عبد المقصود خوجه: ماذا تفعل الثقافة إزاء مجتمع يعشق الفن والرياضة؟

مؤسس «الاثنينية» يأمل احتضانها من الجامعة العربية بعيدا عن السياسة والطائفية والعنصرية

مؤسس الاثنينية (يمين) مع وزير الثقافة والإعلام  د. عبد المقصود خوجه
مؤسس الاثنينية (يمين) مع وزير الثقافة والإعلام د. عبد المقصود خوجه
TT

عبد المقصود خوجه: ماذا تفعل الثقافة إزاء مجتمع يعشق الفن والرياضة؟

مؤسس الاثنينية (يمين) مع وزير الثقافة والإعلام  د. عبد المقصود خوجه
مؤسس الاثنينية (يمين) مع وزير الثقافة والإعلام د. عبد المقصود خوجه

عند الثامنة من مساء الاثنين، في موسم ثقافي يتكرر كل عام، تصل الشخصية المكرمة لدارة الوجيه المكي الذي امتزج بالثقافة وحمل همّها؛ الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه بحي الروضة في جدة غرب السعودية، تستقبلها نخبة من أهل العلم والأدب والمجتمع في مجلس فسيح، قبل أن ينتقلوا عند التاسعة مساء، مسافة خطوات، إلى المنصة الرئيسة في ساحة تلتحف السماء مطلة على حديقة خضراء. يجلس المحتفى به على صدر المنصة وعن شماله خوجه وخلفهما لوحة الإهداء، مصنوعة من قماشة سوداء من الصوف الفاخر مشابهة لكسوة الكعبة ومطرزة بالقصب المذهب بعبارة «الحمد لله رب العالمين»، عليها اسم الضيف والمضيف.
ينظر خوجه أمامه في الطاولات المستديرة المصطفة تباعا أمام المنصة فلا يجد ذلك الجمهور الغفير الذي يتمناه، ما دفعه إلى وصف مرّ «نجد أنفسنا مهزومين خاصة عندما يأتينا الضيف من خارج الحدود ويرى أمامه حضورا باهتا» ثم يضيف مفسرا «ماذا تفعل (الاثنينية) والمنتديات والأندية الثقافية عموما إزاء مجتمع يعشق معظمه الفن والرياضة!»، ويأمل خوجه، كما يقول في هذا الحوار معه، في «غرس (الاثنينية) في مختلف الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية وتوأمتها مع نظيراتها أو إنشاء وحدات مستقلة في كل بلد تعمل على ذات النهج في إطار التكريم والاحتفاء والتوثيق الأدبي والثقافي والفكري، بعيدا عن السياسة والخلافات الدينية والمذهبية أو العنصرية أو تصفية الحسابات بين التيارات المختلفة». هنا نص الحوار:

