أكراد العراق ماضون نحو الاستقلال

الاستفتاء في موعده... والإقليم بدأ استعداداته لمرحلة قيام «الدولة»

أكراد العراق ماضون نحو الاستقلال
TT

أكراد العراق ماضون نحو الاستقلال

أكراد العراق ماضون نحو الاستقلال

منذ اللحظة الأولى التي حددت غالبية الأطراف الكردستانية في اجتماع عُقد بأربيل، في 7 يونيو (حزيران) الماضي، برئاسة رئيس الإقليم مسعود بارزاني، موعداً لإجراء الاستفتاء على الاستقلال في كردستان العراق، بدأ الشاب الكردي أميد نانكلي ومجموعات من الشباب الآخرين بالاستعداد لهذه العملية، والعمل على إنجاحها من خلال توعية المواطنين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتها بضرورة التصويت بـ«نعم» في الاستفتاء بهدف إنجاح الاقتراع، وتأسيس «الدولة الكردية».
وينتظر ملايين الأكراد في إقليم كردستان والعراق ودول خارجية يوم 25 سبتمبر (أيلول) الحالي التصويت في الاستفتاء الشعبي العام الذي تنظمه حكومة كردستان العراق على الاستقلال، وإنشاء الدولة الكردية التي لطالما انتظرها الأكراد في العالم، خصوصاً بعد أن قسّمت اتفاقية «سايكس - بيكو» عام 1916 أراضي الأكراد على أربع دول هي العراق وإيران وتركيا وسوريا.

