صفقة «داعش» و«حزب الله» تكشف المستور

الغريب أن يلتقي التنظيم ذو الأصل «الزرقاوي» مع عدوه التاريخي الذراع الأبرز لنظام الولي الفقيه

قافلة من سيارات الإسعاف تنقل جرحى «داعش» من الجرود إلى شرق سوريا بموجب الصفقة الجديدة مع «حزب الله» (أ.ف.ب)
قافلة من سيارات الإسعاف تنقل جرحى «داعش» من الجرود إلى شرق سوريا بموجب الصفقة الجديدة مع «حزب الله» (أ.ف.ب)
TT

صفقة «داعش» و«حزب الله» تكشف المستور

قافلة من سيارات الإسعاف تنقل جرحى «داعش» من الجرود إلى شرق سوريا بموجب الصفقة الجديدة مع «حزب الله» (أ.ف.ب)
قافلة من سيارات الإسعاف تنقل جرحى «داعش» من الجرود إلى شرق سوريا بموجب الصفقة الجديدة مع «حزب الله» (أ.ف.ب)

تأتي الوقائع على عكس مضامين وأهداف الأضداد الأصولية وجماعات التطرف العنيف، سنية وشيعية على السواء، ففي النهاية المصلحة مقدمة على سواها. ورغم تكدس مفردات التوحد والتوحيد بين الفصائل المسلحة، كانت الحرب فيما بينها أبرز وقائعها، وكانت الزعامة والتغلب أعلى أهدافها، بل إن غريزة بقاء التنظيم وانتصار الكيان الميكافيلية أعمق عندها من الانتصار الآيديولوجي أو العقدي الذي ينتحر في سبيله العوام فقط.

بينما يحضر الآخر الطائفي مدنسّاً عند عوام وعناصر التطرف في الجهتين، لم يمنع الواقع وأكدت الوقائع إمكانية تقاربهما في تحقيق مصلحة مشتركة، هكذا التقت عناصر «القاعدة» المتورطة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) سنة 2001 مع عناصر الحرس الثوري، وكانت إيران ملاذاً آمناً لعناصرها، وتم تدريب بعض طلائعها المقاتلة على يد عناصر «حزب الله» وقائدها الراحل عماد مغنية، كما أثبتت وثائق وتقرير سبتمبر فيما بعد.
لكن الغريب أن تلتقي «داعش»، ذات الأصل الزرقاوي وتتفق مع حزب الله، عدوها التاريخي، والذراع الأبرز لنظام الولي الفقيه الإيراني والداعم الأهم لبقاء النظام السوري، وبرعاية الأخير، كما شهدنا في اتفاقية - أو صفقة - «حزب الله» الأخيرة - مع عناصر «داعش»، أواخر أغسطس (آب) الماضي.
ولكن إذا استحضرنا أن الزرقاوي نفسه بعد حرب أفغانستان وفراره من هيرات أقام عامين في إيران، كما ذكر سيف العدل القائد العسكري لـ«القاعدة» في سيرته وترجمته فيما بعد، وأن كثيرين غيره كذلك كان ملاذهم فيها، كما كانت وصايا بن لادن تتوالى توصي بإيران خيراً، وبعدم استهدافها لأسباب مختلفة، وليس فقط بسبب لواذ ولجوء عشرات الأسر لعناصر «القاعدة» بها، كما أثبتت وثائق أبوت آباد التي وُجدت في بيته، لبدا الأمر ممكناً ومحتملاً باستمرار.
ونرى احتمالية التلاقي بين «داعش» و«الجهاديات الإيرانية» قائمة دائماً، - كون الأخيرة تابعة نظام ودولة الولي الفقيه تستهدف مصالحها وحماية حلفائها وأوليائها، هكذا فعل «حزب الله» في الاتفاق الأخير، وقبل الأسد ويسمح دائماً باتفاق منفرد لـ«حزب الله» مع «داعش» طالما أوجبت المصلحة ذلك، خصوصاً أن داعش في موقف ضعف بعد انهيار دولتها وسطوتها، ولكن في السابق - ووفق ما توجبه المصلحة أيضاً - ترك الأسد لها معسكر الطبقة حراً، كما ترك لها كثيراً من المدن ومخازن السلاح دون أن يلقي بالاً لغير نظامه وبقائه في سوريا، أو مخاطر قوتها على دول الجوار له، وفي السابق وبعد تحرير العراق من نظام صدام حسين سنة 2003 كانت الحدود السورية دائماً موئلاً ومورداً رئيسياً للمتطرفين من مختلف أنحاء العالم للدخول للعراق، وقد ثارت ثائرة المدن الشيعية مرات كثيرة تهتف بسقوط الإرهاب والنظام السوري الذي يدعمه وييسر له الطريق، كما كان في أحداث الحلة سنة 2008.

صفقة خطيرة وردود فعل غاضبة
أثار اتفاق «حزب الله» و«داعش» يوم السبت 26 أغسطس الماضي كثيراً من الأسئلة والهواجس، حيث التقى الشتيتان الأصوليان بعد الظن «كل الظن ألا تلاقيا»، واستثار هذا الاتفاق الكثير من الرفقاء والحلفاء لكل طرف، خصوصاً «حزب الله»، الطرف الأقوى في معادلته بعد تراجع «داعش»، ولكن كونه تم تحت رعاية نظام بشار الأسد، الذي ذكر أنه يوافق على مثل هذا من «حزب الله»، وأنه لا مانع لديه متى أراد الحزب - الذراع اللبنانية لنظام الولي الفقيه - لكنه لا يقبله من الجيش اللبناني إلا بعد الاستئذان وطلب ذلك، كما جاء في تصريحات للسيد حسن نصر الأمين العام لـ«حزب الله» يوم 1 سبتمبر (أيلول) الحالي، نشرتها وكالة «إرنا» الإيرانية وإعلام الحزب.
وقد كشف «حزب الله» وذراعه الإعلامية يوم الأحد 27 أغسطس الماضي أنه سيتم نقل قافلة مسلحي «داعش» ستنسحب من الحدود اللبنانية - السورية إلى مدينة البوكمال السورية في ريف دير الزور الشرقي، عبر اتفاق بين الطرفين السبت 26 أغسطس، وافقت عليه دمشق. وقال الإعلام المركزي الحربي في بيان أمس، إن المنطقة التي ستتوجه إليها قافلة مسلحي «داعش» وعائلاتهم هي مدينة البوكمال السورية في ريف دير الزور الشرقي، بحسب ما تم الاتفاق عليه.
تساءل البعض عن صمت مرجعية النجف وعدم إدانة اتفاق «حزب الله» و«داعش» على نقل عناصر «داعش» من الجرود اللبنانية إلى الحدود السورية العراقية، التي تمتد لأكثر من ستمائة كيلومتر، وتهدد عودة عناصر «داعش» إليها عودة خطرها من جديد رغم الانتصارات الأخيرة التي حققها التحالف والجيش العراقي في نينوى وتلعفر وغيرها، ولكن يبدو أن المرجعية واعية بالهدف الإيراني الذي يعمل لمصلحة الأسد، ولم يشغله صالح العراق طويلاً. تصاعد الرفض العراقي الرسمي ممثلاً في تصريح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الثلاثاء 29 أغسطس الماضي، وكذلك الكتل السياسية العراقية المختلفة لرفض اتفاق «حزب الله» و«داعش» برعاية النظام السوري، الذي يقضي بنقل عناصر التنظيم من الحدود اللبنانية السورية إلى الحدود العراقية السورية، مهد الطريق لكثير من الانتقادات التي تصاعدت، مناشدة العبادي رفض الصفقة والمطالبة بإلغائها.
حذر سليم الجبوري رئيس مجلس النواب يوم الأربعاء 30 أغسطس من العودة إلى المربع الأول والتنكر لـ«دماء الشهداء»، مؤكداً رفضه لأي اتفاق من شأنه أن يعيد تنظيم داعش إلى العراق أو يقربه من حدوده، وأضاف أن العراق لن يدفع ضريبة اتفاقات أو توافقات تمس أمنه واستقراره. ودعا الحكومة الاتحادية لاتخاذ كل التدابير اللازمة من أجل مواجهة تداعيات هذه الصفقة.كما وجه لجنة الأمن والدفاع بالتحرك السريع لتقصي الحقائق وتقديم تقرير مفصل يوضح لمجلس النواب تداعيات الاتفاق المبرم بين «حزب الله» وتنظيم داعش الإرهابي، وانعكاساته على أمن واستقرار البلد. يُذكَر أن وصول المزيد من عناصر «داعش» إلى منطقة دير الزور بعد نقلهم من الجرود اللبنانية بالاتفاق مع حزب الله، سيسمح لتنظيم داعش بإعادة ترتيب صفوفه في المحافظة الاستراتيجية وقد تخول له شن هجمات انتقامية ضد العراق انطلاقاً من سوريا، خصوصاً أن المسافة من مركز دير الزور إلى الأراضي العراقية هي نحو مائة كيلومتر فقط.

تناقضات المواقف
ما فعله السيد نصر الله و«حزب الله» في صفقته مع «داعش»، أواخر أغطس الماضي، من السماح بنقل قافلة من مسلحي «داعش» لمدينة البوكمال السورية على الحدود السورية العراقية، هو ما رفضه أمين عام الحزب قبل شهور من القوات العراقية حين شرعت في حربها لتحرير الموصل خوفاً منه لانتقال مسلحي «داعش» للمنطقة الشرقية في سوريا.
فقد خطب أمين عام «حزب الله» اللبناني السيد حسن نصر، بعد تقدم الجيش العراقي وميليشيات الحشد الشعبي نحو الموصل، وقبل انتهاء المعركة، حيث خطب أمين عام «حزب الله» في الثاني عشر من أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي (2016) ناصحاً العراقيين برفض ما سماه «الصفقة الأميركية»، وطرد عناصر وفلول داعش إلى الداخل السوري، محذراً العراقيين جميعاً مما فعله بعد ذلك.
ففي خطبته المذكورة ذكر السيد نصر ضرورة الحذر من عودة «داعش» إلى سوريا، حال تقدم العراقيون وانتصروا في الموصل، مما يكرره دائماً، وفي مواقف متناقضة من عدم الانصياع للخداع الأميركي في ترك مقاتلي «داعش» يتكتلون في المنطقة الشرقية في سوريا، ومعتبراً ذلك ضد صالح العراقيين والسوريين على السواء.
حذر نصر الله في خطابه المذكور من ذلك قائلا: «إنه سيضيع انتصاركم في الموصل، الانتصار العراقي الحقيقي هو أن تضرب (داعش)، وأن يُعتَقَل قادتها ومقاتلوها ويزج بهم في السجون ويحاكموا محاكمة عادلة، لا أن يُفتح لهم الطريق إلى سوريا، لأن وجودهم في سوريا سيشكل خطراً كبيراً على العراق قبل كل شيء»، لكن هذا الإصرار حين تعلق الأمر بمصلحته وصالحه وصالح نظام بشار الأسد كان ممكناً، كما عبَّرَت عنه صفقة «حزب الله» الأخيرة مع «داعش» في الجرود التي وقعت في أغسطس الماضي.
كانت تحفظات السيد نصر الله على إجراء مثل هذا، والتحذير الاستباقي منه، قائمة على سببين رئيسيين، هما ما يثير المتحفظين على اتفاقه الأخير، الذي يقضي باقتراب فلول «داعش» ومسلحيه من الحدود العراقية من جديد، هما كما يلي:
أولاً: أن (داعش) سيستغل وجوده العسكري والأمني في المنطقة الشرقية في سوريا (يعني على الحدود الغربية للعراق)، لتنفيذ عمليات أمنية وإرهابية وانتحارية حيث تصل أيديه في داخل العراق، وبالتالي سيضطر الجيش العراقي للدخول لهذه المنطقة.
ثانيا: في تحذيره السابق في أكتوبر سنة 2016 حذر السيد نصر الله من عودة داعش للعراق حال نقل مسلحوها للمنطقة الشرقية في سوريا، وأنها في هذه الحالة «سوف تحشد لتعود من جديد إلى العراق، أساساً قبل سنوات عندما كانت الأنبار وصلاح الدين ومحافظة نينوى الموصل في يد الحكومة العراقية، من أين دخلتها (داعش)؟ دخلتها من الرقة، من دير الزور، من المنطقة الشرقية في سوريا».
وهذه النقطة التي ذكرها السيد نصر الله مغالطة غير صحيحة تاريخياً؛ فـ«داعش» انطلق من العراق بعد فض الاعتصام الأمني بالقوة في عهد نوري المالكي، ووجد فرصته وقوته التي انطلق بها إلى سوريا، مما خلفته قوات المالكي وراءها من أسلحة وذخائر، فالعراق كان منطلقه وقوته وصحوته، بينما ظلت الجبهة السورية مشتعلة من حوله، سواء ضد الجبهات المسلحة الأخرى، أو قوى النظام والقوات الموالية له، ولكن الرجل على ما يبدو ينسى كلامه أو يتناساه، ولكن تبقى دائماً في خطاباته ومبرراته شماعة المؤامرة و«الشيطان الأكبر» أو «الخداع الأميركي» كما يسميه.
ختاماً، تكشف صفقة «حزب الله»... «داعش» أن مصلحة النظام السوري في الأجندة الإيرانية مقدمة على سواه ولو كان النظام والشعب العراقي، الذي تكبد الكثير في معاركه ضد «داعش» خلال الشهور الأخيرة، وأن إيران الدولة التي تحتفظ بعشرات الجماعات ومجموعات التطرف العنيف - أحزاب الله الموالية لها - للدفاع عن هويتها ودورها لن ترتدع استثناء بين دول العالم والمنطقة أن تتفق مع جماعات كـ«داعش» أو «القاعدة» في السابق متى استوجبت المصلحة والضرورة ذلك.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.