حجازي لـ {الشرق الأوسط}: عانيت كثيرا لكني أرفض انعزال المثقف عن مجتمعه

يرى أنه بصفته شاعرا وإنسانا مسؤول عن كل شرور العالم ومن واجبه أن يتصدى لها ويهزمها

أحمد عبد المعطي حجازي
أحمد عبد المعطي حجازي
TT

حجازي لـ {الشرق الأوسط}: عانيت كثيرا لكني أرفض انعزال المثقف عن مجتمعه

أحمد عبد المعطي حجازي
أحمد عبد المعطي حجازي

في هذا الحوار، يرى الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أنه في ظل غياب الديمقراطية غابت ثقافة العقل والعلم، واضطهد الفكر الحر، وانتشرت المتاجرة بالدين، فعانى المثقفون كثيرا ويلات ذلك، ومنهم هو شخصيا. وهو يتهم جماعة الإخوان المسلمين بأنها «اختطفت الثورة في مصر ودول الربيع العربي، واخترقت مؤسسات الدولة لممارسة فاشيتها». وحول علاقة المثقف بالسلطة، يقول حجازي إن المثقف لا ينفصل عن العالم المحيط به ولا يعيش في برج عاجي، بل ينبغي أن يقود المجتمع نحو التنوير. وشعريا، يرى حجازي أن «الشعر تراجع وأصابه الركود، وأن قصيدة النثر، لا يمكن أن تكون بديلا للكتابة الشعرية التي نعرفها».
والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي غني عن التعريف، فهو واحد من رواد الشعر الحديث، وله تجربة مبكرة في كتابة القصيدة الحديثة، وخاض من أجلها واحدة من أشهر المعارك الشعرية وهو في مقتبل العمر مع عباس محمود العقاد المعروف باستهجانه الشعر الحديث.
ولم يكن تمرد حجازي في الشعر فقط، وإنما في الفكر والثقافة والرؤية التي تبناها حول القضايا السياسية والثقافية المعاصرة، وهو ما جلب عليه متاعب كثيرة وصدامات مع بعض أنصار تيار الإسلام السياسي وصلت إلى صدور أحكام قضائية ضده. هنا نص الحوار معه:

* بداية، ما انطباعك عن لقائكم المشير السيسي أخيرا؟
- هو انطباع طيب. وقد تحدثنا معه في السياسة والثقافة... عن الديمقراطية، والحريات العامة، ودور مصر الثقافي، وكيفية النهوض بالتعليم والثقافة، ومكافحة الأمية، وضرورة تجديد الخطاب الديني. وقد استمع إلينا بكل اهتمام وشاركنا الرأي. وأذكر أنه كان لي رأي مختلف في وقت سابق عندما بدأ الحديث عن ترشح السيسي للرئاسة بعد ثورة الثلاثين من يونيو (حزيران)، وقلت وقتها إنني أفضل أن يظل السيسي بعيدا عن الحكم بصفته صاحب الشعبية الجارفة، لأنه وقف إلى جانب المصريين وحقق ما أرادوه بإسقاط حكم «الإخوان»، وعندما يصبح حاكما ربما يكون له شأن آخر. كما أنني رأيت أن رئيس مصر القادم يجب أن يكون مدنيا، لأن مصر عانت كثيرا مساوئ الحكم العسكري لعدة عقود منذ ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 وحتى عهد مبارك وما بعده خلال فترة حكم المجلس العسكري بعد ثورة يناير (كانون الثاني)، حيث خسرت مصر الكثير وتراجع دورها بشكل كبير.
* إذن، لماذا تغير موقفك؟
- تغير موقفي الآن، لأنني رأيت التفافا كبيرا من الشعب المصري حول المشير السيسي، وتزايد الإلحاح عليه بترشيح نفسه فأصبح المطلب شعبيا على ما يبدو لنا. كما أنني كنت أتوقع أن ينتهي الإرهاب في وقت سريع، لكنه ما زال يطل علينا بوجهه القبيح على يد الإرهابيين الفاشيين، مما يعني أن المشير السيسي يرشح نفسه ضد الإرهاب، ومن ثم صار الإرهاب هو منافسه. ومع ذلك، فقد قلت له خلال اللقاء الذي جمعنا به: «لا نريد حكومة دينية ولا عسكرية».