تعرّض الكرد في العراق خلال المائة عام الماضية لكثير من حملات الإبادة الجماعية على أيدي الأنظمة العراقية المتعاقبة، كان أبرزها الحملات التي شنّها نظام البعث بقيادة الرئيس السابق صدام حسين الذي شن منذ تولي حزبه الحكم في العراق عام 1968 كثيراً من حملات تصفية الكرد. ومن هذه الحملات حملة الإبادة الجماعية التي طالت على وجه الخصوص البارزانيين وأسفرت عن إبادة أكثر من 8000 منهم خلال يوم واحد، إضافة إلى حملات «الأنفال» التي أسفرت عن إبادة أكثر من 182 ألف كردي من كل أنحاء كردستان دُفن معظمهم وهم أحياء في صحارى الجنوب العراقي. كما تعرض الكرد للقصف بالغازات السامة المحظورة دولياً، كما حصل في مدينة حلبجة حيث قُتل أكثر من 5000 مدني كردي وأصيب أكثر من 10000 آخرين ما زال بعضهم يعاني حتى اليوم. وشمل القصف بالغازات السامة في ثمانيات القرن الماضي قرى وبلدات كردية أخرى. ودمّرت قوات صدام في حملاتها المتعاقبة ضد الكرد أكثر من 4500 قرية.
ويقول أميد نانكلي، الذي أحضر مجموعة من أعلام كردستان استعداداً ليوم الاستفتاء، وهو منشغل بالاستعداد لذلك اليوم الذي يصفه بـ«التاريخي»: «نحن، كمجموعة من الشباب المتطوعين، ننظم يومياً نشاطات متعددة لتوعية المواطنين وتأييد عملية الاستفتاء». ويتساءل نانكلي قائلاً: «لماذا يجب أن نبقى مع العراق؟». وعما إذا كانت مطالبات بعض الدول قد تؤدي إلى تأجيل هذه العملية، يشير هذا الشاب الكردي إلى أن «الكثير من دول العالم وشعوبها يجري استفتاءات لتقرير المصير، فلماذا يحق لهم جميعاً هذا ولا يحق لنا نحن الكرد، أقدم شعوب العالم، أن نتمتع بهذا الحق المشروع؟ لذا، الاستفتاء حق مشروع من حقوقنا كشعب في هذا العالم ولن يؤجل، وسنجريه في موعده المحدد»، مكرراً بذلك تأكيدات أدلى بها تكراراً في الأيام الماضية قادة إقليم كردستان العراق.
ويضيف نانكلي: «ما الضمانات التي ستقدمها لنا الأطراف العراقية والدولية التي تطالبنا بأن نؤجل الاستفتاء؟ قطعت الحكومة العراقية قوت الشعب الكردي وأرزاقه، وما زالت مستمرة في ذلك حتى الآن. المجتمع الدولي لم يحرّك ساكناً ولم يضغط على بغداد لإطلاق حصة الإقليم من الموازنة، والمواطن الكردي ما زال مواطناً من الدرجة الثانية في العراق. إذن، بأي وجه حق يطالبوننا بالبقاء في إطار العراق الموحد؟ من أجل مستقبلنا ومستقبل أطفالنا سنمضي إلى الاستفتاء على الاستقلال».
ورغم تصويت الكرد على إنجاح الدستور العراقي وإنجاح العملية السياسية في العراق الجديد، بعد عام 2003، فإن العلاقات بين الجانبين طغى عليها التوتر، حتى إنها في بعض الأحيان وصلت إلى حد التصادم العسكري، خصوصا في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي حرّك الجيش العراقي لمهاجمة قوات «البيشمركة» في خانقين وكركوك ومناطق كردستانية أخرى تقع خارج إدارة الإقليم (المناطق المتنازع عليها). كما بادر المالكي، مع بداية 2014، إلى قطع حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية للعراق، وقطع رواتب موظفي كردستان، فتسبب في أزمة اقتصادية كبيرة في الإقليم الذي لم ينفض بعد غبارها عنه.
ولعبت قوات «البيشمركة» دوراً كبيراً في منع سقوط الأراضي العراقية بأيدي مسلحي تنظيم داعش عقب سقوط الموصل في يونيو 2014، كما نجحت في وقف تمدد التنظيم وخاضت ضده معارك واسعة أسفرت عن تحرير مساحات واسعة من الأراضي وأفقدته قدراته الهجومية بالكامل تقريباً، بإسناد من طيران التحالف الدولي، خلال أعوام 2014 و2015 و2016 و2017. إلا أن الحكومة العراقية، بحسب مصادر وزارة «البيشمركة» وحكومة إقليم كردستان، لم تقدم أي دعم مالي أو عسكري للقوات الكردية، بل وامتنعت عن منحها حصتها من الأسلحة والأعتدة التي زوّد بها التحالف الدولي القوات الأمنية العراقية.
