حجازي لـ {الشرق الأوسط}: عانيت كثيرا لكني أرفض انعزال المثقف عن مجتمعه

يرى أنه بصفته شاعرا وإنسانا مسؤول عن كل شرور العالم ومن واجبه أن يتصدى لها ويهزمها

أحمد عبد المعطي حجازي
أحمد عبد المعطي حجازي
TT

حجازي لـ {الشرق الأوسط}: عانيت كثيرا لكني أرفض انعزال المثقف عن مجتمعه

أحمد عبد المعطي حجازي
أحمد عبد المعطي حجازي

في هذا الحوار، يرى الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أنه في ظل غياب الديمقراطية غابت ثقافة العقل والعلم، واضطهد الفكر الحر، وانتشرت المتاجرة بالدين، فعانى المثقفون كثيرا ويلات ذلك، ومنهم هو شخصيا. وهو يتهم جماعة الإخوان المسلمين بأنها «اختطفت الثورة في مصر ودول الربيع العربي، واخترقت مؤسسات الدولة لممارسة فاشيتها». وحول علاقة المثقف بالسلطة، يقول حجازي إن المثقف لا ينفصل عن العالم المحيط به ولا يعيش في برج عاجي، بل ينبغي أن يقود المجتمع نحو التنوير. وشعريا، يرى حجازي أن «الشعر تراجع وأصابه الركود، وأن قصيدة النثر، لا يمكن أن تكون بديلا للكتابة الشعرية التي نعرفها».
والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي غني عن التعريف، فهو واحد من رواد الشعر الحديث، وله تجربة مبكرة في كتابة القصيدة الحديثة، وخاض من أجلها واحدة من أشهر المعارك الشعرية وهو في مقتبل العمر مع عباس محمود العقاد المعروف باستهجانه الشعر الحديث.
ولم يكن تمرد حجازي في الشعر فقط، وإنما في الفكر والثقافة والرؤية التي تبناها حول القضايا السياسية والثقافية المعاصرة، وهو ما جلب عليه متاعب كثيرة وصدامات مع بعض أنصار تيار الإسلام السياسي وصلت إلى صدور أحكام قضائية ضده. هنا نص الحوار معه:

* بداية، ما انطباعك عن لقائكم المشير السيسي أخيرا؟
- هو انطباع طيب. وقد تحدثنا معه في السياسة والثقافة... عن الديمقراطية، والحريات العامة، ودور مصر الثقافي، وكيفية النهوض بالتعليم والثقافة، ومكافحة الأمية، وضرورة تجديد الخطاب الديني. وقد استمع إلينا بكل اهتمام وشاركنا الرأي. وأذكر أنه كان لي رأي مختلف في وقت سابق عندما بدأ الحديث عن ترشح السيسي للرئاسة بعد ثورة الثلاثين من يونيو (حزيران)، وقلت وقتها إنني أفضل أن يظل السيسي بعيدا عن الحكم بصفته صاحب الشعبية الجارفة، لأنه وقف إلى جانب المصريين وحقق ما أرادوه بإسقاط حكم «الإخوان»، وعندما يصبح حاكما ربما يكون له شأن آخر. كما أنني رأيت أن رئيس مصر القادم يجب أن يكون مدنيا، لأن مصر عانت كثيرا مساوئ الحكم العسكري لعدة عقود منذ ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 وحتى عهد مبارك وما بعده خلال فترة حكم المجلس العسكري بعد ثورة يناير (كانون الثاني)، حيث خسرت مصر الكثير وتراجع دورها بشكل كبير.
* إذن، لماذا تغير موقفك؟
- تغير موقفي الآن، لأنني رأيت التفافا كبيرا من الشعب المصري حول المشير السيسي، وتزايد الإلحاح عليه بترشيح نفسه فأصبح المطلب شعبيا على ما يبدو لنا. كما أنني كنت أتوقع أن ينتهي الإرهاب في وقت سريع، لكنه ما زال يطل علينا بوجهه القبيح على يد الإرهابيين الفاشيين، مما يعني أن المشير السيسي يرشح نفسه ضد الإرهاب، ومن ثم صار الإرهاب هو منافسه. ومع ذلك، فقد قلت له خلال اللقاء الذي جمعنا به: «لا نريد حكومة دينية ولا عسكرية».
* في رأيك، ما سبب انتشار تيار الإسلام السياسي في دول الربيع العربي؟
- إذا نظرنا إلى تلك الدول التي هبت عليها رياح التغيير؛ بداية من تونس ومرورا بمصر وليبيا واليمن وسوريا، نجد أنها جميعا كانت تعاني الطغيان الذي يتناسخ فيها بصور مختلفة. وفي ظل غياب الديمقراطية، غابت ثقافة العقل والعلم، واضطهد الفكر الحر، وانتشرت المتاجرة بالدين، وسيطرت على العقول جماعات الإسلام السياسي، التي لم تكتف بالسلطة التي اختطفتها وإنما أرادت الدولة كلها. ولكي يختطفوا الدولة أصبح عليهم أن يغيروا طبيعتها ويعودوا بها إلى ما كانت عليه في عصور الظلام، كسلطة دينية يتحدثون فيها وحدهم باسم الله فلا يعارضهم أحد. وللأسف، ساعدهم على ذلك سوء الأوضاع السائدة في هذه البلدان من أمية وفقر وتخلف، ونجحوا بمساعدة طغيان الحكام بهذه البلدان في تقييد الحريات والفكر. وقد عانى المثقفون كثيرا ويلات هذه القيود، وعانيت شخصيا ذلك ورفعت ضدي قضايا من تجار بالدين. وفي فترة ما بعد إسقاط الأنظمة الفاسدة، نجح هؤلاء المتطرفون في اختطاف الثورات وتسللوا إلى سدة الحكم كما فعل «الإخوان» في مصر، واستخدموا مؤسسات الدولة التي اخترقوها لممارسة فاشيتهم، وهو ما دفع المصريين إلى توحيد الصفوف والقيام بموجة ثورية ثانية بعد ثورة يناير لإسقاط حكم «الإخوان» الإرهابي.
* كيف أثر هذا المناخ في حركة الإبداع بدول الربيع العربي؟
- بداية، لا إبداع من دون حرية. وهذه الحرية إما أن تكون دائما حرية ذاتية يتحكم فيها المبدع نفسه بقدر ما يوفر لنفسه من شروط لهذه القدرة، على أن يكون صادقا وأن يكون شجاعا في مواجهته الحقيقة، وهو ما يتطلب أن يكون المبدع مثقفا ثقافة خاصة. ثم هناك أيضا الشرط الخارجي، وهو أنه عندما أنظم القصيدة وفقا للشروط السابقة فلا بد أيضا أن تصل القصيدة للناس، ولذلك ارتبطت دائما حرية التفكير بحرية التعبير، لأنه لا جدوى من هذه الحرية الذاتية إذا لم تجد طريقا لتوصيل الحقيقة للآخر. ولكن المخاوف أثيرت مع ظهور الإسلام السياسي، الذي يتصور أصحابه أنهم لا يحكمون فقط بقانون نتفق على وضعه، وإنما بقانون سماوي لا نستطيع مناقشته، كما يعتقد أصحاب الإسلام السياسي أن فهمهم هذه القوانين الإلهية هو الفهم الوحيد، فتجد هناك من يفتش في الضمائر ويفسر العمل على طريقته وفق تفكيره، ومن ثم فلا مجال للحرية التي يتطلبها الإبداع.
* من المعروف أن الثورات كانت دائما عبر التاريخ ملهمة للشعراء ولكل المبدعين، فهل تشعر بالرضا عن مستوى الأعمال المعبرة عن ثورات الربيع العربي أو المستلهمة منها؟
- فكرة الرضا الكامل غير واردة، فدائما هناك بحث عن الأفضل، لكن هناك إسهامات طيبة من البعض، وإن كان يجب علينا ألا نتعجل، لأن المسألة تستغرق وقتا طويلا لتكتمل الرؤية وتتجسد في تجربة إبداعية، خاصة أن الأحداث متسارعة بعد أن عشنا موجتين ثوريتين في فترة زمنية قصيرة.
* هناك من يقول إن دولة الشعر قد سقطت مع هبوب رياح الربيع العربي، حيث توارى الشعر خلف الحدث الثوري. فما رأيك؟
- الشعر لم يسقط، لكنه تراجع. وهناك أسباب لهذا التراجع؛ أهمها تدني مستوى التعليم، فقد كنا نكتب بالفصحى ونتعلم الشعر جيدا في الكتاتيب. وعن نفسي، فقد التحقت بالكتاب في سن الرابعة، وعندما بلغت السابعة من عمري كنت قد حفظت القرآن، وفي السابعة عشرة ختمت حفظه ولا أزال أحفظ منه حتى اليوم، وكان أساتذتي في المدارس الأولية يتعلمون اللغة العربية في الأزهر ويحفظون أشعارا ومقالات. لكن الملاحظ أن وضع اللغة العربية لمن يستخدمها في الإبداع اليوم ليس كما نحب، ويمكن وصف الوضع العام بالركود.
* هل ما زلت على رأيك أن الثقافة في مصر ليست بخير؟ وهل كان للسياسة تأثير في ضعف الدور الثقافي، أم أن الثقافة صاحبة التأثير الأقوى على السياسة؟
- لا شك في أن مصر شهدت حركات تنوير رائدة وكبرى، تمثلت في ظهور رموز وأعلام في الفكر والثقافة عبر التاريخ، وهو ما أسهم بشكل إيجابي في الفكر العربي كله. ولكن الطغيان ومصادرة الحريات أثرا سلبا في هذه الحركة، وهو ما أسهم في تراجع الثقافة المصرية خلال العقود الماضية، فمصر التي كان بها أكثر من 25 مجلة أدبية في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات لم يعد بها الآن سوى عدة مجلات أدبية متعثرة، وهو أمر يتعلق بطبيعة المرحلة السياسية التي أثرت بالسلب في الدور الثقافي المصري خلال العقود الستة الماضية. وفي ثورتي يناير و30 يونيو، صنعت الفطرة المصرية معجزة كبيرة في موجتين ثوريتين متتابعتين. لكن الثقافة السائدة الآن ليست هذه الفطرة، فنحن أمام ثقافة ظلامية ظلت تنمو لتزيح ثقافة النهضة والتنوير، لتظهر بشكل مأسوي في الشارع، وقد انتشرت هذه الثقافة في أنحاء مصر متأثرة كلها بأفكار حسن البنا وسيد قطب، وبدت بكل وضوح في أعمال العنف والتفجير والإرهاب بالجامعات وفي كل مكان.
* في ظل اهتمامك الشديد بالسياسة، كيف ترى العلاقة المثلى للمبدع أو المثقف مع السياسة والسلطة؟ بمعنى: هل يقترب منها أم ينأى عنها وينجو بنفسه منها؟
- الاهتمام بالسياسة لا يعني الانخراط في ممارسة العمل السياسي، والمثقف لا ينفصل عن العالم المحيط به ولا يعيش في برج عاجي، بل يقود الرأي والمجتمع نحو التنوير. كما أن هناك علاقة وثيقة بين الثقافة والديمقراطية، فحينما تغيب الثقافة تغيب الديمقراطية. ومن ثم، فاهتمامي بالسياسة أمر طبيعي وجزء مهم من رسالتي بصفتي مفكرا ومشاركا الرأي، وهذا لا يعني أن أعمل بالسياسة أو أمارسها، فلها أهلها ونأسها. ولكني أرى أن المثقف لا يقف معزولا عما يحدث حوله، وعليه أن يدافع عن حماية حقه الكامل في التفكير والتعبير بحرية، لأن الحرية هي الشرط الجوهري للتفكير والإبداع. وفي ظل عصور الطغيان والديكتاتوريات وكبت الحريات الماضية، جرى إهمال دور الثقافة والمثقفين، فكان المثقف خادما للسلطة، وهو ما نجني ثماره الآن؛ من ظهور أجيال من المتطرفين وممارسي العنف والقتل من أنصار الجماعة الفاشية. ومن ثم، لا بد للمثقفين والمبدعين أن يقوموا بدورهم في التوعية والتنوير.
* لماذا قلت في كتابك عن قصيدة النثر التي سميتها «القصيدة الخرساء»، إنها تتغذى من ذراعين مسمومتين؛ هما انهيار اللغة وتراجع الشعور بالانتماء؟ وهل ما زلت ترى أنها فشلت في إقناعنا بأنها شعر؟
- أولا، أنا عندما أتحدث عن قصيدة النثر، فإنني أتحدث عن ظاهرة ولا أتحدث عن أشخاص بالذات. فلا شك في أن هناك شعراء مجيدين كتبوا في هذا الشكل، لكنهم ورود نادرة في شوك كثير. ولا شك في أن هناك شعرا حقيقيا في قصيدة النثر، لكنه محدود، والجانب الأكبر من هذا الإنتاج يحتاج لأن نقف أمامه ونسأل: ما الذي أضافه؟! فأنا أعتقد، من الناحية النظرية، أن الوزن ضروري للشعر، وأن الموسيقى ركن أساسي في القصيدة ولا يمكن لها أن تتحرر من لغة الحياة اليومية إلى لغتها الشعرية إلا بهذين الركنين: المجاز والموسيقى. وعندما نتحدث عن الموسيقى، فلا بد أن نتحدث عن الإيقاع، والإيقاع يتحقق أكثر ما يتحقق في الوزن. ورغم طول زمن تجربة قصيدة النثر، فإنها لم تستطع حتى اللحظة أن تتوطن لأني أسأل القراء من الجمهور العادي، فلا أجدهم يشعرون بهذا الشعور الذي يحدثنا عنه من يتلقون الشعر الموزون، كما أنني أقرأ ما يكتبه النقاد عن قصيدة النثر، فلا أجدهم يضيفون شيئا. وإذا قبلناها نقبلها فقط كصورة من صور الكتابة الشعرية، لا أن تكون بديلا للكتابة الشعرية التي نعرفها.
