الصحافي المواطن في سوريا... سلاحه للحقيقة عدسة جوال لكن ثمنها حياته

منذ بداية الأزمة السورية، اختطف مئات آلاف من الناشطين السياسيين وقتل العـشرات من الشباب بنيران القناصة أو تحت التعذيب في حين كانت أسلحتهم عدسات الجوال رصدت مشاهد القتل اليومي والقصف والتدمير والتهجير. أولئك نجحوا في توثيق الصورة من أرض الحدث ونقلوا صوت سوريا إلى شتى مناطق العالم، وأصبحوا هم سفراء الحقيقة، تحت مسمى وظيفي جديد؛ الصحافي المواطن.
--- تهديدات القتل
مهند الإدلبي، ناشط سوري اختار هذا الاسم المستعار لأسباب أمنية. هرب إلى تركيا بعدما تلقى تهديدات من جبهة النصرة، ومصمم على استكمال مسيرته.
أكد في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن البحث عن الحلول لإيصال صوت الشعب السوري حين طالب بحريته وإسقاط النظام في 2011 دفعه إلى جانب عدد آخر من الناشطين إلى «تأسيس مكتب إعلامي صغير بهدف مواجه ماكينة الإعلام السوري وما يمارسه من تزييف». ويضيف: «كنا الهدف الأول لقوات الأمن والجيش. ملاحقتنا في كل مكان واستهدافنا بشكل مباشر» ودفعت الأوضاع القنوات العربية والعالمية للبحث عن مراسلين من داخل مناطق النزاع بموازاة تشكيل الجيش السوري الحر وعن هذا المرحلة يوضح الناشط السوري. واستطرد: «عملنا مع القنوات بشكل تطوعي وشكل أو مقابل أجور وبدأنا نرسل الصور والفيديوهات بشكل بسيط ثم انتقلنا لمراحل متطورة وإعداد تقارير صحافية احترافية وإنتاج الأفلام الوثائقية برفقة مخرجين عالميين دخلوا الأراضي السورية لنقل الواقع الذي يعيشه الشعب السوري».
لكن الوضع دخل مراحل أكثر خطورة للصحافيين الجدد على الأرض السوري وفق مهند الإدلبي، وذلك بعد ظهور تنظيمات متطرفة مثل «القاعدة» و«داعش» حيث سقط عدد من الصحافيين بعد وقوعهم بيد تلك التنظيمات. عدا ذلك فإن الصحافيين دفعوا ثمنا باهظا لخلافات الفصائل. عن هذا الخطر الجديد في العام السابع من الثورة السورية يقول مهند إن «نتيجة الاختلاف بين الفصائل المتناحرة في الشمال السوري والاقتتال الحاصل كان كل فصيل يريد أن يظهر إعلاميا على أنه هو على حق وكل من يقف على الحياد وينقل الصورة كما هي يصبح هدفا لهم». ويوضح أن المصورين خلف جمعة وعبد الغني عريان «اعتقلا أواخر الشهر الماضي على خلفية الاقتتال الحاصل بين حركة أحرار الشام من جهة وهيئة تحرير الشام من جهة أخرى عن طريق استدراجهم عبر الواتساب وطلب المساعدة الإنسانية دون التعريف عن أنفسهم».
خشية من مصير مشابه لزملائه اختار مهند الانسحاب والهروب إلى تركيا. إلا أنه اعتقل بداية على يد القوات الكردية لساعات قبل وصوله إلى مدينة إعزاز في ضواحي حلب. أجبر على دفع 2400 دولار للمهربين إلا أنه يصف عبوره بالمعجزة.
لتوضيح تجربته يعود قليلا للوراء يستذكر مقتل زميله الناشط الإعلامي مصعب عزو أثناء اقتحام عناصر القاعدة للمدينة سراقب نهاية الشهر الماضي. يقول إن مدينتي كفرنبل وسراقب أيقونتا «الكفاح المدني والسلمي بكل أساليبه بعيدا عن السلاح». ويتابع أنه في ظل هذه الأوضاع أن يكون الشخص «صحافيا كفيل بعرقلة تحركه وخضوعه إلى استجواب وجملة من الأسئلة قبل كل خطوة، كما أن العمل يتطلب تكتما وسرية خوفا، كون الخطر لا يهدد شخصه فقط إنما العائلة والمقربون كذلك».
- معهد لتدريب الصحافي المواطن
تقول مستشارة ومدربة معهد صحافة الحرب والسلام زينة ارحيم التي عملت خلال السنوات الست الماضية على تأهيل قرابة 100 صحافي مواطن داخل سوريا على أساسيات الصحافة المكتوبة والمرئية ثلثهم من النساء إنه «لم يعد هنالك سوريا واحدة، هناك سوريا النظام، وسوريا (داعش)، وسوريا القاعدة، وسوريا الأكراد، وسوريا المعارضة. وبكل سوريا يتعرض الصحافيون لنوع مختلف من الضغوطات».
