بروكسل تدرس اقتراحات تقييد الاستثمارات الصينية في أوروبا

ستطرحها الخريف المقبل

طلبت إيطاليا وفرنسا وألمانيا أخيراً من بروكسل تحديد نهج مشترك حول الاستثمارات التي مصدرها دول خارج الاتحاد الأوروبي (غيتي)
طلبت إيطاليا وفرنسا وألمانيا أخيراً من بروكسل تحديد نهج مشترك حول الاستثمارات التي مصدرها دول خارج الاتحاد الأوروبي (غيتي)
TT

بروكسل تدرس اقتراحات تقييد الاستثمارات الصينية في أوروبا

طلبت إيطاليا وفرنسا وألمانيا أخيراً من بروكسل تحديد نهج مشترك حول الاستثمارات التي مصدرها دول خارج الاتحاد الأوروبي (غيتي)
طلبت إيطاليا وفرنسا وألمانيا أخيراً من بروكسل تحديد نهج مشترك حول الاستثمارات التي مصدرها دول خارج الاتحاد الأوروبي (غيتي)

أعلنت المفوضة الأوروبية للتنافسية مارغريت فيستاغر أن المفوضية الأوروبية ستطرح في الخريف اقتراحات حول الاستثمارات الأجنبية في أوروبا، في وقت يتصاعد فيه القلق حيال المكتسبات الصينية.
وقالت فيستاغر، خلال منتدى «البيت الأوروبي» الذي انتهى أمس (الأحد)، في شيرنوبيو في إيطاليا: «في الأشهر الأخيرة، لاحظنا قلقاً حيال المستثمرين الأجانب، مع استحواذ شركات تسيطر عليها دول غالباً على شركات أوروبية تملك تكنولوجيات أساسية».
وأضافت: «هذه القضية ليست بسيطة؛ إنها تتطلب بحثاً معمقاً بهدف تحديد كيفية التحرك. نحن نعمل حالياً على هذه المسألة، ونتوقع طرح اقتراحات ملموسة هذا الخريف».
وتابعت المفوضة: «لأن الشركات الأوروبية تملك ما هو مطلوب للنجاح، يقضي عملنا بتوفير الظروف السليمة لتتمكن من إعطاء أفضل ما لديها».
وطلبت إيطاليا وفرنسا وألمانيا أخيراً من بروكسل تحديد نهج مشترك حول الاستثمارات التي مصدرها دول خارج الاتحاد الأوروبي.
بدوره، شدد وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لو مير، خلال المنتدى، على «ضرورة أن تحمي أوروبا شركاتها بشكل أفضل»، وقال: «مع إيطاليا وألمانيا، قدمنا اقتراحات لوضع إطار أوروبي لمراقبة الاستثمارات الأجنبية في قطاعاتنا الاستراتيجية»، وأضاف: «علينا أن نفرض المعاملة بالمثل في العلاقات التجارية، وفي الوصول إلى السوق العامة؛ ينبغي أن يكون التنافس عادلاً».
ومن جهتها، أصدرت الحكومة الألمانية، في 12 يوليو (تموز)، مرسوماً يعزز القواعد حول الاستثمارات الخارجية في شركاتها التي تعتبر استراتيجية، ولم تحدد الدول التي يستهدفها القرار، لكن الصين من بينها.
ورأت فيستاغر أنه «لإعطاء الشركات الأوروبية فرصة فعلية للنجاح، نحتاج إلى تنافس عادل، ليس في أوروبا فحسب بل في كل أنحاء العالم»، وأضافت: «في الأشهر الأخيرة، أكد قادة مجموعتي السبع والعشرين بوضوح أن علينا التصدي لمشكلة الحوافز التي تؤثر سلباً في المنافسة»، مشددة على وجوب ألا تكون التجارة الدولية «حرة فحسب، بل أيضاً عادلة».
واعتبرت أن «قاعدتنا حول المساعدات (التي تقدمها الدولة) يمكن أن تكون نموذجاً من أجل مقاربة دولية أفضل تتصل بالحوافز».
- الصين في أوروبا
ولم تغب معظم بلدان الاتحاد الأوروبي عن بال المستثمرين الصينيين، وارتفع حجم استثماراتهم هناك إلى أكثر من 72 مليار دولار. وأكبر عملية استحواذ قاموا بها هي شراء اتحاد شركات السويسري للكيماويات ومضادات الآفات الزراعية (سنينتا)، وذلك من قبل الشركة الصينية الوطنية المملوكة من الدولة، التي عرضت مبلغ 43 مليار دولار.
