ليلة تاريخية وطنية حملت رسائل إنسانية وكرم فيها الفن والأدب والرياضة

الهيئة العامة للرياضة دعت أبناء شهداء الوطن وكرمت العملاق أبو بكر سالم

جانب من الحفل الغنائي الكبير الذي شهدته الصالة المغلقة بملعب مدينة الملك عبد الله الرياضية (تصوير: محمد المانع)
جانب من الحفل الغنائي الكبير الذي شهدته الصالة المغلقة بملعب مدينة الملك عبد الله الرياضية (تصوير: محمد المانع)
TT

ليلة تاريخية وطنية حملت رسائل إنسانية وكرم فيها الفن والأدب والرياضة

جانب من الحفل الغنائي الكبير الذي شهدته الصالة المغلقة بملعب مدينة الملك عبد الله الرياضية (تصوير: محمد المانع)
جانب من الحفل الغنائي الكبير الذي شهدته الصالة المغلقة بملعب مدينة الملك عبد الله الرياضية (تصوير: محمد المانع)

في ليلة وطنية فنية وصفها الجمهور بـ«التاريخية». فعلاً كان حفلاً أسطورياً بكل المقاييس نظمته الهيئة العامة للرياضة وهيئة الترفيه وسلمته للشركة روتانا وهي الأجدر بتنظيم الحفلات الغنائية عربياً.
ليلة حملت كثيراً من الرسائل أهمها «حب الوطن»، أدار الحفل من مسؤولين ومنظمين وفنانين وشعراء وملحنين والجمهور السعودي، وكل من حضر يقف ويرفع أعلام السعودية حباً لهذا البلد العظيم، وتستمر تلك الرسائل في هذا الحفل، فالجمال الإنساني طغى على هذا الحفل. هيئة الرياضة لم تنسَ أبناء شهداء الوطن، وزعت الدعوات لهم ووفرت لهم سيارات خاصة وحضر قرابة 80 شخصاً. الجميل في الأمر أن لحظة وصول تركي آل الشيخ رئيس الهيئة العامة للرياضة، سأل عنهم، اطمأن عليهم وعلى أماكن جلوسهم، حيث وجدوا. وتابع الحفل حتى النهاية، ولم تقف هيئة الرياضة عند هذا الحد، بل كان للحضور الرياضي دور فعال، حيث حضر اللاعب الدولي السابق محمد نور وألقى كلمة معبرة ينصح فيها الجمهور، عن مخاطر المخدرات والمنشطات. وفي الجانب الإنساني والثقافي، تفاجأ الجميع بتكريم جميل لعمالقة الأغنية السعودية، يأتي في مقدمتهم عملاق الأغنية العربية أبو بكر سالم، حيث تفاجأ الحضور بصعوده على خشبة المسرح بكرسي متحرك يدفعه فنان العرب محمد عبده، ويلتف حوله 11 فناناً خليجياً مشاركاً في الحفل، ويستقبل على خشبة المسرح تركي آل الشيخ، مع نغمات موسيقى الملحمة الوطنية الشهيرة التي تغنت بصوته قبل أكثر من 40 عاماً «يا بلادي واصلي». أبو بكر سالم أراد بصوته الشجي أن يكملها بصوته وسط تصفيق حار ومشاعر امتزجت بين الدموع والفرح لهذا المثقف والأديب، حيث ألقى كلمة معبرة وعفوية. وتم تكريم أبو بكر سالم وتسليمه درعاً تذكارية وتي شيرت المنتخب السعودي المشارك في مونديال كأس العالم المقبل، واستمر تركي آل الشيخ في مواصلة مبادرته الإنسانية والوطنية، حيث كرم كلاً من الموسيقار السعودي غازي علي والملحن طلال باغر والملحن ناصر الصالح، وأيضاً تم تكريم الفنانين المشاركين في الحفل وهم محمد عبده وعبادي الجوهر ورابح صقر وعبد المجيد عبد الله وراشد الماجد وطلال سلامة وأصيل أبو بكر وماجد المهندس وحسين الجسمي ووليد الشامي وعبد الله الرويشد، ومن الشعراء تم تكريم كل من ياسر التويجري وجاسم الصحيح وخالد المريخي، ومن الملحنين نواف عبد الله. فيما ألقى ياسر التويجري وجاسم الصحيح قصيدتين وطنيتين أمام الجمهور. أبو بكر سالم عاد إلى مقر غرفته في الكواليس ولم يرغب في العودة إلى مقر فندقه، حيث سكنه ومكث بعد انتهاء تكريمه قرابة الساعتين وأكثر في كواليس الحفل وتحولت غرفته إلى خلية نحل، حيث كل فنان ينهي وصلته يترك غرفته الخاصة ويذهب إلى مقر وجود أبو بكر سالم الذي كان بمرافقته ابنه أحمد. وبعدها عاد أبو أصيل إلى الفندق الخاص وجلس ساعات وذهب صباح أمس مبكراً إلى مستشفى سليمان فقيه بجدة لإجراء غسيل الكلى واستمر وجوده في المستشفى قرابة 5 ساعات وسيغادر أبو بكر سالم مساء اليوم إلى العاصمة الرياض.
نجوم الأغنية السعودية والخليجية وصلوا إلى مقر الحفل مبكراً في الساعة السابعة مساء معاً بسيارة نقل كبيرة، ووجدوا جميعهم في الكواليس، كلٌ منهم ينتظر دوره لصعوده المسرح واستمر وجودهم في الحفل حتى الساعة الرابعة فجراً.
بدأ الحفل بالسلام الوطني السعودي وبعدها قدم أحمد الحامد مذيع الحفل الأوبريت الغنائي الذي لحنه سهم وكتبه الشاعر السعودي خالد المريخي وبعدها توالى الجميع بالحضور وتقديم وصلاتهم الغنائية بين الوطني والعاطفي وسط تصفيق وتفاعل كبير من الجمهور الذي تخطى حضوره 4 آلاف متفرج. وفي النهاية قدم محمد عبده والنجوم المشاركون إحدى أغاني الأمير بدر بن عبد المحسن الشهيرة الوطنية، والجميع يردد مع فنان العرب «كلنا سلمان... كلنا محمد».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)