الحازميون... غلاة ما بعد «داعش»

النشأة والخطاب وأهم شيوخهم

«التيار الحازمي» وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج في تكفير كل من يخالفهم... وسيبتلع «داعش» فكرا وخطابا («الشرق الاوسط»)
«التيار الحازمي» وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج في تكفير كل من يخالفهم... وسيبتلع «داعش» فكرا وخطابا («الشرق الاوسط»)
TT

الحازميون... غلاة ما بعد «داعش»

«التيار الحازمي» وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج في تكفير كل من يخالفهم... وسيبتلع «داعش» فكرا وخطابا («الشرق الاوسط»)
«التيار الحازمي» وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج في تكفير كل من يخالفهم... وسيبتلع «داعش» فكرا وخطابا («الشرق الاوسط»)

لا يقف سرطان التطرف العنيف عند حد، بل هو نار تأكل نفسها بنفسها، وتأويلات تزداد كل يوما انحرافا عن الوسط والاعتدال، غارقة في آبار سحيقة من التكفير والغلو، وليس التيار الحازمي، الذي نحاول التعريف به ورموزه هنا إلا دلالة قوية على ذلك، كما سنوضح.
كانت تهم الإرجاء والتجهم موجهة دائما من «القاعدة» و«داعش»، وقبلهما التيار الصحوي، والسروري، والقطبية، لصدور وإيمان المعتدلين من يتورعون عن التكفير، خصوصا تكفير المعين عذرا بالتأويل أو الجهل وغيرهما، إلا أنها صارت الآن سيفا مصلتاً من وجوه غلاة الغلاة التي تتهم دولة «داعش» - أعتى صور التطرف العنيف المعاصر - بالجهمية! ويكتب أحد أنصار التيار الحازمي في سبتمبر (أيلول) سنة 2015 واصفا إياها بـ«دولة التجهم والإرجاء».
ونشرت «النبأ» صحيفة «داعش» الخبرية في عددها رقم «85» الصادر في 14 يونيو (حزيران) من العام الحالي 2017 الموافق 20 رمضان سنة 1438 هجرية (الصفحة 12) عنوان «رموز لا أوثان» أشارت إليه في غلافها بصورتين للراحلين حسن البنا وعطية الله الليبي، ووصفهما كاتبه بقوله: «ولا يمكن حرص الأمثلة على (الرموز) التي امتدحها البعض، على ما علموا عنهم من خير وجهلوا عنهم من باطل وضلال، كحال رموز (الإخوان) المرتدين، مثل حسن البنا ورموز (القاعدة) كعطية الله الليبي وأبي مصعب السوري وغيرهم كثير من أئمة الضلال ورؤوس الفتنة» هكذا صار أئمة ومؤسسو وشيوخ الجماعات أئمة ضلال ورؤوس فتنة عند من خرجوا من عباءتهم، ويبدو أن الكاتب يميل ميلا «حازميا» إذ إن «داعش» لم تكفر عطية الله الليبي، بل رثاه البغدادي نفسه في بيان صوتي بعد مقتله في 22 أغسطس (آب) سنة 2011 بمنطقة وزيرستان الباكستانية، ووصفه بـ«العالم العامل المجاهد، صاحب العلم والوقار»، وقد حذر كاتبه في تلميح يكاد يكون صريحا إلى تقديس البغدادي والقيادات - دون ذكر - مؤكدا على ضرورة التخلص من قدسية الرجال قائلا: «فنحذر من ربط جماعة المسلمين بعقيدة شخص من الأشخاص أو سنته، مهما ظهر من صلاحه وتقواه، واتباعه للسنة، وبراءته من الشرك وأهله، ومهما كان له من فضل وجهاد وإمامة في الدين»، مما يشي ويدل مع علامات أخرى على أن التيار الحازمي يخترق إعلام «داعش» وخطابه، وليس مهمشا فيه، وأنه قد يرثه في فترة ما، لندخل مرحلة ما بعدها.
يعتبر «عدم العذر بالجهل وتكفير المعين والعامي وتكفير من لم يكفره» أهم أصول وأفكار التيار الحازمي، وقد أسس لهذه الأفكار أحمد بن عمر الحازمي المعتقل حاليا، الذي تأثرت به مجموعة من التونسيين والمغاربة كان من أبرزهم أبو جعفر الحطاب عضو اللجنة الشرعية لجماعة أنصار الشريعة في تونس وأبو مصعب التونسي أحد قيادييه، وكذلك أبو عبد الله المغربي وغيرهم ممن انضموا لـ«داعش» بعد إعلان خلافته، وتولوا مناصب مهمة في لجانه الشرعية والإعلامية حينها، ولا يزال البعض على ما يبدو موجودا فيه.
نجح الحازميون في إقصاء كبير شرعيي «داعش» تركي البنعلي (المقتول هذا العام) عن صدارة مشهده النظري، واضطروه كما اضطروا غيره من شيوخ داعش وغيره قبل وفاته لكتابة ردود على أفكارهم وخطابهم في عدم العذر بالجهل وتكفير المعين والعامي، كما كتبوا الردود كذلك عليه.
لقد بدأ بزوغ «التيار الحازمي» منذ أواسط عام 2014 بعد تكفير عدد من خطبائه لمخالفيهم، ومن لم يكفر الكافر من قيادات «داعش»، الذين دعوهم لتكفير شيوخهم السابقين في «القاعدة» وغيرهم من الجماعات المتطرفة، وتكفير من لم يكفر من يقبل بالقوانين الوضعية، مثل أيمن الظواهري وعطية الله الليبي وغيرهما من شيوخ «القاعدة». وكانت البداية إعلاميا باعتقال أبو عمر الكويتي (واسمه بالكامل حسين رضا لاري) في أغسطس (آب) 2014 ثم إعدامه في سبتمبر من العام نفسه، وأعقبه إعدام التونسي أبو جعفر الحطاب في 7 مارس (آذار) سنة 2015 وتم اعتقاله مع مجموعة أخرى من الحازميين في سبتمبر سنة 2014، كان أبرز المعتقلين حينها حسب بيان للحازميين في هذا التاريخ منشور على الشبكة العنكبوتية:
«أبو جعفر الحطاب»، «أبو مصعب التونسي»، «أبو أسيد المغربي»، «أبو الحوراء الجزائري»، «أبو خالد الشرقي»، «أبو عبد الله المغربي».
وقد كتب أحد أنصار التيار الحازمي بياناً في سبتمبر 2014، وقعه باسم «مصلحة التوحيد» وعنونه: «مناصرة الإخوة المأسورين في دولة الجهمية الكافرين»، في إشارة لـ«داعش» بعد أسر شيوخ هذا الفكر المذكورين واصفا دولة «داعش» بدولة الكفار الملاعين والتجهم قائلاً: «تجاوزت دولة البغي والتجهم مرحلة البيانات الكاذبة، إلى التحرك الميداني باختطاف المؤمنين من منازلهم، والزج بهم في غياهب السجون، لأجل تكفير المشركين، وصاحب ذلك ترويع نسائهم، وانعدام الأمن والأمان الذي كان يَحلم به كلُ موحد في ظل دولة البغدادي، وفعلوا كما يفعل الطواغيت المعاصرون تماماً»، هكذا كانت التجربة الفاشلة بجوار مزايدات التكفير ومتتابعة الغلو والخروج ملمحا واضحا في هذا البيان التراشقي بين الحازميين و«داعش».
رغم تعدد أسماء شيوخ ومنظري التيار الأكثر غلوا في «داعش» والجماعات المتطرفة العنيفة، فإنه اشتهر بنسبته لأحمد بن عمر الحازمي المعتقل حاليا، الذي اتسع تأثيره بالخصوص إلى تونس وبلدان المغرب العربي، ورغم اعتزاز الحازمي واهتمامه بالنحو واللغة، وتأثره بالفكر المدخلي في التصفية والتكفير، خصوصاً أن من شيوخه محمد الخضر الشنقيطي وأحد رموز المدخلية محمد علي آدم الإثيوبي، حسبما يرى الباحث المغربي عبد الغني مزوز في ورقة له عن «الصراع بين البنعلية والحازمية»، فإن القضية الرئيسية الواضحة في خطب وتسجيلات وموقع الحازمي على الشبكة العنكبوتية هي إلحاحه على «عدم العذر بالجهل»، وإيمانه بتكفير المعين والمخالف دون إعذار، وأيضاً تكفير من لم يكفره، ويهتم اهتماما خاصا بالتمييز في التوحيد وشرح كتبه، ويصرح في أحاديثه بمخالفته لأئمة كبار كالإمامين ابن تيمية وابن عبد الوهاب في قولهم بالعذر بالجهل، كما يخالف غيرهما.
ونلاحظ أن الحازمي المهتم والمكرس تعلمه للغة أراد أن يتكلم في الفقه دون ضابط من تراثه ورغبة في تصفية التوحيد والموحدين كما يراهم وأتباعه، لا يدور خارج كلمة واحدة هو أن «الأصل في الناس الكفر»، كما نقل عنه بعض عارفيه، وأعلن أمام صحب له أنه «لا يصلى خلف أئمة المساجد»، ويؤكد أن كل من أتى كفرا فهو كافر، ولا عذر بجهل ولا تأويل! في ظاهرية حشوية تتجاهل كل تراث أصول الفقه والاعتقاد ومدوناتهما.
أما الثاني من أبرز ممثلي الحازميين فكان «أبو جعفر الحطاب»، وهو عضو اللجنة الشرعية السابق في جماعة «أنصار الشريعة» بتونس حتى 7 يونيو سنة 2013، حيث نشر في هذا التاريخ ردا على الأردني إياد قنيبي بخصوص فتوى «لأنصار الشريعة» في تونس بعدم جواز التعامل مع المحاكم، وأقسام الشرطة، وعلى تكفير عناصرها وعدم قبول العذر بالجهل في هذه المسائل، ثم انضم لدولة «داعش» وهاجر إليها، وصار من كبار شرعييها، حتى إعدامه في 7 مارس سنة 2016.
وقد نشر الحطاب رسالة صوتية بعنوان «الكواشف الجلية على أن العذر بالجهل عقيدة الأشاعرة والجهمية» وله كثير من الفيديوهات والدروس في التأكيد على تكفير المعين، وعدم العذر بالجهل، والرد على من انتقد ذلك خصوصاً من شيوخ «القاعدة» و«داعش»، وإن كان على العكس من أحمد الحازمي يحاول ربط ذلك بأئمة السلف اقتطافا من أقوالهم، بتأويل منحرف لكلياتهم وجزئياتهم، وله في ذلك محاضرة يصور فيها عدم عذر ابن تيمية في التكفير بالجهل، أو رفضه التأويل عذرا، أو قوله بتكفير المعين، وهو ما تنفيه نصوص ابن تيمية بالكلية، حيث ألح على ذلك في أكثر من موضع.
ومن أبرز منظري الحازميين أبو مصعب التونسي أيضاً الذي أعدم مع أبو جعفر الحطاب في مارس سنة 2016، وكان عضوا في أنصار الشريعة في تونس، ثم صار أحد قضاة «داعش» في منطقة الشرقية بسوريا، والذي صرح بتكفير الظواهري، لعدم تكفيره عوام الشيعة، فإما أن تكفر معهم أو تكون كافرا مرة واحدة!
كذلك، دخل الحازمية في صراع مع قادة «داعش» لإصرار الأول على تكفير كل مخالفيهم، ومن لم يكفر مخالفيهم، وتصدى لهم تركي البنعلي قبل رحيله، لكنه تم إقصاؤه مما يعني قوة الحازميين وتأثيرهم داخل «داعش»، وأتى بيان للجنة المفوضة في مايو (أيار) سنة 2017 أعلى لجنة قيادية في «داعش» يتصالح مع خطاب الحازميين؛ أن الأصل في الناس الكفر وأنهم يقولون بتكفير المعين، وهو ما رفضه البنعلي قبل رحيله بعد ذلك بأسابيع، مما يعني إمكانية ابتلاع الحازميين لـ«داعش» أيضاً. ختاماً يبدو أن التيار الحازمي الذي وصل إلى ما وصل إليه متطرفو وغلاة الخوارج، في تكفير كل من يخالفهم، سيبتلع «داعش» فكرا وخطابا ويؤكد نهايتها الآيدولوجية كما تحتضر ميدانيا، وليس ما تحمله نشرة «النبأ» من دعوات التوحد ودرء الفتنة والانشقاق كما في عددها 85 إلا دلالة أخرى على ذلك، وإقصاء كل شرعيي «داعش» الأولين واختفاء بعضهم تماما أو مقتله، يعطي فرصة أكبر لهذا التيار الأكثر تطرفا ولكنه على ما يبدو أقل خطرا وجاذبية من مجموعات وعناصر التطرف العنيف كما كان داعش في بداياته.
* مراجع إضافية:
1- انظر عبد الغني مزوز عن الصراع بين البنعلية والحازمية» منشور في «نون بوست» بتاريخ 27 يوليو (تموز) سنة 2017.
2- انظر حول موقف ابن تيمية من تكفير المعين كتابنا: «متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية»، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية سنة 2015.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