استهلال عن داود باشا وتصدير لأنستاس الكرملي

مقتطف من {شعراء بغداد وكتابها}

استهلال عن داود باشا وتصدير لأنستاس الكرملي
TT

استهلال عن داود باشا وتصدير لأنستاس الكرملي

استهلال عن داود باشا وتصدير لأنستاس الكرملي

يصدر قريبا كتاب «بغداد وشعراؤها» عن دار «الوراق» ببيروت. وقد وجد مخطوطاً عند محمود شكري الآلوسي، وهو من أشهر مشاهير علماء بغداد. وبقي مخطوطاً مدة تنوف على نحو 20 سنة. والكتاب يترجم لسير الشعراء خلال فترة داود باشا (1767 - 1851)، وهو آخر ولاة المماليك. وننشر هنا جزءا من مقدمة وتصدير العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، والمراسلات بينه وبين نعوم سركيس فيما يتعلق بمؤلف المخطوط الفعلي، وما إذا كان معرباً أم موضوعاً
«توالت المحن على العراق، ولا سيّما على بغداد، في المائة الثامنة عشرة للميلاد. ومما زاد الطين بلّة، أن شوكة الترك صلبت وخشنت، وتمكنت لغتهم من البلاد، وأصبح أكثرهم ينطقون بهذه اللغة. وما بقي من الأهالي، كانوا يتراطنون؛ إذ أصبح لسانهم خليطاً من ألفاظ مختلفة الأصول؛ من عربية، وتركية، وفارسية، وكردية، وإيطالية. فقيّض الله حينئذٍ لدار السلام، رجلا عظيماً، أعاد إليها بعض الحياة الأدبية، وهو الذي اشتهر بعد ذلك باسم «داود باشا».
كان هذا الرجل، كرجيّاً نصرانيّاً، ولد في تفليس في نحو سنة 1190هـ - 1776م، فسرق من أهله صغيراً، وأُتي به إلى بغداد، فاشتراه واليها سليمان باشا. وكان حسن الصورة، ذكيّاً، خفيف الروح، ترى عليه مخايل النبوغ. فعني مولاه بتهذيبه، وتعليمه جميع العلوم المعروفة يومئذٍ، من عقلية ونقلية، حتى اتجهت إليه الأنظار من كلِّ أديب، وفاضل، وعالم.
فلما رأى مولاه أنه ضليع بما يعهد إليه، عيّنه في المناصب الواحد بعد الآخر، حتى أصبح دفتر دار بغداد. وهو من المناصب التي كان يحسد عليها صاحبها.
ولما عيّن سعيد باشا ابن سليمان باشا، والياً لبغداد، انهزم من العاصمة، لعدم اتفاقه مع ابن مولاه، ثم عاد إلى الزوراء لما وقع الوئام بينهما. ولما قتل سعيد باشا المذكور، أصبح داود باشا والياً للعراق كله.
وكان الولاة يومئذٍ في هذه الديار، مستبدين بحكمهم، مستقلين بإدارتهم، لبعد هذه الربوع عن العاصمة الكبرى، ولصعوبة المراجعة بين الولاة والسلاطين.
فلما رأى الخاقان محمود خان أن الوزير ينقاد لأهواء نفسه، مصراً على الجماح، والمضي في ركوب رأسه، أنفذ إلى العراق الوزير علي رضا باشا والياً عاماً، فحاصر هذا ذاك وحاربه في سنة 1246هـ - 1830م في إبان الطاعون الجارف للخلائق، وفي وقت طغيان دجلة، وغرق بعض محلات بغداد.
فلما رأى كبار بغداد الهول الذي يهددهم فتحوا لعسكر علي رضا باشا، باب البلدة المسمى بالباب الشرقي، ودخل عسكره، واستولى على البلدة، وتمكن من إرسال داود باشا إلى دار الخلافة، فنفي إلى بعض البلاد، ثم عفا عنه السلطان، وأرسله إلى المدينة، مجاوراً لها، وشيخا لحرمها، فتوفي ثمَّ في سنة 1267هـ - 1851م.
وكان داود باشا عمّر مساجد، وجوامع، وأسواقاً، ومن جملة تلك الآثار الباقية إلى اليوم، الجامع المشهور بـ(الحيدر خانة) وهو آية من آي البناء العربي. وكانت أمه سمعت بمبانيه فكانت تبني في تفليس بيعاً وديارات بعدما كانت تسمع عن أبنية ابنها. وكان داود باشا لا يتحرج عن القتل والفتك سياسة ومصادرة بعض المتمولين. وبالجملة كان عالم الوزراء ووزير العلماء، وفي أيامه اشتهر العلماء الذين ورد ذكر أسمائهم هنا. فكان الوزير أول من وضع الحجر الأول في إعادة بناء صرح الأدب في العراق الحديث، وعسى أن يمتد هذا الصرح إلى عنان السماء، وتقوى أُسسه على مدى الدهر، وهو المنتظر منه تعالى.
الأب أنستاس ماري الكرملي
- تصدير
وجدنا هذا الكتيب عند حضرة صاحب الفضيلة والعرفان السيد محمود شكري الآلوسي، من أشهر مشاهير علماء بغداد صاحب التآليف الجليلة الكثيرة. فاستأذناه في نسخه فأذن لنا بذلك، وبقي مخطوطاً في خزانتنا مدة تنيف على نحو عشرين سنة. ولما أصدرنا جريدة (العرب) في أيام الاحتلال البريطاني، استشرنا الأستاذ الآلوسي في نشره فلم ير بأساً في ذلك، إلا أنه زاد في الأمر أنه قال لنا: (لو تصلح عبارته لساغت مطالعته)، فأقدمنا على تنقيح ما فيه من العبارات العامية تحقيقاً لأمنية الأستاذ - رحمه الله-.
بَيْدَ أن ناشري الكتب في عصرنا هذا قد جنحوا إلى استبقاء كتب عصر انحطاط العربية بنصها، إذا ما أريد طبعها لتبقى بحلتها الأصلية ولا تلبس برداً غير ما أُلبست. فالأستاذ يعقوب أفندي نعوم سركيس يعرف أني أنا الذي حاولت تغيير لبسة المؤلف. لكنه لم يرد أن يصرح بكلامه تأدباً وتلطفاً منه. وهذا ما يظهر للقارئ عند وقوفه على جميع ملاحظاته. وعملاً بفكره، أبقينا النص ببردته وعدلنا عن فكر الأستاذ الآلوسي.
الأب أنستاس ماري الكرملي»
- رسالة الأستاذ نعوم سركيس إلى الأب الكرملي
من بغداد في 25 تشرين الأول 1935 وإليها
«حضرة العلامة الأب الجليل أنستاس ماري الكرملي المحترم:
تحيات واحتراماً جزيلاً، أعيد إليكم المخطوط الذي تكرمتم بإعارته إياي وهو المعنون في صفحته الأولى: «شعراء بغداد وكتّابها» (وهذه الكلمة بخطكم. ولنا أن نضيف إليها: «وعلمائها» فإنه قد ترجم بعضهم) في أيام المرحوم داود باشا في حدود سنة 1200هـ - 6 - 1785م إلى سنة 1246هـ -1 - 1830م تأليف الفاضل، والنبيه الكامل عبد القادر أفندي الخطيبي الشهرباني. هذا وإني لأُبدي لحضرتكم الشكر على هذه المنّة وهي ليست الأولى من نوعها فقد سبقتها عشرات.
إن طلبي من حضرتكم إعارة هذا المخطوط - كما تعلمون - هو أنني لما كنت سمعت منكم أن الذي نشر في صحيفة (العرب)، (البغدادية)، في سنة 1917م هو قسم منه، وقد كنت أظن قبل ذلك أنه لم يبق منه شيء غير منشور؛ إذ إن الترجمة المرقمة بعدد 34 الواردة في تلك الصحيفة في عددها المؤرخ في 17 تشرين الأول 1917م ليست بمختومة بكلمة تدل على بقاء باقية منه، فكان غرضي من استعارته الوقوف على التراجم غير المنشورة ليس إلا، بَيْدَ أنه بعد اطلاعي عليه بانت لي فيه مغامز، فرأيت أن أفصح عنها في هذه العجالة. وقد يفوتني شيء من ذلك.
وقد بدا لي أن التراجم غير المنشورة تسع عشرة، وأن الترجمتين الأولى والثانية، وهما ترجمة عبد القادر وداود باشا، ليستا من الأصل الذي لا بدّ أنه كان بالتركية - ولا من تعريب عبد القادر، إن صح أن التعريب له، كما سيجيء، لأن في صدر ترجمته هذا العنوان: (مترجم التذكرة). ويتصدر ترجمة داود باشا قوله: (ترجمة المرحوم داود باشا)، بينما التراجم التي تليهما تتصدرها كلمة (مبحث). وفضلاً عن ذلك، فقد ذكرت ترجمة عبد القادر وفاته مما لا يبقي ريباً فيما قلته.
اعتمدت (العرب) على اسم الكتاب ومؤلفه المدونين في صفحته الأولى، بينما أن الحقيقة تخالف ما جاء فيها عن اسم المؤلف، ولا توافق مضمونه الموافقة التامة كما سيرد. ولا بدّ من (أن) نسبة الكتاب في عنوانه إلى عبد القادر من خطأ النساخ وأشباههم، فإن ترجمته الواردة في أوله ترينا أنه معرب، ولي في ذلك أيضاً شكّ. وإذا رجعنا إلى الكتاب نفسه نجد جملاً وتراجم أُقحمت في الأصل أو في التعريب، فيتبادر إلى البال أن نسخة إما كان فيها حواشٍ فأدخلها المتن من نسخ عليها، فاختلط الحابل بالنابل، فضلاً عن الغلط في نسبة تأليف الكتاب في عنوانه إلى عبد القادر، وسيرد الكلام على ذلك والتحقيق عن المعرب.
لا غرو أن هذا الكتاب ركيك العبارة، كثير الأغلاط الصرفية، والنحوية وغيرها. ومن هذه الأغلاط ما هو للمعرب وما هو للنساخ على ما يلوح لي. وإذ كان ذوق ناشر التراجم في «العرب» يمج ذلك، بدا له أن يقوّم عبارات الكتاب بعض التقويم، فوافق وقوعه في بعض السهو المخل بالمعنى. من ذلك أنه جاء في «العرب» في ترجمة عبد القادر في الكلام على هذا الكتاب قوله: «وضع في ذلك العهد كتابه المذكور» بينما المخطوط يقول: «فبذلك الأثناء ترجم تذكرة الشعراء...» والفرق بين الكلامين - في مثل هذه الحال – ظاهر، فإنه من الواضح أن عبد القادر لم يكن مؤلفاً، وربما كان مترجماً، بمعنى معرِّب لا مترجم رجال، ولنا شواهد أخرى على ذلك كما سيأتي.
الأدلة على أن تأليف الأصل ليس لعبد القادر:
الجملة التي أوردناها آنفاً وفيها أنه مترجم بمعنى معرب.
جاء في المخطوط كذلك في ترجمة عبد القادر قوله: «مترجم التذكرة اسمه عبد القادر....».
وجاء كذلك في المخطوط قوله: «مبحث منلا مختار أفندي... أن المومى إليه والد عبد القادر أفندي المترجم الذي سلف ذكره في الأول...» قلت: لو كان الأصل لعبد القادر. لقال: «والدي» ولما اكتفى - على ما أظن - بترجمته ترجمة مقتضبة قوامها ثلاثة أسطر فقط. ولذكره بصيغة المتكلم كما ورد في مبحث الفاضل نائب بكتاش، ومبحث السيد علي البندنيجي، ومبحث صالح النجار، إذ قال المؤلف: «والدي». وإذ تقول ترجمة عبد القادر: إن التعريب له، دون أن تنسب إليه الأصل، فهذا الوالد الوارد ذكره في المباحث الثلاثة هو غير والده. وإني لأشكّ في أن التعريب له، كما سيجيء، فضلاً عن أن الأصل ليس له، لما سيأتي بيانه، مستخرجاً من مبحث ميرزا محمد. وإن كان التعريب له، فقد زيد عليه.
وهل لنا أن نضيف إلى هذه الأدلة أن ترجمة عبد القادر لم يرد فيها ذهابه إلى شمال بغداد مع أن المؤلف يقول عن نفسه إنه مكث في الموصل من سنة 1227هـ -3 - 1812م إلى سنة 1231هـ - 6 - 1815م، وعودته منها مجتازاً بإربل في سنة 1231هـ، ثم مروره بكركوك وإقامته فيها أياماً، كذلك في سنة 1231هـ.
هل التعريب لعبد القادر؟
تُرينا ترجمته أن التعريب له، ولكني لا أكتفي بذلك، لأن الشكوك تحوم حول هذا القول، ولأنه يصادف أن تأليفاً ينسب سهواً إلى غير صاحبه، فلا بدّ إذن من تدقيق النظر في الأمر وتمحيصه.