تساهم ارحيم اليوم في دعم المشاريع الإعلامية لتطوير الإعلام في سوريا بعدما قررت ترك عملها في «بي بي سي» والعودة إلى سوريا. اعتقلتها القوات الموالية للنظام في سبتمبر (أيلول) 2012 وذلك أثناء وجودها في مهمة ميدانية بريف إدلب.
وفي حديثها لـ«الشرق الأوسط» تعبر ارحيم عن اعتقادها بأن ما يقدمه الصحافي السوري من أعمال استقصائية «في هذا الوقت من الفوضى باتت انتحارا لأنه ليس هنالك أي نوع من الحماية أو العدالة» لافتة إلى أن الكثير من الصحافيين اضطروا لمغادرة سوريا بعد نشر مقال واحد وعرف اسمهم وأصبحوا مطلوبين من قبل جهة معينة إضافة إلى ذلك تذكر أن الصحافي السوري «يلجأ للرقابة الذاتية لحماية نفسه وضمان استمرارية مسيرته».
وعن تجربة «المواطن الصحافي» قالت ارحيم: «أعمل مع صحافيين مواطنين بدأوا بمسيرتهم ومع مجموعة أخرى بدأت من الصفر، معظمهم نساء. تركيزي الأكبر على أهمية إبراز الجانب الإنساني في كل قصة لأن التغطية مشغولة بتفاصيل الحرب وتهمل يوميات المواطنين».
وتنوه ارحيم إلى أن الكثير من السوريين لم يجربوا العمل في الإعلام قبل الثورة وترى أن الوضع اختلف بعد انطلاق الثورة. وحول أهمية ما يقدمه المواطن الصحافي السوري تقول إن «الصحافي الأجنبي يأتي لتغطية النزاع ومن ثم يعود إلى موطنه آمنا، أما الصحافي السوري هو القاطن وسط الدمار القصة قصتهم، والمصادر معارفهم، والضحايا أفراد من عائلتهم، هذه حياتهم».
وإلى جانب التدريب الصحافي تشير ارحيم إلى توفر تدريبات للتغطية الحربية وإسعافات أولية في محاولة لجمع كل مقاييس السلامة لضمان أمن الصحافي. وتقول: «على الأقل ندربهم على كيفية عبور الحواجز وإجراء مقابلات مع المصادر والإجراءات التي يجب اتخاذها تحت القصف وحتى نصائح للتحصن إلكترونيا أيضا».
لكنها تتحدث عن مخاطر أخرى تتربص بالصحافي السوري هذه الأيام قائلة: «إن اختار المرء امتهان العمل الصحافي، فسيكون بالتأكيد مستهدفا من جهة معينة».
وحول ما إذا كانت إحصائية اللجنة الدولية لحماية الصحافيين حول مقتل أكثر من 88 في المائة من الصحافيين المحليين تصدق على الحالة السورية تقول ارحيم إنه «مؤكد ومعظم الذين يلقون حتفهم وهم يمارسون عملهم الصحافي هم ناشطون إعلاميون وليسوا صحافيين محترفين».
- غياب الدعم الدولي
معاناة الصحافي السوري لا تقتصر على أرض سوريا. ففي الهجرة مشكلاتها الخاصة. تعتقد ارحيم عدم ضعف اللغة الإنجليزية وتعذر التواصل مع منظمات لا يعمل ضمن كواردها موظفون عرب تسبب في إهمال قضايا الناشطين الإعلاميين.
لكن لسان حال مهند إدلبي مختلف إذ يقول لم أفكر يوما باللجوء إلى أي منظمة دولية، لأن كل المنظمات تعرف ما هو حجم الخطورة في العمل الصحافي في مناطق النزاع ولم تقدم لنا أي شيء حتى الآن حتى اللباس الواقي من الرصاص أو الخوذ فكيف يمكنها أن تساعد أي صحافي في العالم. ويتابع انتقاداته للمنظمات الراعية للصحافيين قائلا: «لم تقم يوما بإحصاء عدد الصحافيين المتواجدين داخل سوريا! لم تعمل يوما على إطلاق سراح الصحافيين المعتقلين عند النظام أو (داعش) أو القاعدة هذه المنظمات تهتم فقط في الصحافيين الغربيين مع الأسف».
- مشهد «قاتم» ومركز لرصد الانتهاكات
شهد فبراير (شباط) 2012 ولادة رابطة الصحافيين السوريين. أسسها صحافيون وصحافيات من سوريا لتكون بمثابة نقابة مهنية لهم، تضم عدداً من الشاغلين في الصحافة ومجال الإعلام. وكان من بين أبرز المكاتب الفاعلة «مركز الحريات الصحافية»، حيث بدأ الأخير عمله في شهر يونيو (حزيران) 2014، بدعم من منظمة «فري برس FREE PRESS».
يرصد فريق مركز الحريات الصحافية مؤشرات الانتهاكات الإعلامية في بلد تعددت فيه الأطراف المتحاربة ويوثق باحثوه الانتهاكات التي تطال الإعلاميين أفراداً ومؤسسات، بالإضافة إلى تسجيل الخروقات التي يتعرض لها الإعلاميين خارج سوريا، ويصدر بيانات وتقارير شهرية دورية، وينشر دراسات وتقارير سنوية.
يترأس المركز القاضي إبراهيم حسين المنحدر من بلدة عامودا التابعة لمدينة الحسكة (أقصى شمال سوريا)، والذي انشق في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2013 عن سلك القضاء الذي يهيمن عليه النظام السوري.
يشرح القاضي حسين طريقة عمل فريق المركز، وكيف يقوم بإعداد قاعدة بيانات للانتهاكات بعد رصد حالات الاعتقال والاختفاء والاختطاف والقتل، يضاف إليها مصادرة المعدات الصحافية ومنع ممارسة المهنة، والمضايقات التي يتعرض لها العاملين في مجال الإعلام.
وفي لقائه مع «الشرق الأوسط» يصف حسين المشهد الإعلامي في سوريا بـ«القاتم»، ويعزو السبب إلى «إن البلاد يحكمها نظام استبدادي حول سوريا إلى سجن كبير تنعدم فيه الحريات»، في وقت أرخت الحرب بظلالها على المشهد وجعلته سوداوياً، ويضيف: «أثبتت جميع أطراف النزاع أن عدوها اللدود كل من ينقل الحقيقة وتستغل هذه الأطراف كل فرصة للتنكيل والاعتداء على الإعلاميين والناشطين ونشر الرعب والخوف في أوساطهم».
وتمكن المركز في رابطة الصحافيين السوريين، من توثيق قرابة (1020) حالة انتهاك منذ بداية عام 2012، لغاية الأسبوع الأخير من شهر أغسطس (آب) الجاري. وتصدر النظام السوري والقوات الحكومية قائمة الجهات المعتدية بمسؤوليتها عن 520 انتهاكاً، وبحسب جداول مركز الحريات لقي 414 صحافيا وإعلاميا سوريا حتفهم، كما وثقوا 220 حالة اعتقال واحتجاز وخطف تعسفي على يد مختلف الأطراف، وتم تسجيل 100 حالة انتهاك ضد جهات مجهولة.
واعتبر القاضي إبراهيم حسين أن هذه الخروقات أدت إلى انخفاض كبير في عدد العاملين بالحقل الإعلامي، خاصة تراجع عدد الإعلاميات ويشير في هذا الصدد، «انعدمت بشكل شبه كلي مساحة الحرية التي يمكن للصحف ووسائل الإعلام أن تؤدي رسالتها بحرفية ومهنية نتيجة القيود المفروضة من قبل النظام من جهة، وسلطات الأمر الواقع التي أفرزتها الحرب السورية من جهة ثانية»، وشدد إنه: «ليس بغريب أن تتصدر سوريا قائمة الدول التي تنعدم فيها الحريات الصحافية، وأن تكون من بين الدول الأولى التي يتعرض فيها الصحافيون والإعلاميون إلى المضايقات والانتهاكات».
وبحسب رئيس مركز حريات، يتوخى فريق الباحثين الدقة والموضوعية في تسجيل الانتهاكات قبل إصدار بيان حول حالة الانتهاك، ويضيف: «نقوم بجمع البيانات وتحليلها، ووضعها في إطارها القانوني، لأننا نرتكز على جملة من المعايير يتبعها المركز في عملية التوثيق، فإذا كانت الحالة تمثل انتهاكاً نقوم بتوثيقها ونشرها في تقريرنا الشهري مرفقة بصورة لمن تعرض للانتهاك».
وحذر القاضي إبراهيم حسين في ختام حديثه، من سياسة التعتيم وتكتيم الافواه التي تنتهجها الجهات السورية المتصارعة، قائلاً: «لأنها تعمل على بث الخطاب الإعلامي الممنهج والمتوافق مع مصالحها وروايتها، وتمتنع عن بث الخطاب المتوافق مع الحقيقة والواقع».