اللغة كظاهرة اجتماعية وحضارية

تتجاوز إيصال الخبر أو المعلومة إلى إقامة علاقات مع الآخر

اللغة كظاهرة اجتماعية وحضارية
TT

اللغة كظاهرة اجتماعية وحضارية

اللغة كظاهرة اجتماعية وحضارية

صدرت هذه السنة ترجمة لكتاب بعنوان «السوسيولسانيات» لصاحبه بيتر تراجل التي أنجزها محمد كرم الدكالي، عن دار «أفريقيا الشرق». ويعد بيتر تراجل مرجعاً عالمياً في مجال اللسانيات الاجتماعية وعلم اللهجات، وهو بريطاني، ولد عام 1943، وحاصل على الدكتوراه من جامعة أدنبره 1971، انتقل إلى ما يناهز تسعة عشر بلداً ناشراً أفكاره اللسانية إما مدرساً أو محاضراً أو مؤطراً للأبحاث.
لقد أصبح هذا الكتاب منذ صدوره مرجعاً أكاديمياً أساسياً في أقسام اللغة والعديد من الجامعات الأنجليساكسونية بالقارات الخمس. وهو مقسم إلى ثمانية فصول وهي: اللغة والمجتمع، واللغة والطبقة الاجتماعية، واللغة والمجموعة العرقية، واللغة وجنس الناطق، واللغة والسياق، واللغة والتفاعل الاجتماعي، واللغة والأمة، واللغة والجغرافيا. وعلى الرغم من أن الكتاب يعود إلى الثمانينات من القرن الماضي، فإنه يحافظ على حيويته وسيظل صالحاً لقرون طويلة.
يدخل الكتاب ضمن تخصص بعينه هو «السوسيولسانيات»، التي يعرفها بيتر تراجل بأنها تلك الشعبة المتفرعة عن علم اللسانيات التي تُعنى باللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعية وحضارية. فهي تدرس التبادل الجدلي القائم بين اللغة والمجتمع، وتستند إلى علوم أخرى مساعدة، كعلم الاجتماع والأنثربولوجيا والجغرافيا البشرية وعلم النفس الاجتماعي.
يبدأ مؤلف الكتاب نصه بالحديث عن وضعية تحدث دائماً بين شخصين لوحدهما في مقصورة القطار، حيث ينطلق أحدهما مبادراً بالحديث عن أحوال الطقس، فهذا السؤال عن الطقس هو في الحقيقة ليس مقصوداً لذاته، بل هو ضرورة لتكسير إحراج الصمت الذي يخلق جوا متوترا ووضعا من عدم الاطمئنان. ويعبر هذا المثال بوضوح كيف أن وظيفة اللغة تتجاوز إيصال الخبر أو المعلومة إلى دور أكثر أهمية وهو إقامة علاقات مع الآخر، ناهيك بأن استدراج الآخر للحديث يفضح جزءاً من الحالة الاجتماعية للمخاطب، فطبيعة لغتنا ولهجتنا ونبرتنا هي مؤشرات تظهر انتماءنا الجغرافي وخلفياتنا الثقافية ومستوانا المعرفي ومكانتنا الاجتماعية، لهذا فالسلوك اللغوي له أهمية كبرى من وجهة نظر اجتماعية.
ولمزيد من إبراز تأثير المجتمع على اللغة، تحدث المؤلف عن «اللغة المعيارية» ضارباً مثالاً بالإنجليزية، فهي لغة تطورت انطلاقاً من اللهجات الإنجليزية التي استُعمِلت في لندن ونواحيها، ومع مر القرون تعرضت هذه اللغة لتحولات أسهم فيها الناطقون بها في البلاط والعلماء والجامعيون والكتاب... فحدث نوع من التصفية للإنجليزية عند طبقات المجتمع العليا في العاصمة بخلاف الإنجليزية السائدة في النواحي، لتصبح النموذج والمعيار. والذي سيزيد من تكريسها هو ذيوع هذه اللغة النخبوية في الكتابة، خصوصاً مع انتشار الطباعة، لتصبح اللغة الأكثر مقبولية. إذن الإنجليزية المعيارية انتشرت وسادت على حساب بقية اللهجات الإقليمية، ليس لدواعٍ لغوية صرفة، بل لأنها فرضت من طرف طبقة نخبوية مهيمنة، وهو ما يوضح انغماس اللغة في قلب الصراع الطبقي. بل إن الأمر وصل حتى إلى مستوى النبرة الإنجليزية، فهناك ما يسمى بـ«النطق الرسمي» (ويشار إليه عادة بـ«RP») وهي النبرة التي انتشرت في المدارس الخصوصية الإنجليزية وكانت إلى وقت قريب ضرورة للانضمام إلى مذيعي هيئة الإذاعة البريطانية، لذلك يسميها البعض بـ«إنجليزية BBC» أو «إنجليزية أكسفورد». ولا تزال هذه النبرة إلى حد الآن تلقَّن للناطقين غير الفطريين بالإنجليزية.
إن الفرد الذي يتحدث بالإنجليزية المعيارية والنبرة الرسمية (RP) يحصل على امتيازات ومكاسب اقتصادية واجتماعية وسياسية، وهو ما يؤكد مرة أخرى العلاقة الوطيدة بين اللغة والمجتمع. والأكثر من ذلك فقد يتم الذهاب إلى اعتبار «الإنجليزية النموذج» بـ«نطقها الرسمي» هي «الصحيحة» و«الجميلة» و«المهذبة» و«الصافية»... في مقابل الإنجليزية غير المعيارية التي تُنعَت بـ«الخاطئة» و«القبيحة» و«الفاسدة» و«المنحرفة»... وهذا الحكم كما يبدو ليس مبنياً على أساس لساني صرف بل هو حكم اجتماعي؛ فمن وجهة نظر لسانية يؤكد بيتر تراجل على أنه ليس هناك صنف لغوي «أحسن» من الآخر؛ فاللهجات جيدة على حد سواء باعتبارها أنساقاً لغوية تخضع لبناء معين وتحكمها قواعد وتستجيب لحاجات الناطقين بها. وهو ما يجعل الموقف من اللهجات هو مجرد انعكاس لبنية المجتمع.
لا يفوت المؤلف التأكيد على تعقد العلاقة الجدلية بين اللغة بالمجتمع، حيث قدم تصور النظرية الشهيرة باسم كلّ من عالمي اللغة إدوارد سابير وصديقه بنجامن لي وورف، التي تسمى اختصاراً «فرضية سابير ووورف»، اللذين حاولا معاً أن يُبرِزا تأثير اللغة في المجتمع، لأن اللغة الفطرية للمتكلم تشكل تصوره للعالم، وهو ما يحدد نوع المجتمع ونمطه. لكن الاتجاه المعاكس صحيح أيضاً، فالبيئة والمجتمع يشكلان اللغة أيضاً، فيكفي النظر إلى مرادفات لفظة «الثلج» عند شعوب الإسكيمو لنجدها غنية ومتعددة. والأمر يقال عن حيوان «الرنة» في شمال إسكندنافيا وكلمة «جمل» عند العرب، ناهيك بأن نظام القرابة يؤثر على اللغة فقد تحضر مصطلحات خاصة وتغيب بحسب المجتمعات، ففي اللغة الروسية كان يشار إلى أخ الزوجة باستعمال كلمة «شورين»، بينما اليوم غابت هذه الكلمة وأصبحت «برات جيني» أي حرفياً «أخا الزوجة»، والأمر ذاته يقال عن زوجة الأخ فقد كان يشار إليها بلفظ «نيفيستكا» أما الآن فالمصطلح المستخدم فهو «جينا براتا»، أي زوجة الأخ. وتفسير التخلي عن مصطلحات بعينها يعود إلى فقدان قيمتها الاجتماعية؛ فالأسرة الروسية أصبحت نووية وفقدت امتدادها، حيث كان يعيش الجميع تحت سلطة الأب الأكبر.
إذا كانت البيئة والبنية الاجتماعية تعمل على صناعة اللغة، فإن الأمر يزداد وضوحاً حينما نتحدث عن الكلمات المحظورة «التابوهات»؛ ففي العالم الناطق بالإنجليزية ترتبط الكلمات المحظورة بالجنس والدين المسيحي، أما في النرويج فالمفردات الأكثر حظراً هي تلك التي لها علاقة بالشيطان. إن الكلمات المحرمة تلقى أحياناً تأييداً قانونياً، فتتم معاقبة المتلفظين بها علانية، والمثير أن بعض هذه الألفاظ أصبحت تفقد قوتها لتنتشر وتخرج من التصنيف ضمن القذر من الكلام، إلى درجة الإفلات من العقاب، وهذا يدل على أن المجتمع أحياناً يكسر القواعد فيتحول، وهو ما ينعكس على اللغة أيضاً.
إن الكتاب غني جدا ويحتاج إلى وقفات مطولة، وفيه مواضيع متعددة تبرز سلطة المجتمع بكل بنيته (الطبقية، الجنسية، العرقية، الجغرافية...) على اللغة، فاللغة لا يمكن فهمها من جهة المتحدث الفرد فقط، بل يجب وضع في السياق الاجتماعي ككل. وهذا هو موضوع «السوسيولسانيات».