* في رأيك، ما سبب انتشار تيار الإسلام السياسي في دول الربيع العربي؟
- إذا نظرنا إلى تلك الدول التي هبت عليها رياح التغيير؛ بداية من تونس ومرورا بمصر وليبيا واليمن وسوريا، نجد أنها جميعا كانت تعاني الطغيان الذي يتناسخ فيها بصور مختلفة. وفي ظل غياب الديمقراطية، غابت ثقافة العقل والعلم، واضطهد الفكر الحر، وانتشرت المتاجرة بالدين، وسيطرت على العقول جماعات الإسلام السياسي، التي لم تكتف بالسلطة التي اختطفتها وإنما أرادت الدولة كلها. ولكي يختطفوا الدولة أصبح عليهم أن يغيروا طبيعتها ويعودوا بها إلى ما كانت عليه في عصور الظلام، كسلطة دينية يتحدثون فيها وحدهم باسم الله فلا يعارضهم أحد. وللأسف، ساعدهم على ذلك سوء الأوضاع السائدة في هذه البلدان من أمية وفقر وتخلف، ونجحوا بمساعدة طغيان الحكام بهذه البلدان في تقييد الحريات والفكر. وقد عانى المثقفون كثيرا ويلات هذه القيود، وعانيت شخصيا ذلك ورفعت ضدي قضايا من تجار بالدين. وفي فترة ما بعد إسقاط الأنظمة الفاسدة، نجح هؤلاء المتطرفون في اختطاف الثورات وتسللوا إلى سدة الحكم كما فعل «الإخوان» في مصر، واستخدموا مؤسسات الدولة التي اخترقوها لممارسة فاشيتهم، وهو ما دفع المصريين إلى توحيد الصفوف والقيام بموجة ثورية ثانية بعد ثورة يناير لإسقاط حكم «الإخوان» الإرهابي.
* كيف أثر هذا المناخ في حركة الإبداع بدول الربيع العربي؟
- بداية، لا إبداع من دون حرية. وهذه الحرية إما أن تكون دائما حرية ذاتية يتحكم فيها المبدع نفسه بقدر ما يوفر لنفسه من شروط لهذه القدرة، على أن يكون صادقا وأن يكون شجاعا في مواجهته الحقيقة، وهو ما يتطلب أن يكون المبدع مثقفا ثقافة خاصة. ثم هناك أيضا الشرط الخارجي، وهو أنه عندما أنظم القصيدة وفقا للشروط السابقة فلا بد أيضا أن تصل القصيدة للناس، ولذلك ارتبطت دائما حرية التفكير بحرية التعبير، لأنه لا جدوى من هذه الحرية الذاتية إذا لم تجد طريقا لتوصيل الحقيقة للآخر. ولكن المخاوف أثيرت مع ظهور الإسلام السياسي، الذي يتصور أصحابه أنهم لا يحكمون فقط بقانون نتفق على وضعه، وإنما بقانون سماوي لا نستطيع مناقشته، كما يعتقد أصحاب الإسلام السياسي أن فهمهم هذه القوانين الإلهية هو الفهم الوحيد، فتجد هناك من يفتش في الضمائر ويفسر العمل على طريقته وفق تفكيره، ومن ثم فلا مجال للحرية التي يتطلبها الإبداع.
* من المعروف أن الثورات كانت دائما عبر التاريخ ملهمة للشعراء ولكل المبدعين، فهل تشعر بالرضا عن مستوى الأعمال المعبرة عن ثورات الربيع العربي أو المستلهمة منها؟
- فكرة الرضا الكامل غير واردة، فدائما هناك بحث عن الأفضل، لكن هناك إسهامات طيبة من البعض، وإن كان يجب علينا ألا نتعجل، لأن المسألة تستغرق وقتا طويلا لتكتمل الرؤية وتتجسد في تجربة إبداعية، خاصة أن الأحداث متسارعة بعد أن عشنا موجتين ثوريتين في فترة زمنية قصيرة.
* هناك من يقول إن دولة الشعر قد سقطت مع هبوب رياح الربيع العربي، حيث توارى الشعر خلف الحدث الثوري. فما رأيك؟
- الشعر لم يسقط، لكنه تراجع. وهناك أسباب لهذا التراجع؛ أهمها تدني مستوى التعليم، فقد كنا نكتب بالفصحى ونتعلم الشعر جيدا في الكتاتيب. وعن نفسي، فقد التحقت بالكتاب في سن الرابعة، وعندما بلغت السابعة من عمري كنت قد حفظت القرآن، وفي السابعة عشرة ختمت حفظه ولا أزال أحفظ منه حتى اليوم، وكان أساتذتي في المدارس الأولية يتعلمون اللغة العربية في الأزهر ويحفظون أشعارا ومقالات. لكن الملاحظ أن وضع اللغة العربية لمن يستخدمها في الإبداع اليوم ليس كما نحب، ويمكن وصف الوضع العام بالركود.
