أنقرة مرتابة من تدويل الحالة الكردية

بعد تطورات شمال سوريا... ثم استفتاء بارزاني

أنقرة مرتابة من تدويل الحالة الكردية
TT

أنقرة مرتابة من تدويل الحالة الكردية

أنقرة مرتابة من تدويل الحالة الكردية

بدا منذ اللحظة الأولى دعم أكراد تركيا وأكبر ممثل لهم، حزب الشعوب الديمقراطي، لاستفتاء إقليم كردستان العراق، إذ رفض الحزب مذكرة الحكومة التركية التي عرضت على البرلمان قبل الاستفتاء بيومين لتجديد صلاحيتها في إرسال القوات إلى سوريا والعراق. وكانت الحركة الكردية التركية قد رأت من قبل في ضعف قبضة الدولة المركزية السورية فرصة تاريخية قد تسمح للأكراد للمرة الأولى في تاريخهم بتأسيس دولة خاصة بهم في الشمال السوري، ما انعكس على قرار الحركة السياسية الكردية في تركيا، بشقيها العسكري المتمثل بحزب العمال الكردستاني، والسياسي المتمثل بحزب الشعوب الديمقراطي. إلا أن أهم ما أزعج تركيا هو تزامن استفتاء أكراد العراق مع سعي أكراد سوريا لتثبيت حكم ذاتي موسع مع ما يرتبط بذلك من أوجه قلق تنبع من أن حزب العمال الكردستاني أوسع انتشاراً ونفوذاً في شمال سوريا عنه في شمال العراق. وهكذا، دفعت تطورات الملف الكردي كلاً من أنقرة وطهران إلى طي صفحة التوتر بينهما، والتركيز معاً على الأخطار والمصالح المشتركة.
كشف الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق الذي أجري الاثنين الماضي رغم حالة الرفض الإقليمي والدولي الواسعة عن عمق المخاوف التركية من التهديدات المحيطة بها من جهة حدودها الجنوبية، ولا سيما في ظل الوجود الكردي في كل من العراق وسوريا.
هذه المخاوف خبت لفترة إبان علاقة حسن الجوار والتعاون الوثيق مع مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، عندما فتحت أنقرة الباب له، واستقبل كأي رئيس دولة يزور تركيا، أمام خلفية التنافر مع بغداد. لكنها اليوم عادت وبلغت حد تهديد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان سلطات أربيل بالتجويع وإغلاق صنبور النفط والحدود والتلويح بالعمل العسكري، والتعاون فقط مع حكومة بغداد، وهذا حتى وإن لم تكن تركيا تخطط لاتخاذ خطوات سريعة على الصعيد الاقتصادي كي لا تتحمل أضراراً كبيرة.
لقد دعمت تركيا منذ نحو 15 سنة «الحكم الذاتي» الكردي في شمال العراق، وتعاونت وما زالت مع إدارة الإقليم في مواجهة حزب العمال الكردستاني الذي يخوض مواجهات مع جيشها داخل أراضيها، وتتبادل معها المعلومات الاستخباراتية التي مكنتها من احتواء نفوذه، والحد من عملياته العسكرية، لدرجة أن وزير الخارجية التركي كان يزور أربيل من دون المرور ببغداد.
كذلك أقامت أنقرة علاقات اقتصادية متقدمة مع إقليم كردستان العراق، وسمحت له بأن يصدر عبر أراضيها معظم إنتاجه النفطي، البالغ 600 ألف برميل يومياً، والمرشح للوصول إلى مليون برميل، وأمدّته بحاجاته من الأغذية وسائر المواد الاستهلاكية، فضلاً عن احتكار شبه كامل لمشاريع الإنشاءات والمقاولات، ليحتكر الإقليم 2.5 مليار دولار أميركي من إجمالي 8 مليارات دولار حجم تجارة تركيا مع العراق. واستفادت أنقرة من القطيعة بين أربيل وبغداد، وكذلك استفادت من العلاقات المتوترة بين أربيل وطهران في كسر احتكار طهران للنفوذ السياسي والعسكري في العراق إلى أن حانت لحظة الاستفتاء فتبدلت التحالفات بشكل كامل.