«الفيوم السينمائي» يراهن على «الفنون المعاصرة» والحضور الشبابي

إلهام شاهين خلال التكريم (إدارة المهرجان)
إلهام شاهين خلال التكريم (إدارة المهرجان)
TT

«الفيوم السينمائي» يراهن على «الفنون المعاصرة» والحضور الشبابي

إلهام شاهين خلال التكريم (إدارة المهرجان)
إلهام شاهين خلال التكريم (إدارة المهرجان)

يراهن مهرجان «الفيوم السينمائي الدولي لأفلام البيئة والفنون المعاصرة» في نسخته الأولى التي انطلقت، الاثنين، وتستمر حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي على الفنون المعاصرة والحضور الشبابي، مع تقديم عدد من العروض في جامعة الفيوم.

وشهد حفل انطلاق المهرجان تكريم الممثلة المصرية إلهام شاهين، والمنتجة التونسية درة بو شوشة، إضافة إلى الممثل المصري حمزة العيلي، مع حضور عدد من الفنانين لدعم المهرجان، الذي استقبل ضيوفه على «سجادة خضراء»، مع اهتمامه وتركيزه على قضايا البيئة.

وتحدثت إلهام شاهين عن تصويرها أكثر من 15 عملاً، بين فيلم ومسلسل، في الفيوم خلال مسيرتها الفنية، مشيدة خلال تصريحات على هامش الافتتاح بإقامة مهرجان سينمائي متخصص في أفلام البيئة بموقع سياحي من الأماكن المتميزة في مصر.

وأبدى محافظ الفيوم، أحمد الأنصاري، سعادته بإطلاق الدورة الأولى من المهرجان، بوصفه حدثاً ثقافياً غير مسبوق بالمحافظة، مؤكداً -في كلمته خلال الافتتاح- أن «إقامة المهرجان تأتي في إطار وضع المحافظة على خريطة الإنتاج الثقافي السينمائي التي تهتم بالبيئة والفنون المعاصرة».

جانب من الحضور خلال حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)

وبدأ المهرجان فعالياته الثلاثاء بندوات حول «السينما والبيئة»، ومناقشة التحديات البيئية بين السينما والواقع، عبر استعراض نماذج مصرية وعربية، إضافة إلى فعاليات رسم الفنانين على بحيرة قارون، ضمن حملة التوعية، في حين تتضمن الفعاليات جلسات تفاعلية مع الشباب بجانب فعاليات للحرف اليدوية، ومعرض للفنون البصرية.

ويشهد المهرجان مشاركة 55 فيلماً من 16 دولة، من أصل أكثر من 150 فيلماً تقدمت للمشاركة في الدورة الأولى، في حين يُحتفى بفلسطين ضيف شرف للمهرجان، من خلال إقامة عدة أنشطة وعروض فنية وسينمائية فلسطينية، من بينها فيلم «من المسافة صفر».

وقالت المديرة الفنية للمهرجان، الناقدة ناهد صلاح: «إن اختيارات الأفلام تضمنت مراعاة الأعمال الفنية التي تتطرق لقضايا البيئة والتغيرات المناخية، إضافة إلى ارتباط القضايا البيئية بالجانب الاجتماعي»، مؤكدة لـ«الشرق الأوسط» حرصهم في أن تراعي الاختيارات تيمة المهرجان، بجانب إقامة فعاليات مرتبطة بالفنون المعاصرة ضمن جدول المهرجان.

وأبدى عضو لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة، الناقد السعودي خالد ربيع، حماسه للمشاركة في المهرجان بدورته الأولى، لتخصصه في القضايا البيئية واهتمامه بالفنون المعاصرة، وعَدّ «إدماجها في المهرجانات السينمائية أمراً جديراً بالتقدير، في ظل حرص القائمين على المهرجان على تحقيق أهداف ثقافية تنموية، وليس فقط مجرد عرض أفلام سينمائية».

إلهام شاهين تتوسط عدداً من الحضور في حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «تركيز المهرجان على تنمية قدرات الشباب الجامعي، وتنظيم ورش متنوعة لتمكين الشباب سينمائياً أمر يعكس إدراك المهرجان للمسؤولية الثقافية والاجتماعية، التي ستُساعد في دعم المواهب الشبابية في الفيوم»، لافتاً إلى أن «اختيارات لجنة المشاهدة للأفلام المتنافسة على جوائز المهرجان بمسابقاته الرسمية ستجعل هناك منافسة قوية، في ظل جودتها وتميز عناصرها».

يذكر أن 4 أفلام سعودية اختيرت للمنافسة في مسابقتي «الأفلام الطويلة» و«الأفلام القصيرة»؛ حيث يشارك فيلم «طريق الوادي» للمخرج السعودي خالد فهد في مسابقة «الأفلام الطويلة»، في حين تشارك أفلام «ترياق» للمخرج حسن سعيد، و«سليق» من إخراج أفنان باويان، و«حياة مشنية» للمخرج سعد طحيطح في مسابقة «الأفلام القصيرة».

وأكدت المديرة الفنية للمهرجان أن «اختيار الأفلام السعودية للمشاركة جاء لتميزها فنياً ومناسبتها لفكرة المهرجان»، لافتة إلى أن «كل عمل منها جرى اختياره لكونه يناقش قضية مختلفة، خصوصاً فيلم (طريق الوادي) الذي تميز بمستواه الفني المتقن في التنفيذ».