مقالات ذات صلة

على آخر خُطى ميخائيل نعيمة... «حارسة الذاكرة» تكشف خبايا السنوات الأخيرة

يوميات الشرق على هذه الكنبة كان يجلس نعيمة وقد حوّلت سهى كل زاوية إلى ذكرى (الشرق الأوسط) play-circle 04:01

على آخر خُطى ميخائيل نعيمة... «حارسة الذاكرة» تكشف خبايا السنوات الأخيرة

زيارة لمنزل المفكّر ميخائيل نعيمة، حيث كل غرفة وجدار وطاولة وكنَبة يحكي ذكريات أحد أهمّ أعمدة الأدب العربي وصنّاعه.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون د.كارولين ليف

كتاب ومختصّون من 25 دولة أجنبية يشاركون في «الشارقة القرائي للطفل»

تنظم «هيئة الشارقة للكتاب» من 1 حتى 12 مايو (أيار) المقبل في «مركز إكسبو الشارقة»، مهرجان «الشارقة القرائي للطفل 2024» تحت شعار «كن بطل قصتك»

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
الولايات المتحدة​ الكاتب الروائي البريطاني الأميركي سلمان رشدي (أرشيفية - أ.ب)

كتاب جديد لسلمان رشدي عن عملية الطعن التي تعرّض لها

يصدر في 16 أبريل (نيسان) بالولايات المتحدة كتاب للروائي سلمان رشدي الذي يتطرّق في هذا العمل إلى عملية الطعن التي تعرّض لها منذ عامين.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
كتب رسم تخيلي للجاحظ

خزانة التُّراث... كتبٌ تنقذ كتباً مِن الضّياع

كان كتاب محمّد بن إسحاق النَّديم الوراق (تـ: 380هـ) «الفهرست» معجماً لأسماء الكُتب أكثر مِنه للرِّجال؛ وهو مِن الأعمال المبكرة في هذا الشّأن

د. رشيد الخيّون
كتب مختارات شعرية للسلطاني تغطي أربعين عاماً

مختارات شعرية للسلطاني تغطي أربعين عاماً

عن سلسلة «شعر»، التي تصدرها دار الشؤون الثقافية العامة - وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، صدرت حديثاً للشاعر فاضل السلطاني مختارات تغطي أربعين عاماً ...

«الشرق الأوسط» (بغداد)

تمثلات الشخصية في الرواية

غائب طعمة فرمان
غائب طعمة فرمان
TT

تمثلات الشخصية في الرواية

غائب طعمة فرمان
غائب طعمة فرمان

ثمة تلازم جدلي سري، لكنه قلق، بين الشخصية الروائية من جهة؛ و«الحدث (action)» وبقية مكونات البنية السردية كالزمان والمكان والمروي له والنسق والخلفية «السوسيو تاريخية (setting)»... وغيرها.

ترى كيف تتشكل الشخصية سردياً، وكيف تمتلك القدرة على الحياة والتنفس والحركة في مناخات صعبة وقاسية ويمكن أن توصف في الغالب بـ«الدستوبية»، وكيف يتأتى لها أن تشتبك بالحدث الروائي، وتشكل معه ثنائية تقوم على التنازع بقدر ما تقوم على التضافر والتفاعل.

ثمة سؤال إشكالي دائماً في الحوار النقدي: هل يمكن أن تقوم الرواية دون حضورٍ فاعلٍ للشخصية الروائية، يقابله على الطرف الأبعد سؤال إشكالي آخر: وهل يمكن أن تنهض الرواية دونما حدث أو فعل روائي أو درامي قوي.

قد تظهر هذه الأسئلة على شاشة وعي الروائي الميداني، وقد تغيب بصورة عفوية أو مقصودة، لكن التساؤلين يشقان طريقهما بقوة وإصرار إلى فضاء الرواية في تزاحم تارة، وفي تضافر تارةً أخرى. وعندما يعلو حضور الشخصية الروائية نشعر عند ذاك بأننا إزاء رواية شخصية واضحة، ولكن دونما قصدية واضحة في إزاحة الحدث أو الفعل الروائي من فضاء الرواية.

باختين

ولكن في جميع الأحوال لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن الشخصية مكون بنيوي أساسي في آلية السرد، مثلما أن الحدث هو الآخر مكون بنيوي متحرك وفاعل ومؤثر.

وهناك من ينتصر لصعود الشخصية على الحدث الروائي كما يذهب إلى ذلك الشكلاني الروسي توماشفسكي الذي يرى أن الشخصية خيط هادٍ يمكن له فك المكررات، ويسمح بتصنيفها وترتيبها. ويقول رولان بارت إن المتواليات بوصفها كتلاً مستقلة تُسترد عند مستوى الفعل الأعلى ومستوى الشخصيات، وهناك من يرى أن الرواية هي في الجوهر فن الشخصية الروائية؛ لأنها تأخذ مكان الصدارة في الفضاء الروائي.

يظل هناك رابط عضوي بين الشخصية والراوي؛ أن الراوي يضمر شخصية معينة، لها وظائفها السردية. ويعود الاهتمام بدراسة الراوي إلى أفلاطون الذي ميز ثلاثة أنماط من الرواة في إلياذة هوميروس:

«فثمة راوٍ متوازٍ يقص ويُسمع صوته وهو هوميروس، وثمة راوٍ تتوارى فيه شخصية الراوي؛ هوميروس كذلك، وهناك راوٍ ثالث يجمهما معاً: فيرى أحياناً أو يترك للشخصيات الكلام أحياناً أخرى».

وللشخصية الروائية وظائف عديدة؛ خمس وظائف كما يراها الناقد جيرار جنيت هي:

1- الوظيفة السردية.

2- الوظيفة الآيديولوجية.

3- وظيفة الإدارة.

4- وظيفة الوضع السردي.

5- الوظيفة الانتباهية التواصلية.

كما يمكن تحديد وظائف ثلاث أساسية:

1- الوظيفة الوصفية التي يقوم فيها الراوي بتقديم وصف للأحداث والأماكن والصراعات.

2- الوظيفة التأصيلية: وفيها يقوم الراوي بتأصيل رواياته في الثقافة العربية مثلاً ويجعل منها أحداثاً للصراع القومي.

3- الوظيفة التوثيقية وفيها يقوم الراوي بتوثيق بعض رواياته، رابطاً إياها بمصادر تاريخية، زيادة في إيهام الراوي بأنه يروي تاريخاً موثقاً.

ويحاول «علم السرد الحديث (الناراتولوجي)» أن يفك الاشتباك بين بعض المصطلحات المتجاورة في هذا المجال، خصوصاً فيما يتعلق بمفاهيم الشخصية والراوي والمؤلف الواقعي والمؤلف الضمني: فالمؤلف الواقعي هو الكاتب الحقيقي للعمل الروائي، وهو كائن إنساني حي، والمؤلف الضمني هو المؤلف الذي ينتمي إليه النص دون أن يوجد فيه وجوداً مباشراً بالضرورة. فهو الوسيط بين المؤلف الواقعي والعمل الأدبي، أما الشخصية؛ فهي كائن يخلقه الروائي، وهي، كما يرى رولان بارت، شخصية ورقية، لكن بعض النقاد يرى غير ذلك.

وقد عرف جير ألديرنس «الشخصية» في «قاموس السرديات» بأنها كائن له سمات إنسانية ومنخرط في أفعال: إنسانية يمكن أن تكون رئيسية أو ثانوية؛ ديناميكية وثابتة، منسقة أو غير منسقة، مسطحة أو مستديرة.

ويرى «بروب» أن الوظيفة هي المنوطة بالشخصية داخل السرد المكاني، وهي التي تعطي دوائر فعل الشخصية في الحكاية التي تخلق تلك الشخصية، وهي عنده تختلف من حيث إنها عنصر متحول، بينما تشكل وظيفتها عنصراً ثابتاً.

ويرى لوغان أن الشخصية هي عنصر من عناصر النص، وإدراكها يرتبط بإدراك العناصر الأخرى التي يتكون منها النص الروائي كالمكان والزمان والسرد.

رومان رولان

ويقول باختين إن المهم في الشخصية ليست الشخصية ذاتها، بل المهم فيها هو ما يمثله العالم لها، وما تمثله هي لذاتها. ويرى سعيد يقطين أن الشخصية هي تجسيد لأنماط الوعي الاجتماعي والثقافي الذي تعبر عنه، وهي تعيش قلقها مع العالم ومع ذاتها؛ حيث تلعب علاقات الشخصيات داخل العمل الروائي بعضها مع بعض دوراً مهماً في إبراز البعد الاجتماعي الذي يرتهن إليه الكاتب في تقديم شخصياته.

أما فيليب هامون في كتابه «سيميولوجية الشخصية الروائية» فيعتقد أن مقولة «الشخصية» ظلت وبشكل مقارن إحدى المقولات الأشد غموضاً في الشعرية. وقد عمد هامون إلى دراسة الشخصية على مستوى الدال والمدلول عبر ثلاثة محاور؛ هي: مدلول الشخصية، ومستويات وصف الشخصية، ودال الشخصية، حيث ينظر إلى الشخصية الروائية بوصفها وحدة دلالية قابلة للتحليل والوصف، أي من حيث هي دال ومدلول، وليس بوصفها معطىً ثابتاً وقبلياً.

كما أشار الناقد المترجم سعيد بنكراد في مقدمة ترجمته لكتاب هامون إلى أن مقولة «الشخصية» مقولة «سيكولوجية» تحيل إلى كائن حي يمكن التأكد من وجوده في الواقع، وعرض أن تكون مؤنسنة (قصر الشخصيات على الكائنات الحية؛ الإنسان خصوصاً) وعرض أن تكون مقولة خاصة بالأدب وحده، فقد نظر إليها في هذا السياق، على العكس من ذلك، بوصفها علامة، يصدق عليها ما يصدق على كل العلامات، وبعبارة أخرى فإن وظيفتها وظيفة خلافية، فهي كيان فارغ، أي: «بياض دلالي»، لا قيمة له إلا من خلال انتظامه داخل نسقٍ هو مصدر الدلالات فيها، ويميز هامون في ضوء ذلك بين ثلاثة أنماط من الشخصية: شخصيات مرجعية، وشخصيات إشارية، وشخصيات استذكارية.

فالشخصيات المرجعية تحيل إلى عوالم مألوفة ضمن نصوص الثقافة والتاريخ، كما هي شخصيات التاريخ والأساطير والوقائع الاجتماعية. أما الشخصيات الإشارية؛ فهي شخصيات ناطقة باسم المؤلف، تماماً مثل جوقة التراجيديا اليونانية القديمة. أما الشخصية الاستذكارية فيكمن دورها في ربط أجزاء العمل السردي بعضه ببعض، فوظيفتها تنظيمية وترابطية، وهي تنشط ذاكرة القارئ، وهي الإدارة التي تمتلك الخطاب من خلال ذاكرة تتحول إلى مرجعية داخلية.

ويحتل رولان بارت مكانة خاصة في السرديات الحديثة، وبشكل خاص في تحليله مفهوم «الشخصية الروائية»، فهو أولاً صاحب المقولة الخلافية الكبيرة أن «الشخصية» هي مجرد كائن ورقي ليست إلا. ويعرف بارت «الشخصية» بأنها نتاج عمل تأليفي، وأن هويتها موزعة في النص عبر الوصف والخصائص التي تستند إلى ما يتكرر في الحكي، ويرى بارت أنه لا يمكن أن يوجد أي سرد (مرواة) دون شخصيات أو على الأقل دون فواعل.

وخلال كتاباتي السردية عن الرواية كنت أتقصى دائماً المظاهر والتجليات المختلفة للشخصية الروائية وعلاقتها بالحدث أو الواقع.

ففي دراستي عن «الشخصية الروائية» عند الروائي غائب طعمة فرمان في كتابي «المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي» وجدت أن أغلب شخصيات غائب طعمة فرمان تكافئ عالم التجربة الواقعية التاريخية بمفهوم الناقد روبرت شولز الذي ذهب إلى أن علاقة «الشخصية» بالواقع تقع في ثلاثة أنماط: يمكن لعالم الرواية أن يكون أفضل من عالم التجربة، أو أسوأ منه، أو مساوياً له، ففي الملاحم وروايات الرومانس يكون عالم الرواية أفضل من عالم التجربة، وفي الروايات الساخرة (الساتاير) يكون عالم الرواية أسوأ من عالم التجربة. أما في الرواية الواقعية (عالم المحاكاة في التاريخ) فعالم الرواية يساوي عالم التجربة.

ولم يحاول غائب طعمة فرمان أن يخلق عالماً بطولياً، أو شخصية بطولية.

إن شخصيات غائب طعمة فرمان شخصيات متواضعة وواقعية، مثل شخصيات نجيب محفوظ؛ لأنها تحمل كثيراً من الخصائص المتناقضة، الإيجابية والسلبية على السواء؛ لأنها منتقاة من الواقع الاجتماعي، ولذا فهي تسقط كل الأوهام حول تفوق الشخصية الروائية وتساميها على عالم التجربة، كما نجد ذلك في أدب الملاحم أو نماذج معينة من «أدب الواقعية الاشتراكية».


«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما
TT

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

وصف الناقد المسرحي البريطاني جيليان هانا «نصوص نسوية»، بأنها «تأدية للأدوار في المرآة». فهي مشاهد يومية تتحدث عن نساء وحيدات، وحزينات، وبسيطات وبائسات، وتتناول حياة المرأة في المجتمع الأوربي «المتطور» بنقد تهكمي جارح.

شريك النساء على المسرح، ونديمهن، قد يكون التليفون، أو الراديو، أو التلفزيون، أو متحدث خارج المسرح، أو جارة وهمية في نافذة مقابلة، كما الحال في «امرأة وحيدة». لكنهن مرحات، شجاعات، وواعيات وتتراوح انفعالاتهن بين السخرية المرة من المجتمع الأوروبي الرجولي المتبجح بالانفتاح، واليأس حد الانتحار بحز شريان الرسغ.

عرضت هذه المسرحيات النسوية القصيرة على مسرح «بلازينا ليبرتي» في إيطاليا سنة 1979 لأول مرة. أدت فرنكا راما الأدوار فيها بمفردها، وساعد زوجها درايو فو في كتابة النصوص وإعداد سينوغراف المسرح. مسرحيات تعالج الاضطهاد المزدوج، الاجتماعي - الجنسي والطبقي، المسلط على المرأة وحياة النساء بين المطبخ والأطفال والكنيسة والمصنع.

كسبت العروض شعبية كبيرة بين النساء والرجال في إيطاليا، وقدمت آنذاك في معظم المدن الإيطالية الكبيرة. وجرى عرضها في المصانع والمراكز الاجتماعية والنسوية، وخُصصت مداخيلها لدعم نشاط دور النساء المضطهدات.

قدمت راما أحد هذه العروض على سطح أحد مراكز الدفاع عن حقوق المرأة في روما. وبعد كل هذه العروض التحريضية، التي ألهمت النساء الإيطاليات، انتقلت العروض إلى ألمانيا وبريطانيا والسويد، وخصصت مداخيل العرض في فرنكفورت لدعم السجناء الإيطاليين بالسجون الألمانية.

وبالرغم من أن هذه المسرحيات تحمل عنوان «فصول نسوية»، لكن الرجل حاضر بقوة فيها، مرات قليلة من خلال وجوده مباشرة على المسرح، ومرات أخرى من خلال صوته على الهاتف أو من خلال دمية تمثله على الخشبة، ومرات لا حصر لها من خلال سطوته الاجتماعية والجنسية وقيوده المرئية وغير المرئية المفروضة على النساء.

تقول فرنكا راما إن المرأة، على المستوى العالمي، حققت الكثير على طريق تحررها الاجتماعي والاقتصادي، لكن تحررها الجنسي لا يزال يراوح في مكانه تقريباً. وترى أن التحرر الجنسي للمرأة يبقى طوباوياً بالنسبة للنساء، لأن الفروق الجنسانية بين الرجل والمرأة ليست تشريحية فحسب، وإنما ذهنية أيضاً. فهناك كثير من الممنوعات والخطوط الحمراء، بل وكثير من العقوبات الاجتماعية المذلة، التي تحول دون هذا التحرر.

إن مسرحية «باركني أبي فقد أثمت!»، ومسرحية «امرأة وحيدة»، اللتين شاركت فرنكا راما زوجها «المهرج» داريو فو في كتابتهما، هما من أفضل المونودرامات النسوية التي جرى تمثيلها في إيطاليا بالسبعينات. وأسهمت فرنكا راما في تمثيل كثير من هذه المسرحيات، خصوصاً «امرأة وحيدة»، التي جمعها الزوجان في كتاب واحد يحمل اسم «فصول نسوية» (أكثر من 10 مسرحيات وقطع نثرية).

عرضت مسرحية «امرأة وحيدة» على مسارح مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والسويد، بعد أن نشر المترجم ماجد الخطيب النص على الإنترنت. المرأة في النص وحيدة ويائسة محاصرة باضطهاد متعدد الأوجه، ولا أنيس لها غير جارتها في البلكون المقابل (على الطريقة الإيطالية) تدردش معها. إنها مضطهدة من قبل زوجها، الذي يقفل عليها باب الشقة خشية أن تخونه، وأخ زوجها المعاق الذي يتحرش بها جنسياً وتسكت عنه حفاظاً على عائلتها، وجار بعيد يتلصص عليها بالناظور، وآخر يعاكسها على الهاتف. هذا، فضلاً عن دائن يلاحق زوجها عند باب الشقة، ومراهق وقع في حبها ويحاول اقتحام البيت. ابنها لا يكف عن البكاء وزوجها لا يكف عن المهاتفة ليتأكد من وجودها في البيت وحموها يناديها بنفخات البوق. وهكذا مرة واحدة: ابنها يصرخ، وحموها يناديها بالبوق، والهاتف يرن، والدائن يطرق على الباب، والمتلصص يراقبها بالناظور، وزوجها يهدد بالعودة لتأديبها. لا يبقى أمامها غير التقاط بندقية زوجها المعلقة على الجدار.

ومسرحية «سامحني أبي فقد أثمت!» تتحدث عن أم يسارية معتدلة تضطر لخوض المظاهرات والمواجهات مع الشرطة بالشارع، في محاولة لإنقاذ ابنها المتطرف من خطر الموت والانجراف في تيار المخدرات والتطرف. يسوقها القدر، وهي ملاحقة من قبل رجل الأمن، إلى كنيسة ما تهرباً من المطاردة. وتضطر، خشية الوقوع بيد رجال الشرطة، إلى تقديم اعترافاتها أمام قس وهمي في كابينة الاعتراف، وتقسم أمامه «بماركس ولينين» ألا تقول غير الحقيقة.

صدر الكتاب عن دار «لارسه» في فرنسا بكتاب من القطع المتوسط في 98 صفحة، وهو ترجمة الكاتب العراقي المغترب ماجد الخطيب.


مجسّمات أنثوية جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
TT

مجسّمات أنثوية جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة

يحتفظ «متحف البحرين الوطني» في المنامة بمجسّمين أنثويين صغيرين من الطين المحروق، مصدرهما مقبرة تُعرف باسم «مقبرة سار الأثرية»، كما يحتفظ بقطعة مشابهة لهذين المجسمين، مصدرها مقبرة أثرية أخرى تُعرف بـ«مقبرة الشاخورة». تتبع هذه القطع الثلاث تقليداً واحداً جامعاً شكّل بداية لطراز تكوّن لاحقاً، وبرز خلال مجموعة من التماثيل صُنعت بتقنية الجص المصبوب، عُرفت باسم مجموعة «تماثيل النائحات».

كما كشفت أعمال التنقيب المستمرة في مدافن البحرين الأثرية عن مجموعة من التماثيل الطينية تتبع تقاليد جنائزية فنية عدة، كما تشهد الدراسات الخاصة بهذا الميراث الأثري.

تمثّل هذه القطع الثلاث طرازاً من هذه التقاليد التي تنوّعت على مدى قرون من الزمن. تتماثل هذه المجسّمات في تكوينها، كما في ملامحها، إلى حد كبير، وتختلف في بعض التفاصيل الثانوية. يمثّل كل من مجسّمَي «مقبرة سار» امرأة تقف منتصبة على قاعدة مستطيلة، رافعة يدها اليمنى في اتجاه صدرها، غير أن إحداهما تبدو أطول من الأخرى. في المقابل، يمثل «مجسّم الشاخورة» امرأة تقف في وضعية مشابهة، إلّا إنها تحضر في كتلة غابت عنها القاعدة المستطيلة.

تقع منطقة سار في المحافظة الشمالية، على بعد نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة، وتحدّها من جهة الشرق منطقة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها. يتألّف الموقع الأثري في سار من مستوطنة، ومعبد، والقليل من تلال المدافن. تقع المقبرة على بعد نحو 500 متر إلى الجنوب من المستوطنة، وفيها تنفصل كل غرفة دفن عن جاراتها على غرار أقراص خلية النحل. عثرت بعثة محلية على المجسّمَين في أثناء حملة التنقيب التي أجرتها خلال عام 1991. خرج أحدهما من القبر الذي حمل رقم «44»، وخرج الآخر من قبر مجاور حمل رقم «47».

تقف المرأة الأكبر حجماً على قاعدة تأخذ شكل مكعّب مجرد، ويبلغ طولها مع هذه القاعدة 14 سنتيمتراً. ترتدي هذه السيدة، كما يبدو، ثوباً طويلاً يحجب تفاصيل جسدها بشكل كامل، ومن خلف هذا الثوب، يبرز نتوء الساقين المنتصبتين على قدمين غابت ملامحهما. الذراعان ملتصقتان بالصدر. تنثني الذراع اليمنى، وترتفع يدها وتلتصق بالصدر. تنحني الذراع اليسرى انحناءة طفيفة، وتلتصق يدها بأعلى الفخذ. يرتفع الرأس فوق عنق ناتئة طويلة، وتكلّله «طَرْحَة» عريضة ينسدل طرفاها على الكتفين بشكل متواز. العينان دائريتان ضخمتان ناتئتان، يتوسط كل منهما بؤبؤ يحل على شكل نقطة غائرة. الأنف كتلة مثلثة تستقر بين العينين، والفم غائب وممحو بشكل كلّي. الأذنان كبيرتان، توازيان في ضخامتهما حجم العينين، وتتميزان بأقراط كبيرة تتدلى منهما. في هذه العلياء، تقف هذه السيدة في صمت مطبق، وتحدّق في المجهول.

تحضر نظيرة هذه المرأة في كتلة مشابهة، وتقف في وضعية مماثلة فوق قاعدة مستطيلة بسيطة. ساقاها قصيرتان للغاية قياساً بحجم النصف الأعلى من جسدها، وعناصر بدنها ممحوة. الذراع اليمنى مثنية نحو الأعلى، واليسرى متدلية، مع انحناءة بسيطة عند الكوع. العنق طويلة، وهي أشبه بوصلة تمتدّ بين الرأس والجسد، وتشكل قاعدة للوجه البيضاوي. تتكرر ملامح هذا الوجه وسماته الخاصة المتمثلة في العينين الدائريتين الشاسعتين والأذنين البيضاوين الضخمتين المزينتين بقرطين متدليين. يحيط بهذا الوجه وشاح يحجب الشعر، ويتدلى من خلف الكتفين.

خرج المجسم الثالث كما أشرنا من مقبرة أثرية تقع شمال غربي قرية الشاخورة، على بعد نحو 700 متر جنوب شارع «البديع»، شمال المنامة، ومصدره قبر حمل الرقم «12» في التل الذي حمل الرقم «1». يتكرّر المثال الجامع في هذه القطعة، ويظهر الاختلاف الثانوي في بنية العنق التي بدت هنا عريضة، والاتساع العجيب للعينين اللتين اتخذتا شكلاً بيضاوياً. تعود هذه القطع الأثرية الثلاث إلى الفترة الممتدة من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول للميلاد، وتتبنّى تقليداً فنياً مستقلاً لم ينتشر انتشاراً واسعاً كما يبدو؛ إذ لا نجد ما يماثلها في الميراث الجنائزي الذي يعود إلى تلك الحقبة.

مهّد هذا التقليد لنشوء طراز متطوّر، تمثل في ظهور مجسمات جنائزية أكبر حجماً وأكثر إتقاناً، صُنعت بتقنية الجص المصبوب والمطلي بالألوان. يجسّد كلّ من هذه التماثيل امرأة تثني ذراعيها، وتمسك بيديها خصلات شعرها المتدلية على كتفيها، في حركة تعبّر عن النحيب. وصلت إلينا مجسّمات عدة تختزل هذا المثال، ودخلت «متحف البحرين الوطني» في المنامة، أشهرها مجسّم خرج من مقبرة تُعرف باسم «المقشع»، نسبة إلى قرية تقع غرب المنامة، وتبعد عنها بنحو 5 كيلومترات، وتطل على شمال شارع «البديع».

يبلغ طول هذا المجسم 24 سنتيمتراً، وتشابهه قطع عدة من الحجم نفسه، تتبنّى هذا الطراز. يبرز الطابع الهلنستي بقوة في هذا النتاج، ويظهر في الثوب الإغريقي التقليدي، المطلي بخطوط سوداء وحمراء تُحدّد ثناياه عند حدود الصدر والخصر وأسفل الساقين. القامة منتصبة ومستقيمة، ونسبها التشريحية واقعية. ملامح رأس الباكية واضحة، وعيناها محددتان باللون الأسود. خصل الشعر مطلية كذلك بهذا اللون، ومنها خصلتان طويلتان تحدّان الوجنتين وتنسدلان على الصدر.

يحضر هذا النموذج بشكل مغاير في قطعة دائرية عُثر عليها في تل من تلال «مقبرة سار»، دخلت بدورها «متحف البحرين الوطني». تغيب القامة التقليدية المستقيمة، ويحضر النصف الأعلى منها وسط قرص قطره 13.6 سنتيمتراً، حدّد إطاره الناتئ باللون الأحمر. تطلّ المرأة النادبة، وترتفع خصلتا شعرها الطويلتان التقليديتان، وتشكلان نصف دائرة حول وجهها. تحدّق الباكية بعينيها المكحّلتين عبر هذه النافذة، وتندب صاحب القبر الذي ترافقه في مرقده الأرضي.

تشكّل هذه المجسّمات طرازاً من طُرز النحت والنقش الجنائزية المتعدّدة التي راجت في البحرين خلال الحقبة الطويلة التي حملت فيها الجزيرة اسم «تايلوس» اليوناني، وهو الاسم الذي أُطلق عليها عند استكشاف أرخبيل البحرين. يقابل هذا الطراز تقليد آخر وصلت منه عشرات الأمثلة، يتمثّل في شواهد القبور التي عُثر عليها في كثير من الأماكن خلال العقود الأخيرة في أثناء حملات المسح والتنقيب في مقابر «تايلوس» الحافلة بالمفاجآت الأثرية.


بودلير: جنون الشعر أو شعر الجنون

بودلير
بودلير
TT

بودلير: جنون الشعر أو شعر الجنون

بودلير
بودلير

يقول بعض الذين تعرفوا عليه شخصياً في تلك الفترة بأنه كان يلبس ثياباً نظيفة عموماً، ولكن قديمة شبه بالية، ومنظره الخارجي كان يوحي بالإهمال والهجران. (وهذا ما توحي به صوره أصلاً). كان بودلير يبدو وكأنه يشبه بيتاً متصدعاً لم يُسكن منذ زمن طويل. كان يبدو عليه وكأنه مُدمَّر من الداخل. وهو بالفعل مُدمّر. لقد استسلم بودلير لتقادير الحياة وألقى سلاحه منذ البداية. كانت الصدمة أكبر منه. لماذا تزوجت أمه بعد وفاة والده؟ لماذا لم تبق له وحده؟ لطالما عاتبها بكل حرقة، بكل مرارة: من كان لها ابن مثلي لا تتزوج! بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم مشبوهاً في نظر شارل بودلير. أصبح العالم ملغوماً، أو شبه ملغوم. بدءاً من تلك اللحظة عرف أن الشر موجود في أحشاء العالم كالدودة في قلب الثمرة.

لكن هذه التجربة المريرة مع الحياة، هذه الضربة الساحقة الماحقة، كانت مفيدة جداً وذات مردود هائل من الناحية الشعرية. وبالتالي، فرب ضارة نافعة. فإذا لم يكن يستطيع أن يرضي أمه بأن يصبح موظفاً كبيراً في سلك الديبلوماسية الفرنسية أو سلك القضاء أو سوى ذلك، فإنه على الأقل استطاع أن يرضي آلهة الشعر وربات الجمال... يضاف إلى ذلك أن الانحطاط في مهاوي الحياة إلى الدرك الأسفل يتيح لك أن تتعرف على الوجه الآخر للوجود: قفا الوجود. إنه يتيح لك أن تعانق الوجه السلبي، الوجه المظلم للأشياء. كان النزول إلى الطبقات السفلية والدهاليز المعتمة شيئاً ضرورياً جداً لكي يصبح بودلير أكبر شاعر في عصره وربما في كل العصور. ويقال بأن أمه لم تعرف قيمته إلا بعد موته وانفجار شهرته الأسطورية. عندئذ بكت وتحسرت، حيث لم يعد ينفع التحسر والندم... صحيح أن بودلير حاول بكل الوسائل أن ينجح ويحقق الرفاهية المادية والوجاهات الاجتماعية كبقية البشر. ولكنه في كل مرة كان ينتكس ويفشل. إنه كسيزيف الذي يرفع الصخرة من أسفل الوادي لكي يضعها على قمة الجبل. ولكن ما أن يصل بها إلى القمة تقريباً حتى تتدحرج وتسقط، وهكذا دواليك... عندئذ عرف بودلير أنه فاشل لا محالة، وراح يتحمل مسؤوليته لأول مرة كشخص فاشل، متسكع، يعيش على هامش المجتمع. بدءاً من تلك اللحظة راح بودلير يصبح الشاعر الأساسي للحداثة الفرنسية وربما العالمية. راح يصبح شاعر التمزقات والتناقضات الحادة التي لا حل لها (على الأقل مؤقتاً!) إلا بقصيدة جديدة. وقد جرّب الانتحار أكثر من مرة ولكنه لم ينجح. حتى في الانتحار فشل! راح يصبح شاعر الخطيئة الأصلية التي تلاحق الإنسان المسيحي من المهد إلى اللحد. ولكن في حالته خطيئة بلا خلاص ولا غفران. كل ديوانه «أزهار الشر» ما هو إلا مرآة لروحه، أو سيرة ذاتية مقنَّعة لشخصه. حياة بودلير كلها كانت تمزقاً أو تذبذباً بين السماء/ والأرض، بين المثال الأعلى/ والحضيض، بين الله/ والشيطان... هذا التوتر الذي لا يهدأ بين المتناقضات القاتلة، هذا النزول إلى المهاوي السحيقة، هو الذي جعل من بودلير أعمق شاعر في تاريخ الآداب الفرنسية. يمكنك أن تتهم بودلير بكل شيء ما عدا أنه شاعر سطحي مثلاً! الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعرف تقريباً إلا الجانب الفرح والمبتسم من الحياة. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعش تجارب مزلزلة في معمعة الوجود: أقصد تجارب قصوى تصل به إلى حافة الهاوية. ولكن نحن في حضرة أشخاص من نوع آخر. نحن في حضرة المتنبي أو المعري أو دانتي أو شكسبير، إلخ... الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً. هنيئاً له. مبروك وألف مبروك. ولكن نحن في حضرة الشاعر غير السطحي: أي في حضرة أشخاص من نوعية إدغار آلان بو أو دوستوفيسكي أو ريلكه أو بعض المجانين الآخرين... الشاعر غير السطحي (لماذا لا نقول الشاعر العميق؟) هو ذلك الشخص الذي عاش إلى جانب الحنين والأنين لسنوات طويلة، هناك حيث الأعماق السفلية، هناك حيث الدهاليز والعتمات والمطبات. وحيث الوحدة والهجران أيضاً. الشاعر الذي نقصده هنا شخص مهجور أبدياً، سرمدياً، أنطولوجياً. بعدئذ ينفجر الشعر، يتدفق الشعر. كل شيء له ثمن. ينبغي أن تموت ألف موتة لكي تكتب قصيدة واحدة لها معنى. الشاعر السعيد، الناجح، المتفوق، ليس شاعراً بالمعنى البودليري للكلمة: إنه فقط يطرب الناس أو يدغدغ المشاعر والحواس السطحية، ويحظى بشعبية هائلة. وتحبه الفتيات والمراهقون والسيدات الأرستقراطيات... هذا لا يعني بالطبع أنه عديم القيمة، أبداً لا. ولكن لا يهمنا أمره هنا. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل. نحن لا نشتم أحداً. نحن لا نهتم هنا إلا بالشعراء السيزيفيين: شعراء الأعماق والمهاوي السحيقة. نحن نريد أن نقيم علاقة بين «الشعر والعمق» كما يقول الناقد الفرنسي جان بيير ريشار في كتاب مشهور. كل ما نريد قوله هو التالي: الشاعر الذي لا ينزل إلى الأعماق السفلية، ويخاطر، ويغامر، ويقذف بنفسه في فوهة المجهول ليس شاعراً بالمعنى الذي نقصده. كان بودلير يشعر بالضجر والفشل وسأم باريس. كان يشعر بفراغ العالم وعبثية الأشياء. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح شاعراً. بدءاً من اللحظة التي يحصل فيها تناقض حاد بينك وبين العالم، بدءاً من اللحظة التي يصبح فيها العالم إشكالياً في نظرك، فإن ذلك يعني أنك قد تصبح شاعراً، أو فناناً، أو فيلسوفاً، أو مجنوناً... أول شرط من شروط الإبداع هو اختلال الثقة بينك وبين العالم، هو حصول شرخ عميق بينك وبين نظام الأشياء. لماذا يوجد الشر في العالم؟ لماذا تزوجت أمه؟ لماذا لا يوجد إلا الخير والصفاء والنقاء والشفافية في هذا العالم؟ لماذا نُفجع بأنفسنا، بأحبتنا الذين غابوا؟ لماذا؟ لماذا؟ ربما لهذا السبب لا يوجد شاعر كبير واحد في التاريخ كان متصالحاً مع نفسه أو مجتمعه أو زمنه:

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم

ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الفلاسفة والمفكرين الكبار. بالطبع يوجد في كل العصور عشرات الشعراء والكتاب الذين ينعمون بالحياة والثروات والوجاهات ولا يشعرون بأي مشكلة مع أي شيء كان. عن هؤلاء لا نتحدث هنا، ولا يهمنا أمرهم في قليل أو كثير. نحن نتحدث هنا فقط عن الشعراء الإشكاليين: أي الشعراء الذين فُجعوا بأنفسهم، الذين أصيبوا في الصميم منذ طفولتهم الأولى. نحن نتحدث عن كتّاب من نوعية بودلير، أو رامبو، أو فرلين، أو نيتشه، أو هولدرلين، إلخ... ذلك أن الصراع الداخلي مع الذات لا يقل خطراً عن الحروب العالمية أو الخارجية. حرب الداخل أخطر من حرب الخارج لأن العدو يصبح منك وفيك. وبودلير عاش هذا الصراع المحتدم ومشى به إلى نهاياته. هل كان بودلير شيزوفرينياً يعاني من انفصام الشخصية؟ بالطبع، كمعظم الكتَّاب الكبار. كل عقد الأرض، كل أوجاع الأرض، كانت موجودة فيه. ومن ذلك نتجت القصائد العبقرية! يكفي أن نفتح ديوانه على أي صفحة لكي نجد آثار هذه المعركة أو أشلاءها بادية للعيان:

أنا الطعنة والسكين

أنا الصفعة والخدان

أنا العجلة والعضوان

أنا الضحية والجلاد

أنا لَقلبي مصّاص الدم!

بودلير جلاد نفسه وليس في حاجة إلى شخص آخر لكي يجلده. لنقل بأنه استبطن العدوان الخارجي (القدر، الطفولة، زوج الأم، ضربات الغدر...) إلى درجة أنه أصبح قضية داخلية. لم يعد بودلير في حاجة إلى عدو خارجي لكي يعذبه. أصبح هو يعذب نفسه بنفسه. زوج الأم، هذا العدو المطلق، تحول وحشاً أخطبوطياً لا خلاص منه حتى ولو مات!

لكي يتخلَّص من نفسه، من مرضه الداخلي الذي يقضّ مضجعه، كان دوستويفسكي يتمنى أحياناً لو أن الأرض انشقَّت وابتلعته. وأما نيتشه فكان يتمنى لو يحصل زلزال هائل يدمّر الأرض ويخسفه معها. فيما يخص بودلير، نلاحظ أن شهوته كانت تتمثل في حصول إعصار كاسح يجرفه مع السيول:

أيها السيل لماذا لا تجرفني في انهياراتك؟ الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً


العالم والفيلسوف... والمثقف والشاعر

أفلاطون
أفلاطون
TT

العالم والفيلسوف... والمثقف والشاعر

أفلاطون
أفلاطون

لو كان الحديث عن الأزمنة القديمة لأضفت الساحر والكاهن لأضفت إلى العنوان، غير أن حديثنا عن الأزمنة المتأخرة نسبياً. ولربما كان حقيقاً أن نذكر الفقيه، لكنه سيجعل العنوان مزدحماً فوق ازدحامه. والغرض هنا هو تحديد عمل كل واحد من هؤلاء الأربعة، فهم مَن يصنعون الفكر والحضارات. هؤلاء الفرسان الأربعة جديرون بأن نميّز بعضهم عن بعض ليتضح دور كل واحد على حدة.

إنشتاين

كان ابن رشيد فيلسوفاً وفقيهاً، لكنني أستطيع أن أمسك بابن رشد الفيلسوف وهو يتسلل إلى منطقة ابن رشد الفقيه عندما أنظر في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو في الفقه المقارن، فأجده يذكر الآراء المختلفة في مسألة، ثم يقول: «وسبب اختلافهم هو كذا وكذا». الفقيه لا يسأل أبداً عن السبب، بل جُلّ همّه أن ينصر القول الراجح عنده، أو يلوذ بالمذهب. الفيلسوف هو المشغول بـ«لماذا؟» وهذا ميدان عمله.

علامة أخرى على الفيلسوف أنه ذلك الشخص الذي يقول قولاً أصيلاً. عندما تنظر في كل أعمال فولتير، فلن تجد قولاً أصيلاً واحداً. هو مقلّد لفيلسوفين إنجليزيين جون لوك وإسحاق نيوتن ويتابعهما في تجربتيهما التي أصبحت علامة على الفلسفة الإنجليزية، ولم يكن يميل إلى الفلسفة العقلية لابن بلده ديكارت. هو نظير توماس هوبز الإنجليزي العازف عن تجريبية قومه، الميّال إلى عقلانية ديكارت.

لا أرى فولتير فيلسوفاً، وكم له من الأحكام المتهورة، كاتهامه أفلاطون وأرسطو بأنهما كانا لاهوتيين! لكن أين سنصنّف هذا الرجل الذي خصّه ويل ديورانت بمجلد في قصة الحضارة، سماه «عصر فولتير»؟ إنه أقرب إلى شخصية المثقف التي هي دون منزلة الفيلسوف، وشهرته بسبب نشاطه الاجتماعي ومعاركه الشجاعة ضد اللاهوتيين المتعصبين، وقد كان أحد المؤثرين في الثورة الفرنسية. هذه من وظائف المثقف، لا الفيلسوف، أنه قائد الجماهير وصاحب المعارك الفكرية التي لا تنتهي. الفيلسوف لا يفعل شيئاً من هذا ولا يملك هذه الحرارة، ولا الحماسة للقتال.

فولتير

من جهة أخرى، العالم هو ذلك الباحث المشغول بالجزئي، معنيّ بدراسة الطبيعة، وقد يحفظ قوانين الحركة عند نيوتن والنظرية النسبية عند أينشتاين، لكنه لا يملك رؤية شمولية عن العالم. المفهوم الكلّي عنده مفهوم ميتافيزيقي لا يمكن التأكد من صحته بيقين، ولذلك لا ينبغي الانشغال به، لأن مثل هذه القضايا غير قابلة للتحقق وغير قابلة للتكذيب. من هنا سعى العلماء الفلاسفة، أعني الوضعيين والبراغماتيين وفلاسفة اللغة في القرن العشرين، إلى تقليص مساحة الفلسفة بهدم مصطلحاتها الميتافيزيقية، وجعلوها مجرد خادمة للعلم الحديث، ومنهم من دعا صراحةً إلى قتلها، أي قتل الميتافيزيقا، رغم أنه قد اتضح أن الجميع ميتافيزيقيون، ومن ضمنهم ألبرت أينشتاين.

قد يقال إن نيوتن لم يكن كالعلماء في عصرنا، فما كتبه في فلسفة الدين أكثر بكثير مما كتبه في الفيزياء، حسب شهادة ديورانت. تفسير هذا هو أن نيوتن كان عالماً وفيلسوفاً أيضاً (بالمعنى الكلاسيكي) وينبغي أن نتذكر أن عنوان كتابه الأشهر هو «الأصول الرياضية لفلسفة الطبيعة» وهناك أعلن عن المنهج الجديد الذي يستخدم الرياضيات لدراسة الطبيعة ويُسقط فلسفة الطبيعة الأرسطية.

كل عالم يتجاوز الجزئي هو في حقيقة أمره يعلن أنه فيلسوف بالإضافة إلى كونه عالماً، وكل الثورة العلمية التي أسقطت العلم القديم كانت تنطلق من موقف فلسفي واضح. لكننا نستطيع أن نميّز العالم المشغول بالمحسوس والفيلسوف الذي يدرس الرياضيات لكي تدفع بالعقل ليتسامى عن العالم المحسوس فيرتقي إلى عالم المُثل والمعقولات.

وثمة فرق مهم يذكره أفلاطون حين يصف الفلاسفة بأنهم من يعشقون الحقيقة، يعشقونها من كل اتجاه وليس عشقاً في اتجاه واحد، على خلاف الشاعر الذي طرده أفلاطون من جمهوريته لأنه يُبعد الناس عن الحقيقة، وهذا تضليل من وجهة نظر الحكيم، والفلسفة عنده أسمى من كل فاعلية فكرية، فلا يقارنها بالدراسات التجريبية أو الأدب أو التاريخ أو الشعر.

هناك فلاسفة استخدموا النظم لتقييد أفكار فلسفية مثل قصيدة «في الطبيعة» لبارمنيدس، حيث يذكر ما يعتقد أنها حقيقة الوجود المطلقة على نحو دوغمائي يقيني. هذا ليس بشعر، وبارمنيدس ليس بشاعر. ولكي نتصور الشاعر تصوراً واضحاً سنقارنه بالفيلسوف، فهو يزعم أنه صاحب فكر، وهذا ليس موضع نزاع، لكن غاية الفيلسوف تختلف عن غاية الشاعر. فالأول مشغول بتمييز الحقيقة عن الزيف، ولا توجد لديه غايات أخرى. بينما الشاعر، مهما حاول المحاكاة، لا تشغله الحقيقة، بل ما وراء الحقيقة. إنه تلك النفس التواقة للعذاب الذي يأتي بالإبداع:

فشبّ بنو ليلى وشبّ بنو ابنها

وأعلاق ليلى في فؤادي كما هي

صورة مؤلمة للغاية يُبكينا بها ويستميل تعاطفنا، لكنّ ظاهرها غير باطنها. فالشاعر بحاجة أبديّة إلى قصة حب تعذبه أو قضية أكبر تشغل باله لكي يبدع، ولو أعطته المعشوقة ما يريد لوقع في ورطة ولجفّ الإبداع. الشعراء يشبهون الفراشات الراقصة حول النار، تتلذذ بالاحتراق. كل الأربعة يستخدم الخيال، بمن فيهم العالم، لكنّ خيال الشاعر جامح أشد الجموح ولا يمكن قياس مدى إبداعه إلا بالشعور وحده، أعني الشعور المتغير من شخص لآخر، مهما حاولت كتب الأدب أن تعرّف الشعر والإبداع فإنها لن تحقق نجاحاً كبيراً، لأنه كالتصوف يُحسّ ولا يوصَف.

هكذا نشأت العداوة بين الشاعر والفيلسوف، فطردهم أفلاطون من جمهوريته الموعودة. تصوير شعراء الملاحم للآلهة بشكل حسّي شهوانيّ أغضب أفلاطون التقيّ، وبقيت الخصومة حتى أعادهم هايدغر من جديد وخلق نوعاً من الحوار البنّاء بين الاثنين، وحين جعل الشاعر كالفيلسوف كاشفاً عن الوجود، كشفاً لا يعني أنهم سيوصلوننا إلى حقيقة واحدة، بل إلى حقائق بعدد المتأملين.

* كاتب سعودي


«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»
TT

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

صدر حديثاً عن «دار التكوين» كتاب «شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»، وهو من تأليف مجموعة من المؤلّفين، وترجمة أسامة سراس، وتحرير ومراجعة فراس السوّاح، ويضم النصوص الكاملة للشرائع البابلية والسومريّة والحثيّة.

ومما جاء في تقديمه: «هذا الكتاب ذو أهمية كبيرة؛ لأنه يعود إلى أولى الشرائع المكتوبة في تاريخ البشرية؛ من حمورابي إلى موسى، التي وضعت لتنظيم العلاقات بين الأفراد على أساس من العدل والمساواة. كما تُعدّ الهيئات القضائية وتنظيماتها في حواضر الشرق القديم أوّل محاولة لتنظيم المؤسسات الحقوقية في مجتمع المدينة الذي أخذ شكله الأول في هذه المنطقة».


مجلة «المسرح» الإماراتية... مقالات وحوارات ومتابعات

TT

مجلة «المسرح» الإماراتية... مقالات وحوارات ومتابعات

صدر حديثاً عن «دائرة الثقافة» في الشارقة العدد الجديد الـ55 (أبريل/ نيسان 2024) من مجلة «المسرح» الشهرية، التي تضمنت مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات. ففي باب «مدخل» نشرت المجلة إفادات لعدد من الفنانين الإماراتيين حول مسيرة وأثر «مهرجان الشارقة للمسرح المدرسي»، لمناسبة دورته الحادية عشرة التي تنطلق في النصف الثاني من شهر أبريل، وتستمر إلى النصف الثاني من شهر مايو (أيار) المقبل.

كما تضمن الباب تغطية لفعاليات الدورة الثالثة والثلاثين من «أيام الشارقة المسرحية»، التي أقيمت في 2 مارس (آذار) 2024 وحتى التاسع منه.

في «قراءات» كتبت منار خالد عن مسرحية «جريمة بيضاء»؛ أحدث عروض المخرج المصري سامح بسيوني، وتناول حسام مسعدي «آخر البحر» التي قدمها أخيراً المخرج التونسي فاضل الجعايبي، وقرأ محمد الكشو «بعض الأشياء» للمخرج الإماراتي محمد جمعة، بينما حلّل عبد الكريم قادري «استراحة المهرجين» للمخرج الجزائري وحيد عاشور، وكتب سامر إسماعيل عن «المفتش العام» للمخرج السوري فؤاد العلي، وكتبت ميسون علي عن «تكنزا... قصة تودة» للمخرج المغربي أمين ناسور، وتناولت سعيدة شريف «كلام» للمخرج المغربي بوسلهام الضعيف... وتضمن الباب كثيراً من القراءات الأخرى.

في «حوار» نشرت المجلة مقابلة أجراها الحسام محيي الدين مع المخرج والباحث المسرحي اللبناني جان داود، تطرقت إلى بداياته وتجاربه في التنظير للمسرح وتأهيل وتدريب ممثليه، وتجربته الأكاديمية. وفي «أسفار» تحدث فريد أمعضشو عن رحلته إلى «مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي»، الذي نُظمت دورته السابعة في النصف الثاني من فبراير (شباط) الماضي.

أما في «أفق» فتطرقت آنا عكاش إلى تجربة المخرج السوري أمجد فضة في إخراج مسرحية «اللعبة الخطرة» بوساطة فريق تمثيلي من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.

وفي «رسائل» كتبت إيمان الصامت من منظور سينوغرافي عن عروض الدورة المنقضية من «مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي»، وتناول رابح هوادف تجربة مسرح الجنوب في الجزائر، ورصد شريف الشافعي أجواء المسرح خلال شهر رمضان في العاصمة المصرية، وكتب عامر عبد الله عن الدورة الأولى من «مهرجان مندوس لمسرح الشارع» في سلطنة عمان، ونشر كريم رشيد مقالاَ عن مقاربة سويدية جديدة لمسرحية «روميو وجولييت».

في «مطالعات» كتبت هادية عبد الفتاح عن كتاب «تطور فنون الأداء في مصر...» للباحثة والمخرجة نورا أمين الذي صدر أخيراً باللغة الإنجليزية. وفي «متابعات» نشرت المجلة حوارات قصيرة مع المخرج التونسي فاضل الجعايبي، والمخرج الفلسطيني بشار مرقص، والكاتب المغربي المسكيني الصغير.


السورياليون والحرب

لويس أراغون
لويس أراغون
TT

السورياليون والحرب

لويس أراغون
لويس أراغون

منذ بروزها في مطلع العشرينات من القرن الماضي، أعلنت الحركة السوريالية، عبر بياناتها النظرية ونصوصها الشعرية والأدبية وأعمالها الفنية، عن معاداتها للحرب، مُدينةً المجازر الفظيعة التي ارتكبت خلال الحرب الكونية الأولى، وما خلفته هذه الحرب من دمار وخراب عمراني وأخلاقي وإنساني. ويعود ذلك إلى أن أغلب مناصري هذه الحركة كانوا قد جُنّدوا وأرسلوا إلى جبهات القتال ليعيشوا الموت في كل ساعة، وفي كل يوم. لذا لم يحتفظوا من تلك الحرب «القذرة» إلا بذكريات سيئة. ورغم أنه نال وساماً تكريماً لشجاعته، فإن لوي أراغون كتب يقول: «أنا أنتسب إلى صفّ المجندين سنة 1917. أقول هنا، وربما يكون لي طموح في أن أحدث من خلال هذه الكلمات مُنافسة عنيفة لدى كل المُجندين، أقول هنا بأنني لن أرتدي الزيّ العسكريّ الفرنسيّ، ولن أضع الشارة التي وضعوها على كتفيّ قبل نحو 11 عاماً، ولن أكون خادماً للضباط، وأرفض أن أحيي تلك الكائنات المتوحشة ورتبها وقبّعاتها الملونة من نوع (غاسلار)». وفي مكان آخر، كتب لوي أراغون يقول: «سيكون لي الشرف في هذا الكتاب، وفي هذا المكان، أن أقول وأنا بكامل وعيي وبكامل مداركي العقلية، بأني أدوس على الجيش الفرنسي بكلّ أركانه». ولم يكن السورياليون الآخرون من أمثال أندريه بروتون وبول إيلوار وفيليب سوبو وبنجامين بيريه وغيرهم يختلفون عن لوي أراغون. وجميعهم كانوا يُدينون وحشيّة الحرب وعنفها واستخفافها بالحياة البشرية. ومجدّداً رفض صديقه جاك فاشي للحرب، ومُعاداته لكل ما يمتّ إليها بصلة، كتب أندريه بروتون يقول: «أمام أهوال وفظائع هذه الأزمنة، التي لم أر حولي ما يعارضها غير الصمت والهمسات، بدا لي هو الوحيد (يقصد جاك فاشي) الذي كان سليماً ومُعافى تماماً، والوحيد الذي أعدّ الدرعَ الذي يحميه من كل عدوى». ومُنتقداً غيوم أبولينير الذي مجّد الحرب قائلاً: «يا إلهي كم هي جميلة الحرب»، كتب أندريه بروتون يقول: «أعتقد أن الشعر لديه (أي لدى أبولينير) كان عاجزاً عن تجاوز المحنة، وأكثر أحداث العصر شناعة نجدها مُغيّبة هنا». وعندما اندلعت الحرب الكونية الثانية، لم يغفر أندريه بروتون للشعراء الذي انخرطوا في «الجوقة الوطنية»، ووجّه لهم انتقادات لاذعة، وناعتاً إياهم بـ«الجبناء» الذين يخونون الكلمة، ويهللون لزمن «تكميم الأفواه والعيون». ولمّا احتل الجيش الألماني بلاده سنة 1942، غادرها أندريه بروتون ولم يعد إليها إلا سنة 1947. أما رموز السوريالية الآخرون فقد انخرطوا في حركة المقاومة ضد النازية وساندوها،

بول إيلوار

سواء بالكلمة مثلما فعل إيلوار وأراغون، أو بالسلاح مثلما فعل رينيه شار الذي من وحيها كتب في أثره المعروف «أوراق هيبنوس»: «لا يُمكن للشاعر أن يظل لزمن طويل داخل سجن الكلمة. عليه أن يلتفّ بنفسه في دموع جديدة وأن يدفع أمره مسافة أبعد».

وخلافاً للدادئية التي نشأت في مدينة زيوريخ السويسرية سنة 1916، والتي أعلنت في بياناتها عن انسلاخها الكلي من عالم السياسة، أكدت الحركة السوريالية التي ولدت من رحمها أنها تتبنى «المادية التاريخية» لكارل ماركس لأنها «تحرّض على الثورة». وأضاف بروتون قائلاً بأنها -أي الحركة السوريالية- تستند إلى كل من رامبو وماركس، وإلى الثورة والشعر من دون أن تنفصل لا عن هذه ولا عن تلك، لأن الحرية لها «لون الإنسان».

لويس أراغون

واعتماداً على بيانهم التأسيسي، كان السورياليون يُدينون ما كانوا يُسمّونه بـ«الحروب الظالمة»، أي الحروب التي تخوضها الإمبراطوريات الاستعمارية والإمبريالية بهدف السيطرة على البلدان الضعيفة واستغلال ثرواتها، وتزوير تاريخها وهويتها. إلاّ أنهم كانوا يُظهرون تعاطفاً مع الحروب التحريرية، ومع ثورات وانتفاضات الشعوب ضد الاستبداد والظلم مثل حرب المغاربة بقيادة عبد الكريم الخطابي ضد الجيشين الإسباني والفرنسي. وفي شهر يوليو (تموز) 1925، أمضى السورياليون مع مجموعة «وضوح»، ومجموعة «فلسفة»، بياناً بعنوان «نداء للعمال المثقفين هل أنتم مع الحرب أو ضدها؟»، وفيه جاء ما يلي: «نُعلن مرة أخرى عن حقّ الشعوب، كل الشعوب، بقطع النظر عن جنسيتها، في تقرير مصيرها». وبعد مرور بضعة أسابيع على البيان المذكور، ازداد السورياليون راديكاليةً في توجهاتهم السياسية، وأصدروا بياناً بعنوان: «الثورة أولاً ودائماً»، وفيه هاجموا «القومية الشوفينية» باعتبارها «هيستيريا جماعية، جوفاء، وقاتلة». أما الوطن فهو «المفهوم الأكثر حيوانية، والأقل فلسفة». ومُخاطبين قادة الإمبريالية، أضاف السورياليون في بيانهم المذكور ما يلي: «نحن نُمثّلُ ثورة الفكر، ونعتبر الثورة الدموية عمليّة انتقام لا مفرّ منها للفكر المُهان بسبب أعمالكم الدنيئة. ونحن لسنا طوباويين، وهذه الثورة نحن لا نفهمها ولا نمارسها إلا في شكلها الاجتماعي... إن فكرة الثورة هي الحماية الأفضل والأكثر نجاعة للفرد». وفي بياناتهم اللاحقة، خصوصاً تلك التي صدرت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، أكد السورياليون مرة أخرى أنهم لا يساندون إلا ما سمّوه بـ«الحروب الثورية»، وأيضاً الانتفاضات الشعبية الكبيرة التي تطيح بالأنظمة الفاسدة والمستبدة مثل الثورة الفرنسية، وكومونة باريس، والثورة المكسيكية، والحروب التي تشنها الشعوب من أجل حريتها واستقلالها، والحرب الأهلية الإسبانية التي كتب عنها أندريه بروتون يقول بأنها «جسّدت كل الطموحات من أجل إنسانية أفضل» لأنها كانت صراعاً عنيفاً بين القوى الظلامية، وبين المتطلعين إلى الحرية في معناها العميق والحقيقي. وفي بيان صدر سنة 1936، أي بعد أن استولى الفاشيون والنازيون على السلطة في كل من إيطاليا وألمانيا، جاء ما يلي: «نحن من أجل عالم موحد تماماً، من دون أن تكون لهذا العالم صلة أو قاسم مُشترك مع هذا التحالف البوليسي ضد العدو رقم1. نحن ضدّ الخرق الورقيّة، وضدّ نثر عبيد الدواوين القنصلية. ونحن نعتقد أن النصوص التي كتبت حول البساط الأخضر لا تربط الناس إلاّ بأجسادهم التي تقاوم». وفي الخمسينات من القرن الماضي، لم يتردد السورياليون في إدانة الحرب التي شنها الجيش الفرنسي على الحركات الوطنية في فيتنام، وفي الجزائر... غير أن السورياليين لا يفكرون في الحروب إلاّ للإعلان عنها، إلاّ أنها لم تكن موحية لهم على المستوى الإبداعي والفني. لذا لم يكتبوا عنها لا قصائد ولا روايات. مع ذلك يمكن أن نجد آثاراً لها في «الموت للأبقار في ميدان الشرف» لبنجامين بيريه، وفي «الشرفة في الغابة» لغوليان غراك، وفي «الشيوعيون» للوي أراغون. عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، تحديداً في سنة 1940، كتب بنجامين بيريه يقول: «لا يمكن تجييش الشعر». ثم أضاف قائلاً: «لو كنت هناك، فلعلي أساهم في المقاومة بالنضال المسلح. لكن ليس بكتابة قصائد». وفي ربيع عام 1948، توفي طونان أرتو الذي انتسب إلى الحركة السوريالية إلاّ أنه كان رافضاً لتوجهاتها السياسية باعتبار أن السياسة بالنسبة له «تفسد الحياة واللغة»، وأنبه صديقه أندريه بروتون قائلاً: «باعتبار أحداث السنوات الأخيرة، يبدو لي أن كل شكل من أشكال الالتزام السياسي مُثيرٌ للامتعاض والسخرية إذا ما ظلّ دون الهدف الثلاثي الذي لا يتجزأ: تغيير العالم، تغيير الحياة، إعادة تركيب الإدراك البشري من كلّ القطع».


مكتبة خالتي

مكتبة خالتي
TT

مكتبة خالتي

مكتبة خالتي

جميع الأشياء في الوجود متصلة بشكل مقدّس... وإذا لم تكن تؤمن بقدرة السحر التي في الأشياء فليس مسموحاً لك السكن في محراب الفنّ

أحياناً يكون فِعل الموتى أكثر قوّة من تأثير الأحياء. ثلاثون عاماً مضت على وفاة خالتي جميلة، ومراجعي الأولى في القراءة مصدرها خزانة للكتب مصنوعة من خشب الصّاج اللامع، من إبداع النّجار عباس القرملي، وقد شغلت جانباً من غرفتها في بيت أهلي في مدينة (العمارة)، في أقصى جنوب العراق. قبل الحديث عنها لا بد من وصف للغرفة والمنزل، ولا أقول لمدينتي لأنّ الحديث عنها ربما أغراني بالتوسّع في هذا الموضوع، حتى الخروج منه إلى باب آخر.

لم تتخلّ البلدان التي احتلّها العثمانيّون عن آثار حكمهم بعد أن جاء الإنجليز وتحرّرت البلاد واستقلّت. فلو درسنا تاريخ العراق الحديث، لرأيناه صورة مطابقة لبلاد الأتراك، مثل الصراع بين الأحزاب القوميّة واليساريّة، وطريقة تغيير الحاكم عن طريق الانقلاب العسكريّ، بالإضافة إلى صور عديدة في نمط المعيشة من مأكل وملبس وعادات... وفي إحدى زياراتي إلى تلك البلاد، اكتشفتُ أن بيت أهلي المبني في الستينات، نسخة من بيوت حي نيشان طاش في إسطنبول التي شهدت نهضة معماريّة تأثّرت كثيراً بالعمارة الأوروبيّة في تلك السنين.

تحاول الطبقة المتوسطة في بلداننا تقليد الطبقات البرجوازيّة في البلدان الأخرى بأي صورة، منها تصميم البيت الهندسي وطريقة المعيشة، ولأننا لا نمتلك طبقة برجوازية واسعة في العراق -مثلما هي الحال في مصر محمد علي- صار المتوسّطون في المعيشة -مثل أهلي- يقلِّدون أثرياء العالم، وفقدوا بالنتيجة صفات الاثنين، وهذا أحد أسباب انهيار هذه الطبقة سريعاً على أيدي الحكومات العسكريّة الثوريّة اليساريّة... إن 7 أجيال على الأقل يحتاجها البلد من حالة الاستقرار في ظلّ نظام وطني، لكي تترسّخ فيه جذور هذه الفئة، وهذا ما لم يحدث في العراق في تاريخه القديم أو الحديث، وهذا ليس موضوعنا.

بعد الحديقة الواسعة، ينفتح البيت إلى الداخل عبر بوّابتين كبيرتين متجاورتين: إحداهما تؤدي إلى غرفة الضيوف، والأخرى إلى بهو المعيشة، ويُلحق بالبهوِ في بعض البيوت مكتب واسع يخصّ جميع من في البيت، ولا يخصّ أحداً، ويُشرف على حديقة خاصّة به عبر نافذة واسعة.

كانت خالتي تعمل مديرة مدرسة، ولأنها قضت حياتها عزباء، استقلّت في هذه الحجرة التي صارت مُلكاً للجميع، ننتقل إليها من غرفة المعيشة بحريّة كاملة.

تتلمذ النجّار الذي صمم خزانة الكتب التي ألهمت فيّ حبّ الأدب، على أيدي فنانين أسطوات يهود، تمّ تهجيرهم في العهد الملكي (الوطني) إلى فلسطين المحتلة، وهذا ليس موضوعنا أيضاً. أي براعة فنيّة! أي توازن! تقف المكتبة بأبوابها الخشبيّة والزجاجيّة فائقة الأناقة على سيقان بهيئة أسطوانيّة تستدقّ في الأسفل، كأنها كعب حذاء امرأة فاتنة. مع كتب التاريخ والأدب، تحتوي الخزانة على دوريّات شهريّة من مجلّة «بوردا» الخاصّة بالفساتين والثياب والعطور والحقائب، كلّ ما يخصّ سِحر المرأة اجتمع في المجلّة، وصار مثل عالم جديد وفاتن، انعكس في عيني الطفل الذي تعلّم القراءة في الرابعة من عمره، وكان يشعر بأنه يصير إنساناً جديداً، أو أنه يُولد ثانية وبطريقة فنيّة هذه المرّة، كلّما تشبّعت عيناه بصفحات المجلّة الملوّنة؛ حيث ينام الورق على هدهدات خطوات فاتنات أوروبا، بأثوابهنّ وعطورهنّ وزينتهنّ.

شيئاً فشيئاً انعكس هذا الشعور على بقيّة الكتب في المكتبة. يفتح الطفل الصفحة الأولى ويكتشف أنه صار مخلوقاً جديداً؛ لأن ثمة امرأة تختبئ بين طيّاته، وكلّ كلمة تزداد عمقاً ومعنى، لكونها ترتفع في إطار من زينة وعطر ونور، وعندما يبلغ الصفحة الأخيرة، تتألّف عِشرة بينه وبين امرأة الكتاب، تُضيف صفة جديدة إلى تكوينه الأوّلي. بأي إيمان طفولي وإخلاص عجيب كنتُ أستكشف هذا الإغواء، وأنا جالس في حديقة البيت، أقرأ بين أشجار التفاح والسّدر والنخل، وهناك نافورة في الوسط! مُذّاك صار الكتاب وجوداً أبحث فيه عن روح وجسد متألقَين سوف يسكناني حتماً، وأصير بواسطتهما كائناً جديداً. يقول غوته: «نحن لا نتعلّم أي شيء عبر القراءة، وإنما نصبح شيئاً آخر».

في عمر الرابعة، جرّب الطفل -بالإضافة إلى القراءة- أول مرّة، كيف ينفصل عن روحه كي يستطيع رؤية المرأة التي هي غيرُ أمّه وخالته وأختيه؛ أنعام وأحلام. في مدينة العمارة كان هناك متنزّه اسمه «حديقة النساء»، وكنت أزوره بصحبة أمّي وخالتي وأختيّ. لن يغيب عن بالي مشهد الفساتين القشيبة ترتديها النسوة، مع الغموض في العيون الواسعة والكحيلة، وكانت زيارة الحديقة تمنحني الشعور ذاته بالسكينة وعلوّ النفس الذي يعقب معاينة صفحات المجلّة بتروٍّ، من أجل ألا يفوتني أي تفصيل.

عندما دخلت «البوردا» في حياة الناس أحدثت طموحاً شديداً لدى النساء، مع سعي مستمر للهروب من الواقع المتخلف. انتقلت الحياة في المدينة بفضل هذه المجلّة من عصور الظلام إلى المدنيّة. ما زلتُ أذكر مشهد خالتي جميلة وهي تدرس خرائط «الباترون» (ورق رقيق تؤشر عليه علامات تفصيل الثوب النسائي) تساعدها أمي أو أختي من أجل أن يكون المقاس والهيئة مطابقاً لما مثبّت في الصورة الموديل.

إن للمجلّة –الكتاب– القدرة على تغيير الواقع، كلّ الواقع؛ لأن المرأة هي كلّه، وعلى إنقاذ الرجل في الوقت ذاته. الكتابُ هدّامٌ وأخلاقي أيضاً، ويشبه تأثيره ما كانت تقوم به المجلّة النسائيّة في بيئة شرقيّة في مدينة العمارة؛ حيث كانت النساء ممتلئات بالمرارة، يتحجبن خارج البيوت بالعباءة والبوشي يغطي الوجه، قبل سنين قليلة فقط من دخول المجلة وانتشارها في مكتبات المدينة العامّة والخاصّة. هل نقول إن ما يفعله الكتاب لدى الفرد يماثل انعكاس تأثيره في المجتمع؟

إن جميع الأشياء في الوجود متصلة بشكل مقدّس، وإذا لم تكن تؤمن بقدرة السحر التي في الأشياء، فليس مسموحاً لك السكن في محراب الفنّ، وبالتالي العيش فيما يُدعى بالواقع، على أن يتملّكك هذا السّحر فلا يتركك إلا بعد أن يغيّرك بصورة كاملة. أكتب هذه الأسطر في مقهى على رصيف شارع العامل في مدينة الكوت، وصار لدي إحساس بأن ثمة شخصاً يراقبني بعينين حارّتين صديقتين. كان يمرّ في الشارع المزدحم طفل يقودُه أبوه ويبلغ نحو الرابعة. راح ينظر إليّ، ولمّا التقت عيناه عينيّ علَتْ محيّاه ابتسامة عريضة. ظلّ دائراً رأسه للوراء، يتطلّع إليّ عندما تجاوزاني هو وأبوه وصارا بعيدَين. هل انتقلت قوّة السحر في مكتبة خالتي إلى الطفل، فأصبح يعاينها بقلبه وعينيه وعقله؟! إنه افتراض لا يخلو من الصحّة إذا كنا نؤمن بأعاجيب عالمنا والقصص الخيالية والخرافات التي نعيشها، والتي يترجمها الأدباء إلى صور حقيقيّة على الورق؟ لو ثبتت صحّة الأمر لاكتشفنا مدى التأثير والقدرة على التغيير اللذين يحملهما مطبوع يخرج إلى النور وينتشر بين الجميع.


«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد
TT

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» ببيروت، صدرت للكاتب والفنان نبيل أبو حمد رواية بعنوان «عازف الغياب»، وهي، كما جاء على الغلاف الأخير «رواية سوريالية»... ربما منذ قرن لم يُكتب بالعربية مثلها... ربما في خمسينات القرن الماضي كتبت نصوص سوريالية عربية لكتاب مهاجرين إلى باريس هرباً من دكتاتورية النص والحكام.

وجاء في كلمة الناشر: «تتناول هذه الرواية سيرة حياة فنان يظهر وهو يحمل لوحة من القماش (الكانفاس) وعقله منشغل بالألوان والأشكال التي ينوي أن يمليها على بياض القماش وعندما يحاول العبور للوصول إلى المقهى في الضفة الأخرى من الشارع حيث ينتظره فنجان «الكابتشينو» كعادته كل صباح؛ تأتي سيارة مسرعة وتقذفه بمقدمتها طائراً في فضاء عبثي مليء بالجنون والضياع.

عبر هذا الحدث الفجائي «الاصطدام»، يرسم الكاتب لأحداث روايته فضاءً مجازياً لا وجود له في الواقع المحسوس. فالراوي «عازف الغياب» وهو - بطل الرواية - سوف يدخل في غيبوبة لا يفرّق فيها عقله بين الواقع والخيال، وليجد نفسه على ظهر ببغاء تحمله وتطير به بعيداً، خارج المكان والزمان، ومع كل محطة يتوقف عندها، يتغير حاله ويقابل أناساً مختلفين في صورهم وأشكالهم، ومنهم الزعماء، والكتّاب، والشعراء، والحكماء، والملائكة، والشياطين، والحيوانات، والطيور وغيرهم من الناس العاديين. لكن عند الحديث معهم يتحولون إلى أشكال غرائبية غير مألوفة، ويمارسون أفعالاً خارج المعقولية.

وربما أراد الروائي هنا من وضع شخصية «الفنان - عازف الغياب» على مفترق طرق بين النجاة والهلاك، وإدخالها في عالم غرائبي للتعبير عن أزمة الإنسان المعاصر وخيبته في تحقيق ما تصبو إليه ذاته داخل العالم الحقيقي؛ كما يكشف هلاكها عن شعور مليء بالعدمية واليأس».

وهذه الرواية هي التاسعة لنبيل أبو حمد، الذي كان قد أصدر من قبل «العطيلي» و«بيت من الشرق» و«راكمان وعبد الرحمن» و«الرحيقيون» و«تغريدة الصوفي»، و«النمر» و«شيخوخة الأمير الصغير»، و«حدث في باريس»، إضافة إلى مجاميع قصصية، وعدد من المطبوعات الفنية، منها «هواء نبيل أبو حمد، لوحات كاريكاتورية»، و«لوحات كاريكاتورية لمشاهير العالم» و«قصيدة ميا مع الشاعر نزار قباني» و«ساعة الموت شعراً، مع الشاعر السعودي غازي القصيبي»، وغيرها.

جاءت الرواية في 182صفحة من الحجم الصغير، وكانت لوحة الغلاف لأبو حمد.