* هل ما زلت على رأيك أن الثقافة في مصر ليست بخير؟ وهل كان للسياسة تأثير في ضعف الدور الثقافي، أم أن الثقافة صاحبة التأثير الأقوى على السياسة؟
- لا شك في أن مصر شهدت حركات تنوير رائدة وكبرى، تمثلت في ظهور رموز وأعلام في الفكر والثقافة عبر التاريخ، وهو ما أسهم بشكل إيجابي في الفكر العربي كله. ولكن الطغيان ومصادرة الحريات أثرا سلبا في هذه الحركة، وهو ما أسهم في تراجع الثقافة المصرية خلال العقود الماضية، فمصر التي كان بها أكثر من 25 مجلة أدبية في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات لم يعد بها الآن سوى عدة مجلات أدبية متعثرة، وهو أمر يتعلق بطبيعة المرحلة السياسية التي أثرت بالسلب في الدور الثقافي المصري خلال العقود الستة الماضية. وفي ثورتي يناير و30 يونيو، صنعت الفطرة المصرية معجزة كبيرة في موجتين ثوريتين متتابعتين. لكن الثقافة السائدة الآن ليست هذه الفطرة، فنحن أمام ثقافة ظلامية ظلت تنمو لتزيح ثقافة النهضة والتنوير، لتظهر بشكل مأسوي في الشارع، وقد انتشرت هذه الثقافة في أنحاء مصر متأثرة كلها بأفكار حسن البنا وسيد قطب، وبدت بكل وضوح في أعمال العنف والتفجير والإرهاب بالجامعات وفي كل مكان.
* في ظل اهتمامك الشديد بالسياسة، كيف ترى العلاقة المثلى للمبدع أو المثقف مع السياسة والسلطة؟ بمعنى: هل يقترب منها أم ينأى عنها وينجو بنفسه منها؟
- الاهتمام بالسياسة لا يعني الانخراط في ممارسة العمل السياسي، والمثقف لا ينفصل عن العالم المحيط به ولا يعيش في برج عاجي، بل يقود الرأي والمجتمع نحو التنوير. كما أن هناك علاقة وثيقة بين الثقافة والديمقراطية، فحينما تغيب الثقافة تغيب الديمقراطية. ومن ثم، فاهتمامي بالسياسة أمر طبيعي وجزء مهم من رسالتي بصفتي مفكرا ومشاركا الرأي، وهذا لا يعني أن أعمل بالسياسة أو أمارسها، فلها أهلها ونأسها. ولكني أرى أن المثقف لا يقف معزولا عما يحدث حوله، وعليه أن يدافع عن حماية حقه الكامل في التفكير والتعبير بحرية، لأن الحرية هي الشرط الجوهري للتفكير والإبداع. وفي ظل عصور الطغيان والديكتاتوريات وكبت الحريات الماضية، جرى إهمال دور الثقافة والمثقفين، فكان المثقف خادما للسلطة، وهو ما نجني ثماره الآن؛ من ظهور أجيال من المتطرفين وممارسي العنف والقتل من أنصار الجماعة الفاشية. ومن ثم، لا بد للمثقفين والمبدعين أن يقوموا بدورهم في التوعية والتنوير.
* لماذا قلت في كتابك عن قصيدة النثر التي سميتها «القصيدة الخرساء»، إنها تتغذى من ذراعين مسمومتين؛ هما انهيار اللغة وتراجع الشعور بالانتماء؟ وهل ما زلت ترى أنها فشلت في إقناعنا بأنها شعر؟
- أولا، أنا عندما أتحدث عن قصيدة النثر، فإنني أتحدث عن ظاهرة ولا أتحدث عن أشخاص بالذات. فلا شك في أن هناك شعراء مجيدين كتبوا في هذا الشكل، لكنهم ورود نادرة في شوك كثير. ولا شك في أن هناك شعرا حقيقيا في قصيدة النثر، لكنه محدود، والجانب الأكبر من هذا الإنتاج يحتاج لأن نقف أمامه ونسأل: ما الذي أضافه؟! فأنا أعتقد، من الناحية النظرية، أن الوزن ضروري للشعر، وأن الموسيقى ركن أساسي في القصيدة ولا يمكن لها أن تتحرر من لغة الحياة اليومية إلى لغتها الشعرية إلا بهذين الركنين: المجاز والموسيقى. وعندما نتحدث عن الموسيقى، فلا بد أن نتحدث عن الإيقاع، والإيقاع يتحقق أكثر ما يتحقق في الوزن. ورغم طول زمن تجربة قصيدة النثر، فإنها لم تستطع حتى اللحظة أن تتوطن لأني أسأل القراء من الجمهور العادي، فلا أجدهم يشعرون بهذا الشعور الذي يحدثنا عنه من يتلقون الشعر الموزون، كما أنني أقرأ ما يكتبه النقاد عن قصيدة النثر، فلا أجدهم يضيفون شيئا. وإذا قبلناها نقبلها فقط كصورة من صور الكتابة الشعرية، لا أن تكون بديلا للكتابة الشعرية التي نعرفها.
