الإسرائيليون يوافقون نتنياهو على خطورة إيران... لكنهم لا يعتبرون المعركة الحالية معها مجدية

TT

الإسرائيليون يوافقون نتنياهو على خطورة إيران... لكنهم لا يعتبرون المعركة الحالية معها مجدية

يجمع السياسيون والمحللون الإسرائيليون على تأييد رئيس وزرائهم، بنيامين نتنياهو، في إثارته موضوع الخطر الإيراني، وضرورة ممارسة ضغوط على طهران لمنعها من تطوير قدرات عسكرية نووية. لكنهم في الوقت نفسه، لا يعتبرون المعركة الحالية مجدية، ويرون أن نتنياهو نفسه مقتنع بأنه لن يؤثر على الموقف الدولي، ولن يغير من واقع الاتفاق. وهناك كثيرون يرون أنه يثير الموضوع مجددا فقط للتغطية على التحقيقات حول تورطه في قضايا الفساد.
فقد كتب المراسل السياسي لصحيفة «هآرتس»، حيمي شليف، أنه «لو كان نتنياهو الآن في ذروته وفي أفضل حالاته، لما كان سيصر على جعل الاتفاق النووي مع إيران رايته، على الأقل ليس علنا. كان سيستوعب التلميح ويجري مع الرئيس دونالد ترمب، الذي أصر في بداية اجتماعه به، في نيويورك، على تجاهل إيران والالتزام بنصوص السلام في الشرق الأوسط. لو كان نتنياهو يركز فقط على محاولة دفع أميركا إلى التخلي عن الاتفاق النووي مع إيران والمخاطرة بالحرب، لكان سيفعل كل شيء من أجل منع أي شخص من التشكيك بأنه يفكر بمثل هذا الأمر. آخر شيء يريده ترمب هو أن يبدو وكأنه تابع لنتنياهو. آخر أمر جيد لنتنياهو - والأهم من ذلك بالنسبة لإسرائيل - هو أن يشك المجتمع الدولي والرأي العام الأميركي، بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي أقنع رئيس الولايات المتحدة... بالتخلص من اتفاق يدعمه معظم العالم. وآخر أمر تريده إسرائيل، هو أن تظهر كأنها حرّفت النقاش عن خطر الصواريخ النووية الكورية الشمالية، التي اعتبرت أكثر حدة بالنسبة للأمن القومي الأميركي، وجعلت واشنطن تصارع على جبهتين في وقت واحد، أو أن تلعب دورا رئيسيا في خلق أزمة تؤدي إلى نزاع يقتل فيه جنود أميركيون. لقد احتاجت إسرائيل إلى سنوات عدة كي تدحض الادعاء بأنها ومنفذي أوامرها المحافظين الجدد في واشنطن، دفعوا الرئيس بوش إلى شن الحرب مع العراق في العقد الماضي. في حينه، خلافا لنتنياهو، حرص رئيس الوزراء أرئيل شارون على مستوى منخفض من الظهور في الصورة. إذا حدث تدهور خطير في العلاقات بين واشنطن وإيران في الأسابيع المقبلة، سيكون من الصعب إنكار حقيقة طموح إسرائيل وعملها ودفعها إلى هذا الأمر».
وكتب المحرر السياسي للصحيفة، يوسي فورتر: «كالعادة، كان خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة، منصته المفضلة، مصقولا بدقة، وكالعادة تضمن اللازمة المتكررة التي لا تغيب أبدا: إيران، إيران، إيران. لقد دمج نتنياهو بين الإشادة ببلاده والإشادة بنفسه. وقام مطولا بتفصيل رحلاته بين دول العالم، من أستراليا وحتى أميركا اللاتينية. وهو بذلك لم يسع إلى إثارة إعجاب الدبلوماسيين المنهكين في القاعة، بل شعبه (...)، بل لم يتوجه إلى شعبه، فقط، وإنما، أيضا، إلى المسؤولين في مبنى وزارة القضاء في القدس الشرقية. عندما يجلسون للبت في مسألة توجيه الاتهام إليه في القضايا التي يجري التحقيق فيها، ينبغي أن يفهموا من هو الذي يريدون عزله على أساس ذرائع تعتبر هامشية. أي زعيم عالمي، أي سياسي يتمتع بالنعمة الإلهية، أي كنز استراتيجي لإسرائيل، كرّمه رئيس الولايات المتحدة بأول زيارة بعد دخوله إلى البيت الأبيض وما شابه».
