«الشرق الأوسط» تستكشف «دمشق الصغيرة» في القاهرة

الوجبات الشعبية رهان اللاجئات... والمطاعم تجذب المصريين والأجانب

سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

«الشرق الأوسط» تستكشف «دمشق الصغيرة» في القاهرة

سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
سوريون يديرون مشاريع غذائية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)

في أحد منازل ضاحية العبور بشرق القاهرة، تقوم مجموعة من النساء السوريات باستغلال خبرتهن في الطهي لإعداد الوصفات السورية التقليدية؛ وبعناية يقمن بتحضيرها لضمان مذاق يعمل على رواج أطباقهن التي يبتاعها منهن المصريين والأجانب في مصر على السواء، حيث تذهب تلك الأطباق مباشرة من مطابخهن إلى الزبائن بعد تسجيل الطلب تليفونيا.
نساء المطبخ السوري أطلقن على مشروعهن الصغير مسمى «زيت زيتون»، وهو اسم ترويجي من منتج سوري شهير، وهدفن من ذلك تزويد أنفسهن بمصدر جيد للمال، وتوفير دخل ثابت، وهو ما نجحن فيه بالفعل خلال السنوات الأربع الماضية، حيث لاقت صناعة الأطعمة السورية الشهيرة رواجا بين المصريين.
أما في الجهة المقابلة من القاهرة، حيث تقع ضاحية السادس من أكتوبر، فقد تخطى المطبخ السوري المنازل إلى المطاعم، ومن نطاق المشروع الصغير إلى المتوسط، بعد أن افتتح السوريون مجموعة من المطاعم لتكون مصدر رزق لهم، حيث استقر الكثير منهم في هذه المدينة بعد فرارهم من سوريا إلى مصر، مستغلين مهاراتهم ومدخّراتهم من أجل توفير لقمة العيش، واختاروا الدخول في مجال المأكولات، وهو «الرهان» الذي نجح بتفوق بعد أن جذبت المطاعم آلاف المصريين والأجانب المقيمين بالقاهرة.
الرهان على مصر لم يظهر فقط على الأرض، فقبل أيام قليلة انتشر في الفضاء الإلكتروني «تغريدات» ينصح مضمونها - الذي كتبه سوريون مقيمون في القاهرة - بالقدوم إلى مصر، مؤكدين أنها الأفضل بين جميع الدول العربية بالنسبة لهم، وذلك بعد أن طالب شاب سوري من مواطنيه تقديم النصائح إليه، والإجابة عن سؤاله «هل المعيشة بمصر جيدة؟».
منذ 6 سنوات وحتى اليوم؛ ما زالت مصر ملجأ لآلاف الأفراد والعائلات السورية اللاجئة التي جاءت تبحث عن الأمان، والفرار من ويلات الحرب في بلادهم واستمرار الصراعات، وعجزهم عن مواصلة الحياة والاستقرار هناك.

120 ألف لاجئ
ويقدر عدد اللاجئين السوريين في مصر بنصف مليون سوري في الوقت الراهن، بحسب إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي أعلنت خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي عن تسجيل مكتب المفوضية في القاهرة ما يزيد على 120 ألف لاجئ سوري، بينهم قرابة 52 ألف طفل، استضافتهم مصر، وقدمت لهم الدعم اللازم، فيما قدرت عدد اللاجئين السوريين المسجلين وغير المسجلين بمكتب المفوضية إلى نحو نصف مليون لاجئ سوري. وهو الرقم المعلن أيضا من جانب الحكومة المصرية، وفق تقديرات محمد ثروت سليم، القائم بأعمال السفارة المصرية في سوريا.
وبحسب المفوضية، التي تعمل على توفير الحماية والمساعدة للاجئين السوريين بالتعاون مع الحكومة المصرية ومجموعة من الشركاء، فإن هؤلاء اللاجئين يصارع من أجل البقاء، وكسب الرزق، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لأنفسهم، عبر توفير المستلزمات الأساسية للعيش كالطعام والرعاية الصحية والتعليم. علما بأن الوضع الاقتصادي الصعب في مصر المترافق مع تدهور في سعر صرف الجنيه المصري أدى إلى ارتفاع شديد في أسعار المنتجات وتكاليف المعيشة.
وتوضح المفوضية أن «مصر لا تدير مخيمات للاجئين، لذا يجب على هؤلاء الأشخاص أن يعولوا أنفسهم إلى أن يتم تسجيلهم كلاجئين». وهو ما بادر إليه السوريون بتأسيس مشروعات صغيرة في مصر تدعمهم على المعيشة، والتي تعتمد على تقديم الخدمات إلى المواطنين المصريين، والحصول على الأموال للإنفاق على أسرهم وغيرهم من النازحين، وهو الوضع الذي يصفه القائم بالأعمال المصري بأن «السوريين نجحوا جميعاً في الاندماج في المجتمع المصري».
أسباب هذا النجاح يُرجعها «فضل»، الذي اصطحب أسرته إلى القاهرة منذ عام 2012، إلى أن مصر تطبق سياسة الباب المفتوح. وعندما التقى اللاجئ الأربعيني المفوضية لأول مرة في القاهرة قال: «أتينا إلى مصر ليس لإمكانية دخولها بطرق قانونية فحسب، بل لأننا سمعنا أن الحياة فيها أرخص بكثير من الدول الأخرى».
سبب آخر يتمثل في ترحيب الشعب المصري باللاجئين السوريين، بل واستقبالهم في منازلهم واقتسام مواردهم الضئيلة معهم. وبحسب «فضل»: «فإنهم عاملونا بشكل جيد»، مضيفاً أنه سعيد بقدوم أسرته إلى مصر عوضاً عن التوجه إلى تركيا، أو الأردن أو العراق التي تستضيف أعداداً أكبر كثيراً من اللاجئين يقيم العديد منهم في المخيمات.
تتيح مصر لـ«فضل» ولآلاف غيره الحق في الوصول الكامل والمجاني لنفس الخدمات العامة المقدمة للمصريين، كما يتمتع السوريون بالرعاية الصحية نفسها وخدمات التعليم الأساسي والعالي، كما تسجل مصر أعلى معدلات التحاق لأطفال اللاجئين السوريين بالمدارس، حيث يبلغ عدد الطلاب المسجلين في المدارس 39.314 طالبا سوريا، ويبلغ عدد الطلاب السوريين المسجلين في الجامعات المصرية نحو 14 ألف طالب بالجامعات، وفق إحصائيات رسمية للخارجية المصرية.
وفيما وقعت الحكومة المصرية والأمم المتحدة في فبراير (شباط) 2015 خطة رئيسية لمساعدة اللاجئين السوريين في مصر، عبر الاستفادة من برامج المساعدة، والتركيز النوعي على سبل العيش، وخلق فرص اقتصادية؛ يُقر لاجئون مقيمون بمصر بأنها هي الأفضل للعمل؛ كونها تمتلك السوق الداخلية الأكبر عربيا، والموقع الجغرافي الأفضل والأقرب إلى الأسواق التصديرية في الخليج وأفريقيا وأوروبا.

المستثمر الأول في مصر
واستنادا لتقارير الأمم المتحدة، يعتبر السوري هو المستثمر الأول في مصر خلال السنوات الست الماضية. فيما يؤكد خبراء اقتصاديون مصريون، أن السوريين استطاعوا أن يخلقوا توازنا اقتصاديا، وأن يدخلوا في عجلة الاقتصاد كمنتجين ومستهلكين.
ويؤكد تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، صدر في مايو (أيار) الماضي، نجاح السوريين في إنشاء مشروعات تجارية واستثمارات تقدر بـ800 مليون دولار في السوق المصرية منذ عام 2011 إلى الآن.
وأشار التقرير، الذي حمل عنوان «توفير فرص العمل يحدث الأثر المنشود»، إلى أن السوريين استطاعوا الدخول إلى الاقتصاد المصري، والمشاركة برأس مال قدر بالملايين خلال السنوات الماضية، رغم أن عددا كبيرا من الصعوبات التي واجهتهم مثل الحصول على تراخيص العمل، وإن كان من المحتمل أن يكون هذا التقدير أقل من الرقم الفعلي، لأن عددا كبيرا من المشروعات التجارية السورية لا تكون مسجلة، أو تسجل تحت اسم مصري.
وذكر التقرير أن المشروعات السورية تدخل في عدد كبير من القطاعات مثل النسيج والمطاعم والأسواق المحلية، وشركات تكنولوجيا المعلومات، بجانب أن عددا كبيرا من المصريين يعمل فيها، إضافة إلى أن الشركات السورية توفر التدريب للمصريين، وتضخ العملة الأجنبية، وتعزز الصادرات.
ونوه التقرير إلى أنه رغم صعوبات إنشاء مشروعات تجارية في مصر، فإنه تبين أن مصر من بين الأماكن الأكثر استقطابا للاجئين السوريين الراغبين في إنشاء مشروعات، لعدة أسباب؛ منها رغبة المصريين في السماح لهذه الشركات بالازدهار، وكبر السوق وسلسلة الإمداد في مصر، ووجود جالية من رجال الأعمال السوريين المقيمين مثل (جمعية رجال الأعمال السوريين)، والعديد من المنظمات غير الحكومية التي يديرها السوريون.
«الأثر المنشود»، بعيداً عن الإحصائيات يمكن لمسه فعليا على أرض الواقع في مناطق بعينها في مصر مثل: التجمع ومدينة نصر والشروق ومدينة السادس من أكتوبر، والأخيرة بصفة خاصة تحظى بالنصيب الأكبر من التواجد السوري، وهو ما دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إليها لرصد واقع السوريين فيها على الطبيعة.

أسماء جاذبة للمستهلك
فما أن تطأ القدم المدينة، التي تنصف كأحد المجتمعات العمرانية الجديدة بمصر، إلا ويُرى التواجد السوري جليا، فالمشروعات التجارية السورية تُلمس من خلال رؤية العدد الكبير من المحلات ذات الأسماء السورية لا سيما المطاعم، فالزائر للمدينة ليس غريباً عليه أن يتجول بين مطاعم ومحال ترفع أسماء «الشامي» و«الحلبي»، و«الدمشقي»، أو «باب الحارة»، و«ست الشام»، و«الركن الدمشقي»، و«ريف دمشق»... وهي الأسماء الكفيلة بجذب الزبائن إلى منتجاتها.
في الحي السابع بالمدينة يسمى الشارع التجاري الأبرز باسم «سوريا» أو «دمشق الصغيرة»، وسبب التسمية أن كل شيء فيه يحمل الروح السورية بدءا من المطاعم، التي تتخصص في تقديم الفلافل السورية المصنوعة من الحمص، والشاورما والمناقيش، والفتة والكباب الحلبي، وهي الأطعمة ذات السمعة الجيدة في السوق المصرية.
وبجانب المطاعم هناك محلات أخرى تتخصص في بيع منتجات سورية مثل الجبن والمكسرات وزيت الزيتون، وهناك متاجر الملابس، والعصائر، وباعة الخردوات، إلى جانب عدد من المقاهي.
وعلى نطاق واسع؛ تنتشر بالمدينة محلات صناعة الحلوى السورية والشامية، وأبرزها بلح الشام المقرمش والمهلبية السورية، إلى جانب الحلويات الشامية الأصلية كالكنافة النابلسية والقطايف والنمورة والمعمول والعوامة والبسبوسة وغيرها.
ويسرد محمد، وهو أحد الطلاب السوريين الدارسين بإحدى جامعات السادس من أكتوبر، أن التواجد التجاري السوري ظهر في بداية الأمر من خلال المطاعم السورية التي انتشرت بشكل سريع مع وفود عدد كبير من أهل سوريا، حيث أقبل المصريون على هذه المأكولات السورية بصورة لافتة للنظر، بل ذاع صيت العديد منها خلال السنوات الماضية لتنافس أكبر المطاعم المصرية ومطاعم «التيك أواي» الشهيرة التي تزدحم بها القاهرة والمحافظات المصرية.
ويتابع: «المصريون لا يعتبروننا ضيوفاً لديهم ولكنهم يعاملوننا على أننا أصحاب مكان، وهو ما منح السوريين حرية في العمل، سواء عبر العمل الحرفي، أو إقامة مشروعات تجارية وصناعية، وهو ما جعل النشاط الاقتصادي يتوسع إلى حد كبير خلال الفترة الماضية».
«ظهرت المطاعم قبل 6 سنوات، لكن الأمر تبدل الآن بعد أن بدأت النشاطات التجارية الأخرى في الظهور تباعا»، هذا ما ترويه رضوى، ربة منزل مصرية، التقتها «الشرق الأوسط» حيث كانت تتسوق في الشارع التجاري السوري بالمدينة، مضيفة أن المنتجات السورية وجدت طريقها للمنازل المصرية بعد أن لاقت رواجا كبيرا، لافتة إلى أن نشاطات السوريين في مصر حاليا لم تعد مقصورة على تجارة أو نشاط بعينه.
وتكمل حديثها: «بين عشية وضحاها انتشر السوريون بيننا من خلال افتتاح أنشطة متعددة، منها مغاسل تنظيف السجاد، ومغاسل السيارات، وتجارة بيع السيارات المستعملة، وصالونات التجميل، ومحلات بيع الآيس كريم، ومحلات بيع وصيانة أجهزة الجوال المحمولة، إلى جانب لجوء عدد كبير من السيدات السوريات إلى بيع الوجبات والحلويات السورية، وتوسعهن في الأعمال اليدوية بجميع أنواعها، خاصة المفروشات والإكسسوارات، بخلاف انتشار السوريين في عشرات المحلات كبائعين».
داخل أحد المطاعم السورية، يقول العامل «أبو علي»: «غالبية السوريين هنا (في حي 6 أكتوبر) كان لهم أعمال دائمة في دمشق والمدن الأخرى، وجميعهم من الأيدي العاملة والماهرة، وغادروا البلاد وسط ظروف معيشية صعبة، ولكنهم حملوا معهم بعضا مما اشتهر به المطبخ السوري، وهو ما أتاح لنا العمل هنا بعمل مفيد. ومع البراعة والحرفية في الصنعة تمكن السوريون من وضع بصمتهم في أرجاء مصر بمحلاتهم ومطاعمهم التي تقدم الوجبات الشعبية، والتي تعتبر جاذبة لمعظم المصريين بمختلف فئاتهم، ومناسبة لكل طبقاتهم الاجتماعية، بل أصبح لكل مطعم قاعدة من الزبائن الذين يقصدونه باستمرار لتذوق أطباق المطبخ السوري».
وبرأي «أبو علي» أن «تركز غالبية المشروعات والأنشطة الاقتصادية السورية في المطاعم يعود إلى كون الطعام أحد مظاهر التعبير عن التراث والثقافة، وبالتالي يحاول اللاجئون السوريون التعبير عما يحملونه من حنين لتراثهم، وكشكل من أشكال التمسك بأحد مظاهر الثقافة الأكثر وضوحا في البلاد والمتمثلة في المطبخ السوري».



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري