لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

الكاتب والصحافي مالكولم غلادويل يمنح معنى مختلفا لقصة «ديفيد وغولايث»

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟
TT

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

يندفع الراعي ديفيد (داود) باتجاه المقاتل الضخم غولايث (جالوت). بخفة وسرعة يقذف ديفيد الحجر الذي أصاب المقاتل في مقدمة الرأس. يسقط غولايث بعد أن أصيب بالدوار. قبل أن يستوعب ما حدث له ينقض عليه الراعي الصغير. يسحب منه سيفه بسرعة ويجز رأسه ويعلن انتصاره. هذه باختصار تفاصيل القصة الدينية الشهيرة التي تحمل رمزية واضحة: انتصار الضعفاء على الأقوياء.. انتصار العدل حتى لو كان ضعيفا على الظلم حتى لو كان قويا.
لكن الصحافي والكاتب الشهير مالكولم غلادويل يرى في كتابه الصادر حديثا الذي يحمل عنوان «ديفيد وغولايث» القصة من زاوية مختلفة. ديفيد لم يكن ضعيفا تماما كما نتصور، وغولايث لم يكن قويا بتلك الصورة التي نتخيل. مع وجود العون الإلهي، فإن الراعي الشاب استغل أيضا نقاط ضعفه وحولها إلى قوة. أولا، اختار نمطا جديدا للمقاتلة يعتمد على المباغتة، والذي يختلف عن الطريقة التقليدية الشائعة وهي تشابك الخصمين. كان يدرك أن تشابكه مع ذلك المقاتل الضخم يعني موته المحتم. هذا هو الخطأ الذي وقع فيه غولايث الذي توقع المعتاد فأصيب بالمفاجأة. ثانيا ديفيد رفض أن يرتدي الخوذة والدروع النحاسية التي كانت ستعوق وتثقل حركته، لأنه فكر باستراتيجية مختلفة تماما. ثالثا ديفيد كان ماهرا في استخدام المقلاع الذي جعل منه سلاحا فتاكا ومميتا. غولايث بدوره كان تقليديا لكنه أيضا كان يعاني من ثقل في الحركة واضطراب في الرؤية. لهذا عندما رأى ديفيد ظن مخطئا أنه يحمل سيفا.
هدف الكاتب من رؤيته الجديدة والمختلفة للقصة رمزي أيضا: الضعفاء ينتصرون على الأقوياء إذا عرفوا كيف يستغلون نقاط ضعفهم. «الأقوياء» لا تعني فقط الخصوم في المعركة، بل الظروف القاهرة والمشاكل الصحية، والمستويات المادية المتدنية، والفصول الدراسية المزدحمة، وغيرها. كل هذه الحالات التي ربما نراها كعقبات أمام نجاحنا ربما تكون أحد مصادر قوتنا التي لا ندركها لأول وهلة.
بأسلوبه الصحافي المشوق يسرد العديد من القصص التي تؤكد مرة بعد أخرى على وجاهة فكرته. في ما يخص عالم المال، يذكر قصة أحد أشهر رجال الأعمال الناجحين في هوليوود، الذي دفعته ظروفه الصعبة في الطفولة إلى إلهابه بالطموح لتكوين ثروة هائلة. عندما كان صغيرا كان أباه يأتي بفواتير الكهرباء مرتفعة الثمن ويهزها أمام وجهه قائلا له «عندما تخرج من البيت تترك نور غرفتك شغالا، نحن ندفع الآن ثمن كسلك!». في مرة أخرى دعاه الأب للعمل معه في مهنته الشاقة التي تتطلب جهدا بدنيا كبيرا. العمل كان مرهقا ومتعبا ومقرفا. يقول عنه «كرهته جدا.. لكن أبي تعمد أن يجعلني أعيش هذه التجربة القاسية لأنه لا يريدني أن أعيش هكذا طيلة عمري». هذه الظروف الصعبة والحالة الفقيرة، تحولت من مانع إلى دافع. زرعت في الطفل الصغير الرغبة الجامحة في النجاح المادي مهما كان الثمن. قام بالمتاجرة في عمر صغير جدا. استمرت معه هذه العزيمة طوال عمره ودفعته ليكون أكثر الرجال ثراء. ولكن بعد ذلك وقعت المعضلة وهي: هو عاجز تماما عن خلق هذا الحافز داخل أولاده الذين يدركون أن أباهم يملك ثروة طائلة، لهذا لا يملكون الطموح ولا العزيمة ولا الصبر الذي يملكه هو. يقول «لا يمكنني أن أفعل كأبي وأهز فواتير الكهرباء أمام وجوههم. هذا غير منطقي إذا كانوا يرون سيارات الـ(لامبورغيني) مركونة في الجراج!». من هنا يلمس الكاتب بذكاء فكرته الرئيسة. هو الضعيف الذي قهر الظروف الأقوى منه، وأولاده الأقوياء الذين ستخنقهم الظروف المريحة. تنطبق هذه الفكرة على أولاد المهاجرين. الآباء يعملون بكد ويحققون ثروة كبيرة، والأولاد يصابون بالدلع والكسل ويبرعون في شيء واحد فقط وهو: تبديد هذه الثروة!
الكثيرون يعتقدون أن قلة عدد الطلاب في الفصل الدراسي أفضل من الفصول المزدحمة قليلا. يقول الكاتب إن هذه القناعة التي صدقها الآباء لدرجة الهوس غير صحيحة. الفصول التي تضم عددا قليلا من الطلاب لا تختلف عن الفصول المكتظة التي فيها 40 طالبا أو أكثر. أفضل الفصول هي التي تضم تقريبا 20 طالبا، أقل قليلا أو أكثر قليلا. لكن لماذا؟! في الفصول المكتظة لا يمنح المعلم الطالب الاهتمام الكافي، ولكن في الفصول الصغيرة يجد المعلم والمعلمة صعوبة أيضا في تقسيم الطلاب إلى مجموعات مختلفة كل مرة، وتضعف القدرة على البدء بحوارات علمية وثقافية تنعش مخيلة الطلاب الصغار، والسبب كما يقول أحد المعلمين «في الفصول الصغيرة يتصرف الطلاب كالأشقاء في المقعد الخلفي من مؤخرة السيارة. ببساطة، ليس هناك أي طريقة لتبعد الأولاد المشاكسين عن بعضهم». معلم آخر يقول إنه كان لديه فصل بتسعة طلاب فقط وكان ذلك أشبه بالكابوس. الحوارات لا تنتعش بسهولة في المجموعة الصغيرة من الطلاب، ومن الصعوبة القيام بألعاب بهدف التدرب على الكلمات والقواعد. كل هذا لا تجده في الفصول متوسطة العدد، فمن السهل تكوين مجموعات، والنقاشات تقدح بسرعة. وهناك سبب آخر مهم وهو أنه في الفصل متوسط العدد من المهم أن يعيش الطالب بين مجموعة من الطلاب لديهم نفس المعاناة والقلق من المواد الدراسية، لأن ذلك سيبعده عن الإحساس بالعزلة. أضف إلى ذلك أن عددا كبيرا من الطلاب سيطرحون باستمرار الأسئلة نفسها التي يواجه هو نفسه مشاكل معها، مما سيساعده في تحصيله العلمي. يستطيع الطالب في الفصل متوسط العدد - الضعيف في هذه الحالة - أن يتعلم أكثر من الفصل منخفض العدد - القوي في هذه الحالة - الذي ربما يضر الطلاب ويعزلهم أكثر مما ينفعهم.
لكن ماذا عن البعض ممن لديهم حالات صحية تعوقهم عن النجاح؟ يقول المؤلف إن هذا الوضع الضعيف قد يكون السبب الرئيس لنجاحهم وتفوقهم. يسمي العلماء هذه الحالة بـ«الصعوبات المرغوبة». ماذا يعني هذا؟ العديد من القصص تشرح ذلك. في واحدة من هذه القصص كان هناك شاب يعاني من عسر القراءة. المصابون بعسر القراءة ينسون أول الجملة إذا وصلوا لنهايتها، لذا فإن استيعاب ما يقرأون مسألة شديدة الصعوبة. قرر هذا الشاب بعد نهاية الدراسة الثانوية أن يشتغل كعامل بناء، ولكن بعد أن قدم ابنه الأول قرر أن عليه أن يلتحق بالتعليم العالي ليصبح محاميا ويكسب المزيد من المال لدعم عائلته. لكن كيف يمكنه أن ينجح في مواده الدراسية وهو عاجز تماما عن قراءتها؟ لم يكن أمامه إلا استراتيجية واحدة وهي أن يطور بقدر ما يستطيع مهارة السمع والقدرة على التذكر. بينما كان زملاؤه في الفصل الدراسي مشغولين بتسجيل بعض النقاط المهمة التي يضيع منهم بعضها بسبب انشغالهم في الكتابة، كان هو يستمع بإنصات شديد ويحاول بقدر ما يستطيع الاستيعاب. قبل الاختبارات كان يجلس مع أحد زملائه الذي يسرد له أبرز النقاط المتوقعة في الاختبار، بينما يكون هو غارقا في حالة من الصمت والاستماع المركز. نجحت استراتيجيته واستطاع أن يتجاوز الدراسة ويصبح اليوم أحد أشهر وأنجح المحامين المختصين في الدعاوى القضائية. قدرة الاستماع المذهلة والذاكرة الفولاذية التي طورها في دراسته ساعدتاه في نقاشاته مع المحامين الآخرين وفي استنطاق الشهود واقتناص الاعترافات. عسر القراءة تحول إلى الصعوبة المرغوبة التي دفعته ليضغط على نفسه ويخرج بحل ناجح لمشكلته.
شاب آخر كانت لديه المعضلة نفسها. بدل أن يطور القدرة على الاستماع طور القدرة على الإقناع. عقب أغلب الاختبارات التي يأخذ فيها درجة متدنية بسبب عدم قدرته على القراءة، يذهب ليجتمع مع الأساتذة محاولا إقناعهم بوجهة نظره وصوابية إجاباته. مع الوقت تطورت مهارة الإقناع لديه بشكل لافت واستطاع بعد جدل طويل مع الأساتذة أن يغير غالبية درجاته. الـF يحولها إلى D، والـD إلى C، والـC يحولها إلى B، وهكذا. هذه القدرة الفائقة على الجدل والإقناع ساعدته ليس في التخرج في الجامعة فقط ولكن جعلته اليوم واحدا من أكبر المنتجين في هوليوود. ذكرتني ملكة التفاوض والإقناع عند هذا الرجل بقدرة كبار وكبيرات السن في السعودية (على الأرجح هذا موجود في بلدان عديدة) على التفاوض وكسر الأسعار عندما يتعلق الأمر بالبيع والشراء. لا يظهرون أي ضعف عاطفي نحو السلعة التي يرغبون في شرائها حتى لا يستغله البائع كورقة للضغط عليهم، بل يتركونه في حالة جهل تام بنواياهم. لديهم قدرة كبيرة على التفاوض والأخذ والعطاء وكسر الأسعار والخروج بأفضل الصفقات. أعصابهم فولاذية، والنقاش يمكن أن يستمر لوقت طويل حتى لو كان الخلاف على ربع أو نصف ريال سعودي. لكن المسألة لا تتعلق بحجم بالمال ولكن بحق التفاوض والجدل نفسه. لكن من أين أتت هذه المهارة والقدرة المثيرة للإعجاب؟ لو طبقنا نظرية الكاتب يمكن أن نخرج بإجابة منطقية بعض الشيء، وهي أن الظروف الحياتية الصعبة التي عاشوها في صغرهم أجبرتهم على اكتساب هذه القدرة كأداة للصراع والبقاء ومن أجل توفير القليل الذي يعني الكثير بالنسبة لهم. مع مرور الوقت، تغلغلت هذه الملكة داخلهم حتى اندمجت في نسيج شخصياتهم. هذا التحليل يفسر لماذا لا يملك أبناؤهم أو أحفادهم القدرة ذاتها. الظروف المعيشية الأفضل لم تجبرهم لاكتساب هذه المهارة الضرورية، فأصبح من السهل على البائعين الجشعين أن يفترسوهم بسهولة.
يسرد الكاتب عددا من الحالات والقصص التي تؤكد مرة أخرى على منطقية فكرته الرئيسة. في الرياضة يذكر المؤلف قصة فريق ضعيف المستوى في كرة السلة تحول لأقوى الفرق بعد أن حول ضعفه لقوة. اختار مدرب الفريق أن يستخدم طريقة كرة القدم للعب السلة. في لعبة كرة السلة يمنح اللاعب المساحة الكبيرة والوقت الكافي حتى يتحرك ويقذف بالكرة، لكن المدرب طلب من اللاعبات أن يلاحقن ويحاصرن أي لاعب يمسك بالكرة، كما يفعل لاعبو كرة القدم، ويضيقن عليه حتى يخطأ في التصويب أو التمرير. نجحت الخطة ونجح الفريق في تخطي فرق أخرى رفيعة المستوى. في الفن يعود الكاتب إلى قصة الرسامين الانطباعيين في باريس في منتصف القرن الثامن عشر الذين رفضت أعمالهم من قبل الصالون الرسمي الذي كان يحدد معايير الفن الجيد والمحترم. بعد نقاشات طويلة في ما بينهم قرروا أن يعلقوا لوحاتهم في مبنى آخر، وبعدها اشتهرت أعمالهم. يقول الكاتب إن هؤلاء الفنانين فشلوا في الانتشار عندما فكروا بطريقة أن يكونوا «أسماكا صغيرة في أحواض كبيرة»، ونجحوا عندما قلبوا المعادلة، أي أصبحوا «أسماكا كبيرة في أحواض صغيرة»، لأنهم لفتوا انتباه الكثير من محبي الفن لأعمالهم المجهولة سابقا. بدا تصرفهم في البداية هزيمة وضعفا، لكنه تحول إلى أقوى مصادر قوتهم.
رسالة الكتاب لمن يعتقد أنه ضعيف وعاجز هي: لا أحد ضعيف إذا عرف كيف ينظر إلى مصادر عجزه ويحولها إلى مصادر قوته. أما الرسالة الموجهة للأقوياء فهي: حذار من القوة فقد تكون الحبل الذي يلتف على رقابكم!

«ديفيد وغولايث»
المؤلف: مالكولم غلادويل



رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».