لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

الكاتب والصحافي مالكولم غلادويل يمنح معنى مختلفا لقصة «ديفيد وغولايث»

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟
TT

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

يندفع الراعي ديفيد (داود) باتجاه المقاتل الضخم غولايث (جالوت). بخفة وسرعة يقذف ديفيد الحجر الذي أصاب المقاتل في مقدمة الرأس. يسقط غولايث بعد أن أصيب بالدوار. قبل أن يستوعب ما حدث له ينقض عليه الراعي الصغير. يسحب منه سيفه بسرعة ويجز رأسه ويعلن انتصاره. هذه باختصار تفاصيل القصة الدينية الشهيرة التي تحمل رمزية واضحة: انتصار الضعفاء على الأقوياء.. انتصار العدل حتى لو كان ضعيفا على الظلم حتى لو كان قويا.
لكن الصحافي والكاتب الشهير مالكولم غلادويل يرى في كتابه الصادر حديثا الذي يحمل عنوان «ديفيد وغولايث» القصة من زاوية مختلفة. ديفيد لم يكن ضعيفا تماما كما نتصور، وغولايث لم يكن قويا بتلك الصورة التي نتخيل. مع وجود العون الإلهي، فإن الراعي الشاب استغل أيضا نقاط ضعفه وحولها إلى قوة. أولا، اختار نمطا جديدا للمقاتلة يعتمد على المباغتة، والذي يختلف عن الطريقة التقليدية الشائعة وهي تشابك الخصمين. كان يدرك أن تشابكه مع ذلك المقاتل الضخم يعني موته المحتم. هذا هو الخطأ الذي وقع فيه غولايث الذي توقع المعتاد فأصيب بالمفاجأة. ثانيا ديفيد رفض أن يرتدي الخوذة والدروع النحاسية التي كانت ستعوق وتثقل حركته، لأنه فكر باستراتيجية مختلفة تماما. ثالثا ديفيد كان ماهرا في استخدام المقلاع الذي جعل منه سلاحا فتاكا ومميتا. غولايث بدوره كان تقليديا لكنه أيضا كان يعاني من ثقل في الحركة واضطراب في الرؤية. لهذا عندما رأى ديفيد ظن مخطئا أنه يحمل سيفا.
هدف الكاتب من رؤيته الجديدة والمختلفة للقصة رمزي أيضا: الضعفاء ينتصرون على الأقوياء إذا عرفوا كيف يستغلون نقاط ضعفهم. «الأقوياء» لا تعني فقط الخصوم في المعركة، بل الظروف القاهرة والمشاكل الصحية، والمستويات المادية المتدنية، والفصول الدراسية المزدحمة، وغيرها. كل هذه الحالات التي ربما نراها كعقبات أمام نجاحنا ربما تكون أحد مصادر قوتنا التي لا ندركها لأول وهلة.
بأسلوبه الصحافي المشوق يسرد العديد من القصص التي تؤكد مرة بعد أخرى على وجاهة فكرته. في ما يخص عالم المال، يذكر قصة أحد أشهر رجال الأعمال الناجحين في هوليوود، الذي دفعته ظروفه الصعبة في الطفولة إلى إلهابه بالطموح لتكوين ثروة هائلة. عندما كان صغيرا كان أباه يأتي بفواتير الكهرباء مرتفعة الثمن ويهزها أمام وجهه قائلا له «عندما تخرج من البيت تترك نور غرفتك شغالا، نحن ندفع الآن ثمن كسلك!». في مرة أخرى دعاه الأب للعمل معه في مهنته الشاقة التي تتطلب جهدا بدنيا كبيرا. العمل كان مرهقا ومتعبا ومقرفا. يقول عنه «كرهته جدا.. لكن أبي تعمد أن يجعلني أعيش هذه التجربة القاسية لأنه لا يريدني أن أعيش هكذا طيلة عمري». هذه الظروف الصعبة والحالة الفقيرة، تحولت من مانع إلى دافع. زرعت في الطفل الصغير الرغبة الجامحة في النجاح المادي مهما كان الثمن. قام بالمتاجرة في عمر صغير جدا. استمرت معه هذه العزيمة طوال عمره ودفعته ليكون أكثر الرجال ثراء. ولكن بعد ذلك وقعت المعضلة وهي: هو عاجز تماما عن خلق هذا الحافز داخل أولاده الذين يدركون أن أباهم يملك ثروة طائلة، لهذا لا يملكون الطموح ولا العزيمة ولا الصبر الذي يملكه هو. يقول «لا يمكنني أن أفعل كأبي وأهز فواتير الكهرباء أمام وجوههم. هذا غير منطقي إذا كانوا يرون سيارات الـ(لامبورغيني) مركونة في الجراج!». من هنا يلمس الكاتب بذكاء فكرته الرئيسة. هو الضعيف الذي قهر الظروف الأقوى منه، وأولاده الأقوياء الذين ستخنقهم الظروف المريحة. تنطبق هذه الفكرة على أولاد المهاجرين. الآباء يعملون بكد ويحققون ثروة كبيرة، والأولاد يصابون بالدلع والكسل ويبرعون في شيء واحد فقط وهو: تبديد هذه الثروة!
الكثيرون يعتقدون أن قلة عدد الطلاب في الفصل الدراسي أفضل من الفصول المزدحمة قليلا. يقول الكاتب إن هذه القناعة التي صدقها الآباء لدرجة الهوس غير صحيحة. الفصول التي تضم عددا قليلا من الطلاب لا تختلف عن الفصول المكتظة التي فيها 40 طالبا أو أكثر. أفضل الفصول هي التي تضم تقريبا 20 طالبا، أقل قليلا أو أكثر قليلا. لكن لماذا؟! في الفصول المكتظة لا يمنح المعلم الطالب الاهتمام الكافي، ولكن في الفصول الصغيرة يجد المعلم والمعلمة صعوبة أيضا في تقسيم الطلاب إلى مجموعات مختلفة كل مرة، وتضعف القدرة على البدء بحوارات علمية وثقافية تنعش مخيلة الطلاب الصغار، والسبب كما يقول أحد المعلمين «في الفصول الصغيرة يتصرف الطلاب كالأشقاء في المقعد الخلفي من مؤخرة السيارة. ببساطة، ليس هناك أي طريقة لتبعد الأولاد المشاكسين عن بعضهم». معلم آخر يقول إنه كان لديه فصل بتسعة طلاب فقط وكان ذلك أشبه بالكابوس. الحوارات لا تنتعش بسهولة في المجموعة الصغيرة من الطلاب، ومن الصعوبة القيام بألعاب بهدف التدرب على الكلمات والقواعد. كل هذا لا تجده في الفصول متوسطة العدد، فمن السهل تكوين مجموعات، والنقاشات تقدح بسرعة. وهناك سبب آخر مهم وهو أنه في الفصل متوسط العدد من المهم أن يعيش الطالب بين مجموعة من الطلاب لديهم نفس المعاناة والقلق من المواد الدراسية، لأن ذلك سيبعده عن الإحساس بالعزلة. أضف إلى ذلك أن عددا كبيرا من الطلاب سيطرحون باستمرار الأسئلة نفسها التي يواجه هو نفسه مشاكل معها، مما سيساعده في تحصيله العلمي. يستطيع الطالب في الفصل متوسط العدد - الضعيف في هذه الحالة - أن يتعلم أكثر من الفصل منخفض العدد - القوي في هذه الحالة - الذي ربما يضر الطلاب ويعزلهم أكثر مما ينفعهم.
لكن ماذا عن البعض ممن لديهم حالات صحية تعوقهم عن النجاح؟ يقول المؤلف إن هذا الوضع الضعيف قد يكون السبب الرئيس لنجاحهم وتفوقهم. يسمي العلماء هذه الحالة بـ«الصعوبات المرغوبة». ماذا يعني هذا؟ العديد من القصص تشرح ذلك. في واحدة من هذه القصص كان هناك شاب يعاني من عسر القراءة. المصابون بعسر القراءة ينسون أول الجملة إذا وصلوا لنهايتها، لذا فإن استيعاب ما يقرأون مسألة شديدة الصعوبة. قرر هذا الشاب بعد نهاية الدراسة الثانوية أن يشتغل كعامل بناء، ولكن بعد أن قدم ابنه الأول قرر أن عليه أن يلتحق بالتعليم العالي ليصبح محاميا ويكسب المزيد من المال لدعم عائلته. لكن كيف يمكنه أن ينجح في مواده الدراسية وهو عاجز تماما عن قراءتها؟ لم يكن أمامه إلا استراتيجية واحدة وهي أن يطور بقدر ما يستطيع مهارة السمع والقدرة على التذكر. بينما كان زملاؤه في الفصل الدراسي مشغولين بتسجيل بعض النقاط المهمة التي يضيع منهم بعضها بسبب انشغالهم في الكتابة، كان هو يستمع بإنصات شديد ويحاول بقدر ما يستطيع الاستيعاب. قبل الاختبارات كان يجلس مع أحد زملائه الذي يسرد له أبرز النقاط المتوقعة في الاختبار، بينما يكون هو غارقا في حالة من الصمت والاستماع المركز. نجحت استراتيجيته واستطاع أن يتجاوز الدراسة ويصبح اليوم أحد أشهر وأنجح المحامين المختصين في الدعاوى القضائية. قدرة الاستماع المذهلة والذاكرة الفولاذية التي طورها في دراسته ساعدتاه في نقاشاته مع المحامين الآخرين وفي استنطاق الشهود واقتناص الاعترافات. عسر القراءة تحول إلى الصعوبة المرغوبة التي دفعته ليضغط على نفسه ويخرج بحل ناجح لمشكلته.
شاب آخر كانت لديه المعضلة نفسها. بدل أن يطور القدرة على الاستماع طور القدرة على الإقناع. عقب أغلب الاختبارات التي يأخذ فيها درجة متدنية بسبب عدم قدرته على القراءة، يذهب ليجتمع مع الأساتذة محاولا إقناعهم بوجهة نظره وصوابية إجاباته. مع الوقت تطورت مهارة الإقناع لديه بشكل لافت واستطاع بعد جدل طويل مع الأساتذة أن يغير غالبية درجاته. الـF يحولها إلى D، والـD إلى C، والـC يحولها إلى B، وهكذا. هذه القدرة الفائقة على الجدل والإقناع ساعدته ليس في التخرج في الجامعة فقط ولكن جعلته اليوم واحدا من أكبر المنتجين في هوليوود. ذكرتني ملكة التفاوض والإقناع عند هذا الرجل بقدرة كبار وكبيرات السن في السعودية (على الأرجح هذا موجود في بلدان عديدة) على التفاوض وكسر الأسعار عندما يتعلق الأمر بالبيع والشراء. لا يظهرون أي ضعف عاطفي نحو السلعة التي يرغبون في شرائها حتى لا يستغله البائع كورقة للضغط عليهم، بل يتركونه في حالة جهل تام بنواياهم. لديهم قدرة كبيرة على التفاوض والأخذ والعطاء وكسر الأسعار والخروج بأفضل الصفقات. أعصابهم فولاذية، والنقاش يمكن أن يستمر لوقت طويل حتى لو كان الخلاف على ربع أو نصف ريال سعودي. لكن المسألة لا تتعلق بحجم بالمال ولكن بحق التفاوض والجدل نفسه. لكن من أين أتت هذه المهارة والقدرة المثيرة للإعجاب؟ لو طبقنا نظرية الكاتب يمكن أن نخرج بإجابة منطقية بعض الشيء، وهي أن الظروف الحياتية الصعبة التي عاشوها في صغرهم أجبرتهم على اكتساب هذه القدرة كأداة للصراع والبقاء ومن أجل توفير القليل الذي يعني الكثير بالنسبة لهم. مع مرور الوقت، تغلغلت هذه الملكة داخلهم حتى اندمجت في نسيج شخصياتهم. هذا التحليل يفسر لماذا لا يملك أبناؤهم أو أحفادهم القدرة ذاتها. الظروف المعيشية الأفضل لم تجبرهم لاكتساب هذه المهارة الضرورية، فأصبح من السهل على البائعين الجشعين أن يفترسوهم بسهولة.
يسرد الكاتب عددا من الحالات والقصص التي تؤكد مرة أخرى على منطقية فكرته الرئيسة. في الرياضة يذكر المؤلف قصة فريق ضعيف المستوى في كرة السلة تحول لأقوى الفرق بعد أن حول ضعفه لقوة. اختار مدرب الفريق أن يستخدم طريقة كرة القدم للعب السلة. في لعبة كرة السلة يمنح اللاعب المساحة الكبيرة والوقت الكافي حتى يتحرك ويقذف بالكرة، لكن المدرب طلب من اللاعبات أن يلاحقن ويحاصرن أي لاعب يمسك بالكرة، كما يفعل لاعبو كرة القدم، ويضيقن عليه حتى يخطأ في التصويب أو التمرير. نجحت الخطة ونجح الفريق في تخطي فرق أخرى رفيعة المستوى. في الفن يعود الكاتب إلى قصة الرسامين الانطباعيين في باريس في منتصف القرن الثامن عشر الذين رفضت أعمالهم من قبل الصالون الرسمي الذي كان يحدد معايير الفن الجيد والمحترم. بعد نقاشات طويلة في ما بينهم قرروا أن يعلقوا لوحاتهم في مبنى آخر، وبعدها اشتهرت أعمالهم. يقول الكاتب إن هؤلاء الفنانين فشلوا في الانتشار عندما فكروا بطريقة أن يكونوا «أسماكا صغيرة في أحواض كبيرة»، ونجحوا عندما قلبوا المعادلة، أي أصبحوا «أسماكا كبيرة في أحواض صغيرة»، لأنهم لفتوا انتباه الكثير من محبي الفن لأعمالهم المجهولة سابقا. بدا تصرفهم في البداية هزيمة وضعفا، لكنه تحول إلى أقوى مصادر قوتهم.
رسالة الكتاب لمن يعتقد أنه ضعيف وعاجز هي: لا أحد ضعيف إذا عرف كيف ينظر إلى مصادر عجزه ويحولها إلى مصادر قوته. أما الرسالة الموجهة للأقوياء فهي: حذار من القوة فقد تكون الحبل الذي يلتف على رقابكم!

«ديفيد وغولايث»
المؤلف: مالكولم غلادويل



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).