* ما سر نزوعك إلى التمرد في أعمالك الشعرية منذ ديوانك الأول «مدينة بلا قلب»؟
- عندما يكتب الشاعر فإنه يبحث عن اليوتوبيا أو مدينته الفاضلة التي يتمناها على أرض الواقع، ومن ثم فإنه يكتب انطلاقا من نقطة تمرده على الأمر الحال، مبشرا بالأفضل من وجهة نظره. لقد بنى الإنسان مدنا ضخمة وصنع حضارة شامخة، فيها علم كبير وليس فيها حب. فيها عقل وليس فيها قلب.
* «سفر».. «العودة من المنفى».. «غربة».. عناوين لبعض أعمالك. فإلى أي مدى تأثرت بصفتك شاعرا بالغربة، وهل كان تأثيرها بالسلب أم الإيجاب؟
- لا أنكر فضل السفر على رحلتي الشعرية والحياتية، خاصة أنني عشت في الغربة سنوات طويلة، لكنها لم تكن غربة بمعنى المنفى، لأني صاحب اختيار مكان السفر، فصار مرشحا لأن يكون وطنا، فحدث التناغم الذي فجر كل طاقات الإبداع الشعري الداخلية، كما أنني لم أجد في العالم كله مدينة تنافس باريس في الثقافة، وهي مدينة لكل البشر تزخر بالمبدعين من مختلف الأنحاء. وأذكر أني حين قررت السفر لفرنسا لم يكن ببالي أن أقضي 17 سنة من عمري فيها، فقد سافرت في البداية على أساس الإقامة لمدة ستة أشهر فقط، لكني فوجئت بأن إقامتي قد امتدت لهذا العمر بعد أن تسبب مقال عني بجريدة الـ«لوموند» الشهيرة للكاتب المغربي الطاهر بن جلون في قلب حياتي رأسا على عقب، حيث لفت الأنظار لي، وقمت بعدها مباشرة بالتدريس بجامعة باريس.
* «الشعر رفيقي».. عنوان لأحد كتبك الشهيرة. فهل حقا ما زال الشعر رفيق الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي أم خطفته السياسة من عالم الشعر؟
- أولا الشعر دائما رفيقي، سواء كان شعري أو أشعار غيري، فأنا أقرأ الشعر باستمرار، وهو صرختنا الأخيرة في وجه الظلم والوحشة والطغيان والإرهاب. ولكنك محقة في أن اهتمامي، بصفتي مفكرا، بالسياسة خطفني من الشعر، وربما يحتاج الشعر لتفرغ أكبر، خاصة بعد أن أصبح لدي التزام بالكتابة الصحافية في جريدة «الأهرام» منذ رحيل توفيق الحكيم، حيث أصبح مقالي ينشر في نفس مكان مقالته قبل رحيله. وأذكر أنني كنت أكتب في الماضي كهاو وسط مجموعة من العمالقة في «روز اليوسف» مع التفرغ للشعر بشكل أساسي، ولكن هناك مراحل بالذات لا يستطيع الإنسان فيها أن ينعم بهذه العزلة مع كتابة الشعر، وهي المراحل التي يحس بها الإنسان الشاعر بأنه لا أحد يحل محله للأسف، وأنه مطالب أخلاقيا بالكتابة في الشؤون العامة. وأنا الآن أكتب مقالي الأسبوعي لجريدة «الأهرام» القاهرية يوم الأربعاء، وأعتقد أني أؤدي واجبا في هذه المقالة.
* حصلت على جوائز أدبية رفيعة مصرية ودولية. ماذا تعني الجائزة للمبدع؟ وما رأيك فيما يثار حول شبهة المجاملة في منح هذه الجوائز في بعض الأحيان؟
- بالفعل، هناك مجاملات في منح بعض الجوائز لمن لا يستحق وحرمان من يستحقها منها، وتلعب السياسة والمجاملة والعلاقات الشخصية والمصالح المادية دورا كبيرا في دفع الشخص الذي يعطي صوته لمن لا يستحق في بعض الأحيان، لكنه في النهاية يخسر نفسه. ومن حسن حظي أني كنت أول من حصل على جائزة «كفافيس»، كما كنت خامس أفريقي وأول شاعر عربي يفوز بجائزة «شعر القارة الأفريقية». وحصلت أخيرا على أرفع جائزة مصرية وهي «جائزة النيل» التي تمثل لي قيمة كبيرة، خاصة أنني حصلت عليها بعد الثورة المصرية.
* «لم يبق لي إلا الاعتراف».. كان أحد دواوينك الشعرية الشهيرة. فبماذا تعترف؟ ولمن بعد هذه التجربة الشعرية الطويلة؟
- أعترف أمام نفسي؛ أولا، بأني مسؤول عن كل الشرور التي تقع في العالم وعلي أن أتصدى لها وأن أهزمها.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.