* هل تشعر أنكم حققتم في «الاثنينية» ما تتمنون؟
- لا ندعي أننا وصلنا بـ«الاثنينية» إلى ما تصبو إليه من طموحات، إلا أن ما يقلقنا إحجام بعض الأوساط الثقافية عن حضور فعالياتها، فنجد أنفسنا مهزومين خاصة عندما يأتينا الضيف من خارج الحدود ويرى أمامه حضورا باهتا، بالإضافة إلى أن الإعلام لم يقم بدوره تجاهها كما هو مأمول منه، باستثناء بعض الصحف، رغم تواصلنا المكثف مع جميع ألوان الطيف الثقافي والأدبي عبر مختلف وسائط الاتصال الحديثة المتنوعة.
* بماذا تفسر «الإحجام» الإعلامي والثقافي، كما وصفته؟
- ماذا تفعل «الاثنينية» والمنتديات والأندية الثقافية عموما إزاء مجتمع يعشق معظمه الفن والرياضة! وتفرد الصحافة المحلية صفحات مقدرة، وتحجب فعاليات ثقافية مميزة، أو تنشرها على استحياء لرفع العتب أحيانا رغم أنها شرفت بتكريم الكثير من المبدعين في مختلف مجالات العطاء الإنساني داخل المملكة وخارجها!
* هل تنوي «الاثنينية» الامتداد إلى دول عربية كمحاولة لزيادة الانتشار؟
- وددت غرس «الاثنينية» في مختلف الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية بدعم ومؤازرة وزيارات متبادلة في البدء، ثم توأمة «الاثنينية» مع نظيراتها أو إنشاء وحدات مستقلة في كل بلد تعمل على ذات النهج في إطار التكريم والاحتفاء والتوثيق الأدبي والثقافي والفكري، بعيدا عن السياسة والخلافات الدينية والمذهبية أو العنصرية أو تصفية الحسابات بين التيارات المختلفة، ومن ثم نترك لمثقفيها إدارتها وتحريك فعالياتها وفق مرئياتهم ومكوناتهم الثقافية وعاداتهم وتقاليدهم، وبطبيعة الحال نسعى قدر الإمكان بمدهم بخبراتنا التراكمية وشيء من الدعم الأساسي، إلا أننا لا نزال نصطدم بكثير من العوائق التي تحتاج إلى تذليل، وبعزيمة كثير من الإخوان أعتقد سنتمكن من النجاح ولكن الدرب طويل.
* بتنا نلاحظ أخيرا انفتاح «الاثنينية» على تكريم شخصيات من خارج السعودية، هل هي استراتيجية جديدة؟
- هي ذات الاستراتيجية منذ اثنين وثلاثين عاما في تكريم المبدعين الذين بلغ عددهم حتى اليوم 483 شخصية محلية وإقليمية وعالمية منذ تأسيسها عام 1982. ففي العام 1985 كرمت «الاثنينية» زكي قنصل من الأرجنتين، ومن الهند الشيخ أبو الحسن الندوي، وفي 1988 الشيخ أحمد ديدات من جنوب أفريقيا، ووصلت شرقا حتى روسيا بتكريمها ألكسي فاسيليف في 2005. وأوليق بريسيسلين في 2008، والسفير بنيامين بوبوف في 2010. هذا على سبيل المثال لا الحصر.
* الاستمرار في ذلك يقتضي نوعا من «المأسسة»، ما هي الخطوات التي اتخذتموها للحفاظ على استمراريتها ثقافيا وماديا؟
- صحيح، وإيمانا منا بأن المنظومة المؤسساتية باتت من الضروريات لضمان الاستمرارية فقد سعيت منذ وقت مبكر للخروج بها من عباءة العمل الفردي إلى آفاق العمل المؤسسي في عالم اليوم الذي يعيش ثقافة المؤسسات التي تقدم الطرح المستدام وتضمن تواصل المسيرة. وللأسف لم أتمكن إلا من تشكيل مجلس رعاة ضم كوكبة من أصحاب الفضل توزعت مسؤولياتهم بين التخطيط قصير المدى وبعيد المدى، وخطت خطوات واسعة في هذا المجال، إلا أنها اصطدمت بعوائق لا بد من تذليلها والعمل عليها. ويتكون المجلس من الدكاترة: عبد الوهاب أبو سليمان، ومحمد عبده يماني، ومدني علاقي، ومحمود سفر، ورضا عبيد، وسهيل قاضي، وناصر الصالح، وعبد الله مناع، وعبد المحسن القحطاني، والأساتذة عبد الفتاح أبو مدين وأنور عشقي، ومحمد سعيد طيب.
* نشرتم الكثير من كتب الرواد.. ما هي الصعوبات التي تواجهها «الاثنينية» للحصول على النسخ القديمة أو موافقة أصحاب الحقوق؟
- استطاعت «الاثنينية» التغلب على كثير من الصعوبات والتحديات التي واجهتها، منها عدم تعاون بعض أبناء الأدباء، أو ضياع الإرث الثقافي الإبداعي بسبب عدم الاهتمام بقيمته العلمية، وأحيانا يصل الأمر ببعض الأبناء ببيع المكتبات الخاصة بآبائهم بثمن بخس! وبإصرارنا على النجاح، استطعنا التغلب عليها بالتواصل المستمر والإلحاح، لأن هدف «الاثنينية» جمع وتوثيق الأعمال الأدبية للرعيل الأول من الأدباء السعوديين الذين تناثرت أعمالهم مما صعب على المهتمين والباحثين الحصول عليها، وهو هاجس ظللنا نعاني منه بشدة ولكن كان التوفيق يحالفنا لأننا لا نبتغي من وراء ذلك منفعة مادية أو معنوية.
* لماذا لا يكون هناك توأمة بين «الاثنينية» ودور نشر محلية أو عربية تشرف على توزيع هذه الإصدارات؟
- من الأركان الثابتة التي قامت عليها «الاثنينية» أن إصداراتها غير مخصصة للبيع إنما تهدى مجانا «من الباب للباب» لكثير من المهتمين بها داخليا وخارجيا وعلى نطاق واسع. وبالتجربة فإن قنوات التوزيع المباشرة الملحقة بجهاز «الاثنينية» تظل أفضل طريقة لإيصال الإصدارات للمهتمين بها.
* ولكن ألا ترى أن التوزيع المجاني لإصدارات «الاثنينية»، يقلل من قيمتها؟
- أعتقد أن القارئ الحصيف لا يفرق بين كتاب مجاني وآخر، وتبقى الفائدة الثقافية سيدة الموقف، كما أن توزيع إصداراتها مجانا فيه تيسير وتبسيط للباحثين والدارسين الذين كثيرا ما يلجأون لـ«الاثنينية» لتزويدهم بالأعمال الكاملة للرعيل الأول.
* اعتادت «الاثنينية» تكريم الأدباء والشخصيات العامة البارزة، البعض يطالب أيضا بتكريم المنجز الثقافي ممثلا في «الكتاب» المهم والذائع؟
- المتتبع لفعاليات «الاثنينية» يجد اهتماما نوعيا بهذا الجانب منذ وقت مبكر وتحديدا منذ العام 1986. حين احتفت بكتاب الدكتور عبد الله الغذامي «الخطيئة والتكفير»، كما احتفت بكتاب الدكتور محمد عبده يماني وقراءة في كتابه «أبو هريرة الصحابي الجليل»، وأخيرا كتاب الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان «باب السلام» وكتاب عبد الفتاح أبو مدين «حياتي في النادي» وكتاب الدكتور عبد الله مناع «بعض الأيام بعض الليالي» وكتاب الدكتور محمود سفر «أحداث سبتمبر» والقائمة تطول.
* وماذا عن الشباب المميز في المجال الثقافي والإبداعي، الذين يمثلون الشريحة الاجتماعية الأعظم من نسبة السكان؟
- لـ«الاثنينية» دورها المؤطر وأهدافها المعلنة. فهي لتكريم العلماء والأدباء والمفكرين والاحتفاء بأعمالهم وإنجازاتهم. لقد سعدنا خلالها بإقامة جسر يربط بين روادها الأفاضل والشباب المتطلعين للاستفادة من خبرات وتجارب الرعيل الأول الذين وهبوا شطرا من حياتهم لخدمة الثقافة والفكر والأدب والعلم، فكم جمع هذا المنتدى الأدبي الثقافي بين قامات سامقات أمثال أساتذتنا الكبار: عبد القدوس الأنصاري، طاهر زمخشري، عبد الله بلخير، محمد حسين زيدان، عزيز ضياء، عبد العزيز الرفاعي، عمر أبو ريشة، أحمد السباعي، أبو تراب الظاهري، وغيرهم من أساطين الكلمة، وما زال التيار قويا لجمع الشباب مع كوكبة من العلماء الأفذاذ الذين أثروا أمسياتنا بكل مفيد في مختلف حقول العطاء والإبداع. وتشجيعا لهؤلاء الشباب فقد كرمت بعضهم مثل الشاب عصام مرزا باعتباره أصغر شاعر عندما كان في المرحلة الثانوية، في العام 1995، والشاب وائل أمان الله لنبوغه في مجال الحاسب الآلي في 2005، وتظل «الاثنينية» على ذات المنهج بتكريم المبدعين بغض النظر عن الجنس واللون والعمر والنوع.

