعدام العدالة الاجتماعية في مجتمعاتنا المعاصرة.
ليس «الإنستغرام»، أو أي من مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، شيطانيّة بالمطلق، فإمكانياتها الإيجابيّة النظريّة هائلة، سواء في التواصل الإنساني أو اكتساب المعارف أو التنشئة الاجتماعيّة، لكن توظيفها من قبل القوى الرأسماليّة كما هي الآن يحولها إلى مصائد لاقتناص الأرواح الهائمة الباحثة عن معنى تجربة الوجود - التي لأجل أن تكون ثريّة للقلة ينبغي أن تكون بائسة للأكثريّة - فيقعون في هاوية لا نهائيّة تتلاعب بهم، بين نرجسيّة بائسة أو إحساس مقيم بالنقصان.
البؤس يجب ألا يكون قدر البشر. نعم، هناك عالم حقيقي أفضل ممكن خارج بلاد «الإنستغرام» في كوكب السيكوباث. لكنّ هذا العالم الممكن ربما لن يتحقق أبداً، ما دامت الرأسماليّة هي من يحدد شروط الحياة، وطرائق كسب العيش، وأساليب التعاطي مع أدوات التكنولوجيا الحديثة وفضائها الافتراضي المهول.
وبينما كنت تقرأ هذا المقال، هناك الآن ربما مليون صورة إضافية أخرى حملت على «الإنستغرام»، لكن العالم ما زال بائساً كما كان دائماً، بل ازداد قتامة، في حين تتكرس سلطة المهيمنين، ويزدحم الفضاء الافتراضي بمزيد من النرجسيّة والتيه.
6:37 دقيقة
جيل تائه في بلاد «الإنستغرام»
https://aawsat.com/home/article/1038636/%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AF-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%AA%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%85%C2%BB
جيل تائه في بلاد «الإنستغرام»
نرجسيّة يائسة وإحساس بالنقصان وبحث عن خلاص مزعوم
- لندن: ندى حطيط
- لندن: ندى حطيط
جيل تائه في بلاد «الإنستغرام»
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة