«مُعجم طنجة»... سيرة مدينة تحتفي بالثقافة المُضادّة

صدرت عن «منشورات المتوسط» بميلانو الرواية الثالثة للشاعر والروائي المغربي محمود عبد الغني الذي سبق له أن أصدر روايتين وهما «الهدية الأخيرة» و«أكتب إليكِ من دمشق» وقد فازت الأولى بجائزة السرد في المغرب عام 2013. ولو وضعنا الفوز، على أهميته، جانباً فإنّ بنية هذه الرواية المتفردة تقوم على تقنية السيرة الذاتية لسعاد حُمّان التي غيّرت اسمها إلى راضية محجوب، بعد أن بدأت حياتها كعارضة أزياء لكنها سرعان ما تحوّلت إلى التصوير الفوتوغرافي وتدرّجت به من الهواية إلى الاحتراف حتى بلغت مشارف الجنون بهذا الفن الساحر.
ورواية «مُعجم طنجة» تقوم على السيرة الذاتية أيضاً لكنها تتخطى سِير الأشخاص والأجيال إلى سيرة مدينة طنجة بالذات التي غزاها الأدباء الأميركيون والأوروبيون تحديداً وبعض الأدباء المغاربة وعلى رأسهم الروائي محمد شكري، الذي أغرته هذه المدينة الغامضة التي تتوسد ساحلي المتوسط والأطلسي في آنٍ معاً.
لنعترف سلفاً بأن الثيمة الرئيسة وغالبية الثيمات الفرعية لهذه الرواية جريئة ولا يستطيع الكاتب العربي أن يُعبِّر عنها بسلاسة وأريحية ويُسر، لأن رقيبهُ الذهني يقظ ويعترض على انتهاكات الثالوث المقدّس، وإذا كانت قبضة الرقيب الرسمي في الوقت الحاضر قد ارتخت قليلاً عن السياسة وسمحت للكُتّاب والأدباء والفنانين أن ينفِّسوا عن احتقاناتهم وهواجسهم الفكرية. وهذا ما فعله الروائي المغربي محمود عبد الغني الذي لامسَ بعض شطحات الشخصيات السيروية، وصخبها الاجتماعي، والنفسي، والأخلاقي، ولو توفر الكاتب على مساحة أكبر من الحرية لارتفع نصّهُ الروائي إلى مستوى «الخبز الحافي» لمحمد شكري في مكاشفته، وجرأته، وتسميته للأشياء بمسمياتها حتى وإن تأخر صدوره عقداً من الزمان.
تستنطق الرواية عدداً كبيراً من الشخصيات الأدبية والفنية، وتنبش في سِيرهم الذاتية التي تحمل قدراً كبيراً من التمرّد والفوضى والاحتجاج، ولعل أبرزهم من الأدباء والفنانين الأميركيين الذين انتظموا في حركة الـBeat Generation ألِن غينسبيرغ، ويليام بوروز، جاك كيرواك، نيل كاسِدي، غريغوري كورسو إضافة إلى بول بولز وزوجته جين بولز، الشخصيتين الرئيستين اللتين يتمحور عليهما النص الروائي من دون أن ننسى تنيسي ويليامز ومرافقه المصور باكسه، وترومان كابوت، وفرانسيس بيكون، وجان جينيه، وكريستيان توني، وكريستوفر وانكلين، وخوان غويتيسولو، وغيرترود ستاين، وبرايَن جيسِن، وهاري دنهام. أما الشخصيات المغربية فهي محمد شكري، ومحمد زفزاف، والرسّام أحمد اليعقوبي، والحكواتي محمد المرابط، ومحمد العربي الجيلالي، وعبد السلام وزوجته عشّوشة وغيرها من الشخصيات التي ظهرت في متن النص وتوارت في أزقة طنجة وحاراتها، وسواحلها، وقراها الجبلية.
وجد الأدباء والفنانون الأميركيون ضالتهم في طنجة كمدينة بدائية عذراء، وفضاء متحرر يسمح للمغتربين، والهامشيين، والثائرين على كل أشكال القمع الاجتماعي والثقافي والإيروسي بممارسة رغباتهم، وتطلعاتهم، وحياتهم الخاصة. فعلى الرغم من انحرافات بول بولز فإنه قدّم خدمات جليلة للثقافة المغربية حينما سجّل الألحان والأهازيج والإيقاعات الموسيقية الأمازيغية، حيث قام برحلات طويلة ومضنية إلى القرى والبلدات النائية تاركاً زوجته المريضة «وحيدة داخل سجن الزمن» من أجل جمع وتسجيل أكبر قدر ممكن من المقطوعات الموسيقية المغربية بشقيها الأمازيغي والعربي.
يعترف الروائي محمود عبد الغني بفضل بول بولز وزوجته جين على عدد من الكُتّاب والفنانين المغاربة حيث يقول: «بول وجين شخصان خاليان من التفاهة وبفضلهما أصبح شكري كاتباً، واليعقوبي رساماً، والمُرابط كاتباً شفوياً مشهوراً» (ص17). وفيما يتعلق بشكري فقد ترجم له «الخبز الحافي» و«جان جينيه في طنجة» إلى الإنجليزية، كما ساهم في إقامة معارض فنية للرسام أحمد اليعقوبي في عدة عواصم أوروبية نقلته من المحلية إلى العالمية. أما محمد المرابط فقد ترجم له ستة عشر كتاباً شفهياً إلى الإنجليزية، وهي تجمع بين القصة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية. لم يكن يول بولز هو أول من انتبه إلى موهبة محمد شكري فقد أخبره وليم بوروز ذات مرة:: «إنّ شكري كاتب استثنائي بفضل صفائه النادر، وذكائه الخارق» (ص35) لكن وشاية المرابط بشكري أوغرت صدر بولز وخلقت هوّة بينهما، فشكري لا يريد أن يخسر بول بولز وزوجته جين لأن منزلهما أشبه بالدائرة الممغنطة التي تجذب إلى مركزها كل الأسماء الإبداعية الأميركية والأوروبية التي بدأت تشكِّل ضغطاً نفسياً على زوجته العليلة وعليه أن يمنع تدفقهم إلى منزله لأن طنجة لم تخلُ من الفنادق والشقق السكنية الفارهة. لم يرتح بولز إلى غيرترود ستاين وكان يراها امرأة غامضة، مليئة بالنشاز، تستغل الفنانين، وتسعى جاهدة للفصل بينهم وبين صديقاتهم، وتقتني أعمالهم الفنية بأثمان زهيدة. أنجز بول بولز فضلاً عن تراجمه، وموسيقاه التي جمعها وألّفها، الكثير من الروايات، والقصص القصيرة، والمجموعات الشعرية نذكر منها «السماء الواقية»، «بيت العنكبوت»، «أهلاً بالكلمات»، «ساعات ما بعد الظهيرة» وسواها من الأعمال الإبداعية المهمة التي يُشار إليها بالبنان. أما زوجته الروائية والكاتبة المسرحية جين بولز فقد كانت مُقلّة بسبب مرضها الدائم حيث أنجزت رواية «سيدتان جادّتان» التي نالت استحسان النقاد فوصفها بعضهم بأنها من أكبر كُتّاب النثر في العالم وقد جذبت انتباه تينسي ويليامز طريقتها في تعشيق الفلسفة بالأدب حيث قال: «لها قدرة على وضع الفلسفة في النثر. وهي قدرة غريبة داخلية لا يمتلكها غيرها» (ص63). ومع ذلك فقد تلقّت رسالة من الكاتبة أناييس نين جمعت فيها كل الأخطاء التي عثرت عليها في رواية «سيدتان جادّتان» فكادت تنفجر من الغضب وبما أنها تعرف بعض مواصفاتها البدنية فأخذت تقهقه وتقول في نفسها: «قامة قصيرة، ولسان طويل»! كانت جين، خلافاً لزوجها، تحب صحبة المغاربة لأنهم يتوفرون على خفّة الدم، ويمتلكون حسّ الفكاهة والمرح لذلك كانت تستلطف المرابط لأناقته، ولطفه، وقدرته على التخيّل والسرد الحكائي، وأكثر من ذلك فإن كل أصدقائه يؤكدون «بأنه يتمتع بذكاء خارق، وبذاكرة تشبه الثلاجة، تحتفظ بداخلها بكل شيء طازج» (ص95).
لم ينظر الأدباء الأميركيون والأوروبيون إلى طنجة كمدينة نظيفة، متحضرة، فبولز «ينعتُ الطنجاويين بالجياع والمتسولين، والوطنيين بالإرهابيين» (ص23). لا يختلف رأي والدة بولز بالمدينة، فحينما زارته ذات مرة سألته سؤالاً ينطوي على كثير من القسوة والفجاجة مفاده: «كيف هي طنجة؟ هل لا تزال على تلك الطبيعة الهجينة والقذرة، فهي مطعّمة بالكثير من التفاصيل الإسبانية؟ (ص107) صحيح أن والدة بولز واحدة من أرقّ عازفات البيانو في العالم لكن تلك الرِقة لا تخوّلها أبداً أن تصف المغرب «بالبلد المتخلف» وأن تنعت موسيقاه الفطرية بموسيقى المتوحشين! وفي ذروة هذا التحامل اللامبرر على المغرب وطنجته المضيئة التي سحرت الرسامين، والمصوِّرين، والقصاصين، والروائيين، والشعراء، والموسيقيين كانت جين بولز تنزلق إلى عالَم ضبابي كثيف أفقدها حواسها الخمس على حين غرة وتركها تحدّق بعينيها المفتوحتين في الفراغ الأبدي المفزع.
وفي الختام لا بد من الإشادة بالبنية المعمارية المتماسكة لهذا النص الروائي وبلغته المتوهجة التي حاولت في كثير من الأحيان أن تكون صريحة ودالة كي ترتقي إلى مستوى الثيمات التي وردت في المتن السردي الذي لا يجد حرجاً في مغامرة النزول إلى الأرض الحرام.