عوامل القلق التركي
ميديام يانيك، الباحث في مركز الدراسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التركي (سيتا)، قال إن «أهم ما أزعج تركيا بشأن الاستفتاء هو التوقيت الذي أجرى فيه، إذ إنه تزامن مع سعي أكراد سوريا لتثبيت نوع حكم ذاتي موسع مع ما يحيط بذلك من أوجه قلق. ذلك أن الوضع في شمال سوريا أكثر إثارة لقلق تركيا، لأن حزب العمال الكردستاني أوسع انتشاراً ونفوذاً في شمال سوريا عنه في شمال العراق. ففي الشمال السوري، الذراعُ السوري للحزب، وهو حزب الاتحاد الديمقراطي وميليشياه (وحدات حماية الشعب الكردية) سيطروا على نحو ثلثي الحدود التركية السورية الممتدة بطول 900 كلم. في المقابل، فإن العلاقة الجيدة مع أكراد العراق ساعدت تركيا في ضبط أكراد سوريا بشكل غير مباشر».
من ناحية أخرى، يرى مراقبون أن تركيا قد تكون استاءت من سعي الأكراد في الفترة الأخيرة إلى محاولة كسر ما يمكن تسميته بالاحتكار الاقتصادي التركي، وتنويع علاقاتهم الاقتصادية، وبشكل خاص مع روسيا، بعدما أقرضت شركة النفط الروسية العملاقة «روسنفت» سلطات أربيل ما يزيد على مليار دولار بضمان مبيعات النفط، والتزمت بتوفير 4 مليارات أخرى لمشاريع مختلفة. وأيضاً اقترضت أربيل نحو ملياري دولار من مؤسسات تجارية دولية متنوعة، وإن كان كل ذلك لا يغير كثيراً من واقع الاعتماد الكبير على تركيا.
تقارب الضرورة
أضف إلى ما سبق أن خطوة الاستفتاء الكردي دفعت أنقرة إلى السعي للتنسيق مع كل من بغداد وطهران، ويعتبر راصدو التطورات أن التنسيق التركي الجاري مع إيران بات تقارب ضرورة تفرضه الأزمات والمصالح المشتركة، بعدما بات الملف الكردي مصدر إزعاج للبلدين.
ويذكر هنا أنه رغم التوترات الحادة التي شابت العلاقات التركية - الإيرانية في الفترة الماضية، ظلت العلاقات الاقتصادية واعتبارات الجوار الجغرافي عامل تهدئة أساسياً بين البلدين، فضلاً عن الاتفاق في عدد من الملفات، بينها رفض تقسيم العراق عبر استفتاء الانفصال الكردستاني.
وحقاً، يشكل هذا الاستفتاء منعطفاً خطيراً بالنسبة لإيران وتركيا بسبب حجم الأقلية الكردية في كليهما. ففي إيران تشكل نحو 10 في المائة من السكان، بحسب إحصائيات غير رسمية، يعيش معظمها في شمال غربي البلاد، وتحديداً في محافظات كردستان وكرمانشاه وآذربيجان الغربية وإيلام، ويراود أكراد إيران طموح الانفصال حتى قبل الثورة الإيرانية.
أما في تركيا، فيمثل الأكراد ما بين 15 و20 في المائة من السكان، ولقد عاشوا صراعاً مع الدولة التركية، بعدما وضع مصطفى كمال «أتاتورك»، مؤسس تركيا الحديثة، مبادئ عامة جعل فيها القومية التركية، القومية السائدة في تركيا، وبالتالي، عاملت السلطات التركية الأكراد معاملة قاسية، وحُظر استخدام اللغة الكردية. ولهذا السبب تسعى تركيا إلى القضاء على محاولات قيام كيان كردي في شمال سوريا على حدودها الجنوبية.
وهكذا تسعى كل من أنقرة وطهران إلى رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني الثنائي للتعامل مع التطورات التي تشهدها الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانبهما، وهو ما ظهر في الزيارة التي قام بها رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري إلى تركيا في 15 أغسطس (آب) الماضي للمرة الأولى منذ عام 1979. وأعلنت إيران على إثرها أن علاقتها مع تركيا «دخلت مرحلة جديدة ومهمة» وقطعت شوطاً مهماً في المجال التكاملي. وبعد أسبوع من تلك الزيارة، قال الرئيس التركي إن عملية مشتركة مع إيران ضد المقاتلين الأكراد «مطروحة على الدوام». كذلك قالت مصادر دبلوماسية لـ«الشرق الأوسط» إن زيارة باقري شكلت حدثاً مهماً، وما كانت لتجري لولا استعداد الجانبين لعقد صفقات حول كل من سوريا والعراق.
وهنا يعتقد الدكتور سمير صالحة، أستاذ القانون والعلاقات الدولية في جامعة «صباح الدين الزعيم» التركية، في تعليق لـ«الشرق الأوسط»، أن العلاقات بين طهران وأنقرة «تراجعت خلال السنوات الأخيرة سياسياً واقتصادياً، وبنت طهران تحالفاتها مع لاعبين إقليميين ودوليين، وكذلك الحال بالنسبة لتركيا، لكن الكرة الآن في ملعب إيران، وعليها أن تظهر للأتراك أنها خارج المشروع الروسي بشأن العراق وسوريا». وأشار صالحة إلى إمكانية وجود عروض لتبادل الخدمات بين طهران وأنقرة في أكثر من أزمة «لكن كل ذلك يبقى مرهوناً بحدوث تحول في الموقف الإيراني».
أكراد تركيا
منذ اللحظة الأولى ظهر دعم أكراد تركيا، وبالذات حزبهم الأبرز حزب الشعوب الديمقراطي، لاستفتاء كردستان العراق. فلقد رفض الحزب مذكرة الحكومة التي عرضت على البرلمان قبل الاستفتاء بيومين لتجديد صلاحيتها في إرسال القوات إلى سوريا والعراق... كما هلل قطاع كبير من الأكراد في تركيا لنتيجة الاستفتاء، وقال عثمان بايدمير، المتحدث باسم حزب الشعوب الديمقراطي «سلام منا على الاستفتاء»، واصفاً إياه بأنه «تعبير حر عن الحق الديمقراطي للشعب الكردي في العراق على الجميع احترامه».
ولا يختلف الخبراء والمتابعون للشأن التركي على أن المشكلة الكردية هي أكبر مشاكل تركيا (البالغ عدد سكانها نحو 80 مليون نسمة) منذ تأسيسها عام 1924 وحتى اليوم. إذ رأى مؤسسها «أتاتورك» أن التنوّع العرقي الكبير الذي تميزت به الدولة العثمانية كان أحد أسباب سقوطها. وقرّر أن ترفض الجمهورية التركية الوليدة ذلك لكي تُجنب المصير نفسه. في هذا السياق أنكرت تركيا منذ نشأتها تنوّعها العرقي، فاعتبرت كل مواطن يعيش داخل حدودها تركياً بغض النظر عن جذوره ولغته الأم. واتبع خلفاء «أتاتورك» النهج نفسه، وبأساليب أكثر تشدداً، ما أدى إلى التنكر لحقوق الأقليات العرقية في تركيا كالعرب والشركس واللاز والبوشناق، وكذلك الأكراد.
ولم يتوقف الأمر عند حد إنكار الحقوق الثقافية والاجتماعية لأكراد تركيا، ولا حتى حقوقهم السياسية، بل وصل إلى إهمال وتهميش شبه متعمدين لمناطق جنوب وجنوب شرقي تركيا، التي يشكل الأكراد أغلبية سكانها، فتراكم السخط والشعور بالغبن بين الأكراد الذي رأوا أنهم مواطنون من الدرجة الثانية في البلاد.
ثم مع المد اليساري في العالم في ستينات وسبعينات القرن الماضي، احتكرت الحركة السياسية اليسارية الكردية التكلم باسم أكراد تركيا، مع تأسيس حزب العمال الكردستاني عام 1978. ولم يلبث الحزب أن بدأ «حرب عصابات» ضد الدولة التركية عام 1984 كلفت تركيا حتى الآن حياة أكثر من 40 ألف شخص، وأكثر من 500 مليار دولار، فضلاً عن اضطراب سياسي وشرخ اجتماعي.
مفاوضات وانتكاسات
سعت تركيا مرتين من قبل خلال حكم تورغوت (طُرغُد) أوزال في الثمانينات، ثم في فترة رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان لحل المشكلة الكردية عبر مفاوضات السلام. ولكن لم يكتب للمحاولتين النجاح، إلى أن قرر حزب العدالة والتنمية، الذي تولى السلطة في عام 2003، حل المشكلة الكردية داخلياً، باعتراف رئيسه رجب طيب إردوغان عام 2005 بوجود «مشكلة كردية» في تركيا. ومن ثم بدأت سلسلة من التعديلات الدستورية والديمقراطية، بالتوازي مع إطلاق عشرات المشاريع الاقتصادية والتنموية في مناطق الكثافة الكردية.
وبعد سنوات من المفاوضات السرية مع عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون في تركيا، بدأت الحكومة التركية ما سمته «عملية التسوية» بعد دعوة واضحة من الأخير لأعضاء حزبه لترك السلاح والانخراط في العملية السياسية عام 2013. إلا أن الهدنة التي استغرقت سنتين لم تصمد طويلاً على وقع التطورات المتسارعة في سوريا. هذا، وسبق أن ساعدت قيادة إقليم كردستان العراق في عملية المفاوضات الداخلية في تركيا مع الأكراد. وقام الحزبان الكرديان العراقيان الرئيسيان، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الإقليم مسعود البارزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس العراقي جلال الطالباني بدور الوساطة بين الجانبين، وتقديم التسهيلات اللازمة للجمع بينهما، وكذلك تقديم ما يشبه الأفكار والضمانات. وكان لافتاً الدور الذي قامت به هذه القيادة في الإفراج عن ثمانية جنود أتراك من أصل 139 تركياً كان قد أسرهم حزب العمال الكردستاني خلال السنوات القليلة الماضية.
مخاطر وحلول
واليوم يرى خبراء أن المشكلة الكردية بأبعادها الحالية تحمل بذور تدويل المشكلة، وأن ذلك إذا حدث سيشكل خطراً على تركيا في ظل حالة الجفاء بينها ومعظم حلفائها التقليديين... الذين يقدمون الدعم السياسي والعسكري للفصائل الكردية المسلحة في سوريا المصنّفة على قوائم الإرهاب في تركيا. وفوق ذلك تبدو الحكومة التركية تميل في تعاملها مع الأزمة إلى رؤية المؤسسة العسكرية، بعدما جربت رؤيتها الخاصة في الحل لسنوات عن طريق المفاوضات، التي انتهت إلى إعلان الساسة الأتراك - وفي مقدمتهم إردوغان - أنه «لا توجد مشكلة كردية في تركيا» رغم اعترافهم بوجود مشاكل كثيرة للأكراد.
ويذكر أن تركيا تفتقر حتى الآن إلى دستور يكرّس مبدأ المواطَنة، ويراعي التنوع الثقافي والعرقي والإثني في البلاد، ويقول الباحث المتخصص بالشؤون الكردية وحيد الدين إنجة «إن إقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد أمر غير واقعي لانعدام مؤشرات تدل على إمكانية نجاح تلك المساعي، فضلاً عن استحالة سلخ مناطق جغرافية عن دولة قوية عسكرياً واقتصادياً مثل تركيا عبر صدام مسلح». وأضاف أن «هذا المسعى سيتسبب في الضرر للأكراد بدلاً من أن ينفعهم، لأن الجماعات التي تطالب بالحكم الذاتي لا تملك المقومات للحفاظ عليه. وبالتالي، فإن الهدف من هذا الإعلان هو الحفاظ على المناطق التي يعدها حزب العمال الكردستاني وتفرعاته مكتسبات في الشمال السوري».
ومن جهته رأى جان أجون، الباحث في علاقات الجوار التركي بمركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركي (ستا)، أن «كل هذه التداعيات الداخلية والتدخلات الخارجية لا تعني أن أنقرة فاقدة للحلول بل عليها امتلاكها، ذلك أن غيابها سيفتح الباب على المدى البعيد أمام تدويل المشكلة، وتحفيز سيناريوهات الانفصال بمختلف مستوياتها، بالتزامن مع خطوات المشروع السياسي الكردي في الشمال السوري وفي كردستان العراق، وهو ما تعتبره أنقرة خطاً أحمر لأمنها القومي».

أكراد تركيا... تاريخياً وسياسياً
- تقدر نسبة الأكراد بـ20 في المائة من مجموع عدد السكان الذي يتجاوز 80 مليوناً. وتصل التقديرات إلى 20 أو 25 مليوناً.
- تعيش المجموعات الكردية في تركيا بشرق الأناضول منتشرة في مناطق ممتدة على حدود تركيا، مع العراق وسوريا وإيران وأرمينيا، وداخل هذه الدول أيضاً. ويعتقد أن تعداد الأكراد في العالم يتراوح بين 20 و30 مليوناً، وبالتالي، يعتبرون أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط لكن دون أن تجمعها دولة مستقلة، لذا كانت تحركاتهم في العراق وسوريا مصدر قلق لتركيا.
- درجت الأحزاب السياسية والمؤسسات الرسمية التركية في معالجتها وتناولها للقضية الكردية على استخدام تعبير «مشكلة المنطقة الشرقية».
- تعتبر دول الاتحاد الأوروبي المواطنين الأكراد ضمن الأقليات، وتطالب تركيا بمنحهم حقوقهم الثقافية.
- امتدت هذه المرحلة من عام تأسيس الجمهورية التركية 1923 إلى عام 1949. حين أقرت التعددية السياسية وسمح بتأسيس أحزاب سياسية، وجرى تأسيس الحزب الديمقراطي (اليميني) بزعامة عدنان مندريس، الذي خاض انتخابات عام 1950 وحقق فوزاً كبيراً أخرج حزب الشعب الجمهوري من السلطة بعد 27 سنة من الانفراد بها.
- شكل حزب عدنان مندريس حكوماته طوال عقد الخمسينات من القرن الماضي حتى وقوع الانقلاب العسكري عام 1960. وأُطيح بالحزب الحاكم وتولى سليمان ديميريل دفة القيادة طوال العقد التالي. وتابع ديميريل سياسة مندريس في تخفيف القيود الدينية والثقافية، ولكن من دون الاعتراف بالحقوق القومية لغير الأتراك.
- رغم وجود نحو 40 مجموعة عرقية وسياسية متنوعة، فقد كان الحديث عن «الحقوق القومية» محظوراً بالقانون والتطبيق، وكان التكلم بغير اللغة التركية في الأماكن العامة محظوراً ومخالفاً للقانون، وتترتب عليه عقوبات وغرامات. أما إصدار صحف أو عقد اجتماعات عامة باللغات القومية غير التركية، ومنها الكردية، فهو ممنوع ومجرّم قانونياً، لكن عقد السبعينات أظهر أهمية وضرورة الحديث عن الحقوق القومية، من دون أن يجرؤ أحد الأحزاب أو السياسيين على تعديل القوانين القومية على الرغم من إقرار التعددية السياسية منذ عقود.
- مع ظهور الحركة الإسلامية وأحزابها «العلمانية» بعد عام 1970، ومع تأسيس «الحزب الوطني» بزعامة نجم الدين أربكان على الساحة السياسية التركية، أصبحت الأصوات الكردية الدينية من الأصوات المحسوبة على أحزاب أربكان المتوالية: ملي نظام، والسلامة، والرفاه، والفضيلة. ولاحقاً، كان طبيعياً أن تكون المسألة الكردية على جدول برامج حزب العدالة والتنمية في مرحلة صعوده وتأسيسه عام 2001. إذ شارك العديد من الشخصيات الكردية في مرحلة التأسيس.
- عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002 بدأ تنفيذ وعوده الانتخابية ومنها الانفتاح على كل مكونات المجتمع التركي بكل قومياته وإثنياته وتياراته الفكرية والسياسية ومذاهبه الدينية وطوائفه الكثيرة. وجاء تنفيذ هذه الوعود على شكل حزم قانونية يصدرها البرلمان التركي، ومحورها الأساسي تطوير الحياة الديمقراطية في تركيا في كل مجالاتها، ولذلك سميت بالحزم الديمقراطية، وبلغت 10 حزم ديمقراطية. وكان أعضاء حزب العدالة والتنمية في البرلمان بمن فيهم أعضاؤه من أبناء القومية الكردية، في مقدمة البرلمانيين الذين يدافعون عن هذه الحزم الديمقراطية والحقوق القومية.
- تحقق الكثير من المطالب والحقوق لأبناء القومية الكردية، وتمكن صلاح الدين ديمرطاش (دمرداش) وهو زعيم حزب الشعوب الديمقراطي من أن ينافس على رئاسة الجمهورية أمام إردوغان عام 2014. غير أنه اعتقل عام 2016 وهو معتقل حتى الآن بتهمة دعم الإرهاب.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.