* عبد المقصود خوجه و«الاثنينية»: 32 عاما من العطاء الثقافي
* يطوي عبد المقصود محمد سعيد خوجه 32 عاما من عمر منتدى «الاثنينية» الأدبي الذي ولد على يده في جدة عام 1982، كتقليد استمد جذوره من حفلات التكريم التي كان يقيمها والده محمد سعيد خوجه على ضفاف مواسم الحج لكبار الأدباء والشعراء والعلماء الذين يأتون ضمن وفود بلادهم لأداء مناسك الحج، واستمر حتى اليوم. وبلغ عدد الشخصيات التي كرمتها «الاثنينية» من الجنسين حتى الآن 283 شخصية محلية وإقليمية وعالمية، كما أصدرت 62 عنوانا في 183 مجلدا، جمعت فيها نتاج الرواد من المفكرين والأدباء والشعراء في السعودية.
ولد عبد المقصود خوجه وتلقى تعليمه الأساسي في مكة المكرمة بمدارس الفلاح، ثم أكمل تعليمه بالمعهد العربي الإسلامي بدمشق. عمل بعدها مندوبا من الديوان الملكي إلى المفوضية السعودية ببيروت وبعدها بالمكتب الصحافي بالسفارة السعودية، ثم مديرا للإدارة العامة للصحافة والإذاعة والنشر بجدة قبل تأسيس وزارة الإعلام. استقال من العمل الحكومي عام 1964. واتجه إلى الأعمال الحرة حيث أسس عدة شركات في مجال أعمال البناء والمقاولات والصناعة، جعلته يغدق بسخاء كبير على المنتدى الثلاثيني.
في المقابل حصلت «الاثنينية» على نصيبها من التكريم، سواء على الصعيد الاجتماعي في منتديات ثقافية وأدبية مثل اثنينية الشيخ عثمان الصالح بالرياض، ومنتدى الشيخ علي حسن أبو العلا بمكة المكرمة، ومنتدى بوخمسين في الأحساء. وكذلك على المستوى الرسمي إذ حصلت «الاثنينية» على جائزة مكة للتميز، تسلمها خوجه في 2010 من الأمير خالد الفيصل وزير التربية والتعليم الحالي أمير منطقة مكة المكرمة آنذاك، ثم تقليده وسام الثقافة من الدكتور عبد العزيز خوجه وزير الثقافة والإعلام ضمن فعاليات معرض الكتاب بالرياض في 2010.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.