واللافت أن الشركة الأميركية المنافسة (مونسانتا) كانت قد عرضت، في شهر أغسطس (آب) عام 2015، مبلغ 40 مليار دولار، إلا أن الإدارة السويسرية رفضت العرض. وقبل ذلك، كانت شركة «تنسانت إنترنت» لألعاب الأجهزة المحمولة قد أبرمت صفقة شراء مصنع «سوبرسل» الفنلندي، الذي يعمل في الميدان نفسه، بقيمة 7.8 مليار دولار.
وفي النصف الأول من العام الماضي، استثمرت الصين على صعيد أوروبا في 164 مصنعاً وشركة، بقيمة 72.4 مليار دولار، مقابل استحواذها العام الذي سبقه على 183 مصنعاً وشركة، بقيمة 40 مليار دولار.
وثاني أهداف الصينيين أهمية بعد ألمانيا هو شراء شركات في فرنسا، وقد استحوذت حتى اليوم على 23 شركة مختلفة، وبهذا تكون فرنسا متقدمة على بريطانيا كبلد مستهدف من الصينيين، وهي تمتلك اليوم هناك 20 شركة، ويعتقد خبراء اقتصاد أن السبب في قلة الاستثمارات في بريطانيا هو خروجها من الاتحاد الأوروبي.
- الصين تشتري شركات ومصانع ألمانية
وقبل أعوام، سخر كثيرون من قدرة المستثمرين الصينيين، ومحاولتهم لاقتحام الأسواق الغربية وغيرها في العالم، لاحتلال مكان الصدارة دولياً. واليوم، يبدو أن من سخر خاب ظنه، إذ يشير تقرير تحليلي لمكتب الاستشارات «آي آند واي» العالمي، نشر مطلع هذا العام، إلى أن عدد الشركات التي اشتراها الصينيون بين شهري يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران) من عام 2016، وصل إلى 37 شركة ومؤسسة إنتاجية ومصنعاً، أي أكثر مما تم شراؤه بالكامل عام 2015.
والمثير أكثر هو التطور في نوعية الشراء والاستحواذ، بالنظر إلى القيمة الإجمالية، حيث وصلت عام 2015 إلى 526 مليون دولار. وفي الأشهر الأولى من عام 2016، قفزت الأرقام بشكل مذهل، ووصلت إلى 10.8 مليار دولار.
وعند الشراء، سواء كان في أوروبا أو ألمانيا، يتطلع الصينيون إلى الشركات المتوسطة، أو تلك التي تملكها عائلات وحاول أصحاب بعضها منذ فترة طويلة بيعها. لكن مع تزايد الاهتمام الصيني، يقدم مستثمرون محليون على شرائها وإصلاحها أو ترميمها أو إعادة هيكلتها، لتكون بوضعية أكثر ربحية، ثم يعرضونها بعد ذلك بأسعار جيدة محققين أرباحاً كبيرة.
ويتوقع كثير من الخبراء الألمان المتخصصين بالاستثمارات الأجنبية ارتفاع حجم الاستثمارات الصينية في ألمانيا وأنحاء أوروبا خلال عام 2017، مما يجعل الاستثمارات الصينية متقدمة جداً على استثمارات بلدان غير أوروبية، مثل روسيا ودول الشرق الأوسط، وهذا ما تؤكده آخر البيانات عن الاستثمارات الأجنبية في ألمانيا.
وإذا نظرنا إلى حجم استثمارات دول الشرق الأوسط في ألمانيا، على سبيل المثال، سنجد أن قطر لديها 15.6 في المائة في شركة «فولكس فاغن»، والإمارات لديها 10 في المائة في اتحاد مقاولات البناء العملاق «هوخ تيف»، والكويت 6.8 في المائة في شركة السيارات «دايملر». كما تملك إمارة أبوظبي، عبر شركة طيران الاتحاد، 29.2 في المائة من أسهم طيران برلين، وتشارك في المشروع الضخم التابع لشركة «أيون» لإنتاج الطاقة بنحو 20 في المائة، إضافة إلى شراء مستثمرين خليجين كثيراً من الفنادق والقصور ونوادي كرة القدم. ومع ذلك، فإن مجموع ما يستثمره العرب يظل رقماً بسيطاً أمام ما يستثمره الصينيون في ألمانيا في كل المجالات الحيوية.
فوفقاً لجداول مكتب الإحصائيات الاتحادي، تعتبر الصين أحد البلدان الأكثر استثماراً في ألمانيا، وقد وصل حجم استثماراتها المباشرة بين يوليو 2005 ويوليو 2016 ما يقارب 14 مليار دولار. وللمرة الأولى، يترأس المستثمرون الصينيون قائمة أكبر المستثمرين والمشترين حتى عام 2016 في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، حيث وصل حجم استثماراتهم الإجمالي إلى 180 مليار دولار، أي بنسبة زيادة نحو 40 في المائة من عام 2015.
- الصين تملك السيولة اللازمة
ما يساعد الصين في تحقيق تطلعاتها امتلاكها لكميات كبيرة من النقد الأجنبي. وبما أن الدولة والاقتصاد في جمهورية الصين الشعبية مترابطان ارتباطاً وثيقاً، وليس هناك فرق كبير إذا ما كان خلف الاستثمار الدولة، كما هي الحال مع شركة «شيم شاينا» الحكومية، أو مستثمر خاص كمجموعة شركات «إتش إن آي»، فكل المستثمرين مدعومون من الحكومة.
وفي هذا الصدد، يتحدث معهد البحوث للشؤون الصينية في برلين (ماريك) عن قوة رأس المال الصيني، فالصين اليوم واحدة من أكبر 3 مستثمرين أجانب في العالم، وهذا مجرد بداية، فالرئيس الصيني شي جينبينغ حدد مبلغ 1.3 تريليون دولار ليكون حجم الاستثمار الأجنبي لبلاده خلال السنوات العشر المقبلة.
وعن مخاوف انعكاس هذا الزحف الصيني على سوق العمل، تشير دراسة قام بها المكتب نفسه، نتيجة تفحصه لأكثر من ألف مشروع في ألمانيا وأوروبا، إلى عدم وجود انعكاس سلبي حتى الآن على العمالة المحلية الألمانية أو الأوروبية، أو القدرة على الابتكار. وعن الرغبة الصينية الكبيرة في الاستثمار في ألمانيا، ذكرت الدراسة نفسها أن ما يثير اهتمام الصينيين هو ما تملكه الصناعة الألمانية من سمعة دولية جيدة، وأيضاً مستوى العامل التأهيلي الجيد فيها، وانخفاض الرغبة في الإضرابات لدى العمال، يضاف إلى كل هذا الجودة العالية للتصنيع، والبحوث المتواصلة في معظم المجالات.
- الأوروبيون يستثمرون أقل في الصين
وبعكس الصينيين، أصبح الأوروبيون عام 2016 أكثر تردداً في الاستثمار في الصين. فللسنة الرابعة على التوالي، انخفض حجم استثماراتهم هناك إلى نحو 8 مليارات يورو، والسبب في ذلك هو تراخي النمو الاقتصادي في الصين، وتراجع هوامش الربح، والمعوقات أمام المستثمرين الأجانب، بينما وصل ما استثمره الصينيون في أوروبا إلى 35 مليار يورو، منها نحو 31 في المائة في ألمانيا.
وهذه هي المرة الأولى التي يتدفق فيها هذا الكم من رأسمال الصين إلى ألمانيا، وليس العكس، وهذا يدل على حجم طموحات الصين للحاق بركب التطور، والتمكن من المنافسة العالمية، ومواجهة التحديات الهائلة.
إلا أن دراسة وضعها مكتب معهد البحوث في برلين «ماريك» لا تتوقع نمواً قوياً مماثلاً للاستثمارات الصينية في الخارج كما في عام 2016، لأن مراقبة تدفق رأس المال القوي إلى الخارج أصبح أقوى، وأزعج القيادة السياسية في بكين، كما أن القلق قد نما في ألمانيا وأوروبا تجاه عمليات الشراء والاستحواذ الصينية الهائلة، رغم طمأنة كثير من خبراء الاقتصاد والإنتاج منها، والقول إن ذلك يعود بالفائدة على الأوروبيين أيضاً، ولا داعي لاتخاذ موقف دفاعي.



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».