* ما سر نزوعك إلى التمرد في أعمالك الشعرية منذ ديوانك الأول «مدينة بلا قلب»؟
- عندما يكتب الشاعر فإنه يبحث عن اليوتوبيا أو مدينته الفاضلة التي يتمناها على أرض الواقع، ومن ثم فإنه يكتب انطلاقا من نقطة تمرده على الأمر الحال، مبشرا بالأفضل من وجهة نظره. لقد بنى الإنسان مدنا ضخمة وصنع حضارة شامخة، فيها علم كبير وليس فيها حب. فيها عقل وليس فيها قلب.
* «سفر».. «العودة من المنفى».. «غربة».. عناوين لبعض أعمالك. فإلى أي مدى تأثرت بصفتك شاعرا بالغربة، وهل كان تأثيرها بالسلب أم الإيجاب؟
- لا أنكر فضل السفر على رحلتي الشعرية والحياتية، خاصة أنني عشت في الغربة سنوات طويلة، لكنها لم تكن غربة بمعنى المنفى، لأني صاحب اختيار مكان السفر، فصار مرشحا لأن يكون وطنا، فحدث التناغم الذي فجر كل طاقات الإبداع الشعري الداخلية، كما أنني لم أجد في العالم كله مدينة تنافس باريس في الثقافة، وهي مدينة لكل البشر تزخر بالمبدعين من مختلف الأنحاء. وأذكر أني حين قررت السفر لفرنسا لم يكن ببالي أن أقضي 17 سنة من عمري فيها، فقد سافرت في البداية على أساس الإقامة لمدة ستة أشهر فقط، لكني فوجئت بأن إقامتي قد امتدت لهذا العمر بعد أن تسبب مقال عني بجريدة الـ«لوموند» الشهيرة للكاتب المغربي الطاهر بن جلون في قلب حياتي رأسا على عقب، حيث لفت الأنظار لي، وقمت بعدها مباشرة بالتدريس بجامعة باريس.
* «الشعر رفيقي».. عنوان لأحد كتبك الشهيرة. فهل حقا ما زال الشعر رفيق الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أم خطفته السياسة من عالم الشعر؟
- أولا الشعر دائما رفيقي، سواء كان شعري أو أشعار غيري، فأنا أقرأ الشعر باستمرار، وهو صرختنا الأخيرة في وجه الظلم والوحشة والطغيان والإرهاب. ولكنك محقة في أن اهتمامي، بصفتي مفكرا، بالسياسة خطفني من الشعر، وربما يحتاج الشعر لتفرغ أكبر، خاصة بعد أن أصبح لدي التزام بالكتابة الصحافية في جريدة «الأهرام» منذ رحيل توفيق الحكيم، حيث أصبح مقالي ينشر في نفس مكان مقالته قبل رحيله. وأذكر أنني كنت أكتب في الماضي كهاو وسط مجموعة من العمالقة في «روز اليوسف» مع التفرغ للشعر بشكل أساسي، ولكن هناك مراحل بالذات لا يستطيع الإنسان فيها أن ينعم بهذه العزلة مع كتابة الشعر، وهي المراحل التي يحس بها الإنسان الشاعر بأنه لا أحد يحل محله للأسف، وأنه مطالب أخلاقيا بالكتابة في الشؤون العامة. وأنا الآن أكتب مقالي الأسبوعي لجريدة «الأهرام» القاهرية يوم الأربعاء، وأعتقد أني أؤدي واجبا في هذه المقالة.
* حصلت على جوائز أدبية رفيعة مصرية ودولية. ماذا تعني الجائزة للمبدع؟ وما رأيك فيما يثار حول شبهة المجاملة في منح هذه الجوائز في بعض الأحيان؟
- بالفعل، هناك مجاملات في منح بعض الجوائز لمن لا يستحق وحرمان من يستحقها منها، وتلعب السياسة والمجاملة والعلاقات الشخصية والمصالح المادية دورا كبيرا في دفع الشخص الذي يعطي صوته لمن لا يستحق في بعض الأحيان، لكنه في النهاية يخسر نفسه. ومن حسن حظي أني كنت أول من حصل على جائزة «كفافيس»، كما كنت خامس أفريقي وأول شاعر عربي يفوز بجائزة «شعر القارة الأفريقية». وحصلت أخيرا على أرفع جائزة مصرية وهي «جائزة النيل» التي تمثل لي قيمة كبيرة، خاصة أنني حصلت عليها بعد الثورة المصرية.
* «لم يبق لي إلا الاعتراف».. كان أحد دواوينك الشعرية الشهيرة. فبماذا تعترف؟ ولمن بعد هذه التجربة الشعرية الطويلة؟
- أعترف أمام نفسي؛ أولا، بأني مسؤول عن كل الشرور التي تقع في العالم وعلي أن أتصدى لها وأن أهزمها.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.