ويكتب الجنرال (احتياط) يعقوب عميدرور، في صحيفة «يسرائيل هيوم»، أنه «عشية رأس السنة العبرية، يمكن ملاحظة ثلاثة مكونات رئيسية للبيئة التي يجب على إسرائيل أن تمول فيها أعمالها: عالم غير مستقر، منظومة غير واضحة بين القوى العظمى، تراجعت فيها الولايات المتحدة عن دورها شرطيا عالميا، بينما تستخدم روسيا قوتها العسكرية لتعزيز المصالح بالقرب من حدودها، وفي الشرق الأوسط، من خلال كسر القواعد المألوفة، وتراكم الصين قوة اقتصادية، وتمتد عضلاتها في الفضاء المحيط بها، وتتجاهل تقريبا الولايات المتحدة. وشرق أوسط يمكن أن يتغير كل شيء فيه، ويمر بمراحل انتقالية عنيفة على نطاق تاريخي. في هذا الشرق الأوسط، إيران هي القوة النشطة، وفي الوقت نفسه، هي أيضا أكبر المستفيدين من أحداث السنوات السبع الماضية (بفضل إنقاذ نظام الأسد في سوريا، بمساعدة نشطة من قبل روسيا). هذه الظروف معا، تجعل إسرائيل في وضع استراتيجي مُحسن، من جهة، وتطرح أمامها تحديات حقيقية، من جهة أخرى. من جهة واحدة، أدت التغييرات التي حدثت إلى عدم تمتع أي دولة من جارات إسرائيل بتحالف حقيقي كالتحالف القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية. صحيح أن روسيا بذلت قصارى جهدها لإنقاذ الأسد، لكن من أجل إظهار سلطتها وليس بفضل الصداقة العميقة، وعلاقاتها مع إيران تشبه الزواج المريح فقط. التحالف بين إسرائيل والولايات المتحدة له معنى مختلف، سواء في ظل الإدارة الحالية أو الإدارة السابقة. لكن الولايات المتحدة تشهد تراجعا في معظم أنحاء العالم، وتواجه في منطقة كوريا الشمالية والصين، تحديات صعبة، تسترعي جل انتباهها تقريبا. لذلك؛ سيكون على إسرائيل حل المشاكل في المنطقة، من دون تدخل أميركي نشط. في ضوء ما حدث في السنوات الأخيرة في الشرق الأوسط، لا تواجه إسرائيل اليوم تهديدا من قبل جيوش نظامية متمركزة على حدودها. إن تعابير المخاوف السابقة مثل (الجبهة الشرقية)، التي كانت تضم الجيش العراقي وليس الجيش السوري فقط، أو (أسوأ حالة على الإطلاق) التي تناولت سيناريو الحرب مع سوريا والعراق ومصر، وربما الأردن أيضا، هي مسائل اختفت من العالم المرئي. التهديدان الأكثر أهمية أمام دولة إسرائيل يأتيان من مصدر واحد: العداء الإيراني الشديد، والديني أساسا، الذي تحول إلى عداء بين دولتين. التهديد الأول محتمل، لكنه وجودي إذا تحقق، أي إذا كانت إيران ستملك القدرة النووية العسكرية. والثاني قائم بالفعل: 120 ألف صاروخ وقذيفة يملكها (حزب الله)، الذي يعمل ذراعا طويلة لإيران، التي تموله وتسلحه الآن (بمساعدة سوريا). هناك علاقة وثيقة بين هذه التهديدات. لقد شكلت إيران منظمة (حزب الله) لتهديد وردع إسرائيل، كي يتردد صناع القرار في العمل ضد إيران في وقت الاختبار. وفي وقت لاحق، عندما ستمتلك مظلة نووية، ستسمح إيران لـ(حزب الله) بحرية أكبر في العمل ضد إسرائيل، على أساس الفهم بأنه لن يرغب أحد في مواجهة إيران النووية التي تقف وراء المنظمة. هذا هو السبب الذي يجعل إيران تحتفظ بالسيطرة العملية على القرارات الهامة التي يتخذها (حزب الله)، بما في ذلك قرار الخروج إلى عملية كبيرة».
ويتابع الجنرال عاميدرور: «في مواجهة هذه التهديدات، يجب على إسرائيل الاستعداد لنوعين مختلفين من المواجهات: تلك التي ستتطور بهدف تدمير المنشآت النووية الإيرانية، وتلك التي تهدف إلى توجيه ضربة قاتلة لقدرات «حزب الله» القتالية. النوع الأول من المواجهة سيقع على بعد آلاف الكيلومترات من حدود البلاد، وستتحمل القوات الجوية العبء الأكبر في المواجهة. وستكون الأهداف محددة للغاية. وهدفها في الأساس تدمير القدرة النووية، ولكن أيضا للتوضيح لإيران ما هو ثمن محاربة إسرائيل. لقد قامت إيران بتحسين قدراتها الدفاعية الجوية (بمساعدة روسية)، لكن إسرائيل أحرزت تقدما أيضا في هذا المجال، أيضا بفضل طائرات F - 35. وعلى الرغم من أن هذه القدرات لا تزال في بدايتها، لكنها بعد النضج، سيكون لها معنى كبير جدا. أما الحرب مع «حزب الله»، فتعتبر حربا أخرى، صعبة للغاية، سوف تسبب ضررا كبيرا. فآلاف الصواريخ ستصيب إسرائيل، ولا سيما المراكز السكانية؛ ولكن إسرائيل، بفضل نظمها الدفاعية النشطة، ستنجح في إحباط معظم نوايا الحزب في إلحاق الضرر بنظم البنية التحتية الحيوية. وسيسقط آلاف الضحايا في لبنان؛ لأن معظم الصواريخ والقاذفات يجري تخزينها في المناطق المكتظة بالسكان. وستواجه القوات البرية في الجيش الإسرائيلي تحديات معقدة، لكن لديها القدرة على الاستيلاء على جنوب لبنان وتدمير البنية التحتية لـ«حزب الله» بشكل كبير. ستكون هذه الحرب كثيرة الإصابات، ويجب على إسرائيل ضمان انتهائها بنصر إسرائيلي واضح. إلى جانب ذلك، يجب أن نلاحظ استقرار الدول السنية المجاورة وسلوك تركيا، لكن يحظر حرف النظر عن إيران وحلفائها».
وفي «يديعوت أحرونوت» يكتب يوعز هندل، الذي شغل في الماضي منصب سكرتير حكومة نتنياهو: «الأمر الأبرز للعيان في خطاب نتنياهو في الجمعية العمومية هو الفجوة، المسافة الهائلة بين الخطاب الباعث على الإلهام، اللقاءات مع زعماء العالم، النجاح كسياسي هو الأقدم في العالم الغربي وبين ما يجري عند عودته إلى الوطن. نتنياهو هو على ما يبدو الخطيب الأفضل الذي أنتجته إسرائيل، ورسائله تمثل معظم الإسرائيليين الأسوياء الذين يؤمنون بهذه الدولة. وكان محقا حين تحدث عن إيران. كان محقا في كل كلمة قالها، لكن ما إن نزل عن منصة الخطابة حتى بقي الحق في الهواء فقط. فإيران باتت قصة منتهية. الصينيون والروس يتعاونون معها منذ توقيع أوباما على الاتفاق. والمصالح الاقتصادية تتغلب على رغبة دول الخليج وإسرائيل في أن ترى إيران ملجومة. وخطأ أوباما الاستراتيجي غير قابل للإصلاح؛ إذ إن الصينيين والروس سيمنعون هذا، بخلاف موقفهم من كوريا الشمالية، ومشكوك أن يكون الخطأ قابلا للتغيير مثلما نطالب نحن. أضرار أوباما في الشرق الأوسط ليست جناح فراشة. وهنا بالضبط المصيبة الأكبر لإسرائيل، رغم الخطابات الناجحة لنتنياهو في الأمم المتحدة (11 في عددها)، ورغم أنه نجح في أن يرفع إيران إلى جدول الأعمال الدولي منذ التسعينات، إلا أن الميل في نهاية المطاف هو الميل ذاته. إيران هي دولة حافة نووية تعيش وتتنفس مع العقوبات ومن دونها. إيران هي مثيرة الإرهاب الدولي – الذي يوجه بعضه ضدنا، ورغم ذلك ليس للأسرة الدولية مصلحة في أن تكون فرعا لإسرائيل».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