وشدد رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، خلال اجتماعاته المستمرة التي عقدها مع شرائح المجتمع الكردستاني خلال الأسابيع الماضية، على أن العراق فشل في تقبُّل شعب كردستان شريكاً حقيقياً على مدى سنوات، مبيناً أن الإقليم سجّل على الحكومة العراقية منذ عام 2003 تجاوزاً لنحو 55 مادة من الدستور العراقي الذي صوتت عليه غالبية الشعب، لافتاً إلى أن السنّة والكرد أصبحوا اليوم من المهمشين. وأوضح قائلاً: «حاول الكرد دائماً أن يكونوا ‏شركاء في بلد فيدرالي، ‏لكن للأسف فشلت كل هذه المحاولات، بدليل أن نسبة الكرد في الجيش العراقي عام 2004 كانت 40 في المائة، لكن هذه النسبة تضاءلت ومن الممكن أن تكون اليوم لا شيء».
وفي 14 أغسطس (آب) الماضي، وصل وفد من المجلس الأعلى للاستفتاء في كردستان إلى بغداد للتفاوض بشأن الاستفتاء على الاستقلال مع الحكومة والأطراف العراقية كافة. وبعد اجتماعات استمرت لنحو أسبوع، عاد الوفد إلى كردستان معلناً أن المباحثات مع الجانب العراقي كانت إيجابية وستستمر بين الجانبين حتى بعد إجراء الاستفتاء.
لكن كثيراً من الأطراف العراقية ودولاً مؤثرة عديدة طالبت الإقليم بتأجيل الاستفتاء إلى وقت آخر. وكان رد رئيس الإقليم على هذه المطالبات في أحد الاجتماعات التي عقدها مع رجال الدين في أربيل: «لم نسد الطريق على أي من المعارضين للاستفتاء، فليقولوا لنا متى سيحين الوقت المناسب للاستفتاء وليطرحوا بدائلهم. لكن من يحاول تأجيل الاستفتاء دون أن يطرح البديل المناسب، أعتقد أنه يريد أن يلعب بالوقت، ولذلك فلا يمكن القبول بمقترحه لأننا لن نؤجل الاستفتاء»، وهو موقف كرره رئيس الإقليم في مقابلة مطولة مع «الشرق الأوسط» قبل أيام.
وشهد إقليم كردستان، الأسبوع الماضي، زيارة وزير الدفاع الأميركي ووزير الخارجية التركي ووزيري الخارجية والدفاع الفرنسيين. وفيما أبدى الوزيران الأميركي والتركي تحفظات عن توقيت إجراء الاستفتاء، أكد الوزيران الفرنسيان أن بلادهما مثلما دعمت الإقليم في وقت الحرب، فإنها ستدعمه في وقت السلم أيضاً.
وأكدت كل الأطراف الدولية على ضرورة استمرار المفاوضات بين بغداد وأربيل، وهذا ما تصر عليه القيادة الكردية أيضاً.
أما النظام الإيراني فقد أعلن أنه لا يؤيد الاستفتاء على الاستقلال كردستان ويطالب ببقاء الإقليم في إطار العراق الموحد. لكن رغم هذه المعارضة من طرف إيران، التي تتشارك فيها تركيا أيضاً، يرى مصدر كردي رفيع المستوى في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن طهران وأنقرة لن تغلقا حدودهما مع الإقليم «أبداً»، معللاً ذلك بوجود علاقات تجارية واسعة بين هاتين الدولتين الإقليميتين، والإقليم الكردي، وبالتالي فإن أي إغلاق لحدودهما «سيتسبب بأزمات اقتصادية كبيرة داخل إيران وتركيا». ولفت إلى أن الإقليم «لطالما كان مصدراً للاستقرار في المنطقة، والدولة الكردية القادمة ستكون مصدراً للاستقرار وشريكاً رئيسياً للتحالف الدولي في الحرب ضد الإرهاب».
ورداً على المطالبات الدولية للقيادة الكردية بتأجيل الاستفتاء على الاستقلال، أوضح المستشار الإعلامي في مكتب رئيس إقليم كردستان، كفاح محمود، لـ«الشرق الأوسط»: «الاستفتاء لن يؤجل ولو لدقيقة واحدة إلا ببديل، والبديل هو ضمانات دولية توقعها كل الأطراف، خصوصاً الأطراف الرئيسية المتمثلة ببغداد والولايات المتحدة وحتى تركيا وإيران، وهذه الضمانات تكون مكتوبة وتحدد يوماً آخر أو موعداً آخر للاستفتاء، وتحترم نتائجه. في هذه الحالة فقط بالإمكان تأجيل الاستفتاء، وعدا هذا لا يمكن تأجيله وسيجري في موعده المحدد».
ومع تمسك الإقليم بإجراء الاستفتاء في موعده، يكون العد التنازلي لهذه العملية قد بدأ فعلياً، حيث بدأ المجلس الأعلى للاستفتاء في كردستان الاستعداد للمرحلة المقبلة التي تلي هذه العملية وهي مرحلة التفاوض على الاستقلال وبدء عهد جديد من العلاقات بين العراق وكردستان.
ويؤكد القادة الكرد رغبتهم في أن تكون العلاقات المستقبلية مع العراق «علاقة جيرة حسنة بين دولتين تمثلان عمقاً استراتيجياً لبعضهما بعضاً».
ويؤكد رئيس حزب «التنمية» التركماني وعضو المجلس الأعلى للاستفتاء في كردستان، محمد سعد الدين، لـ«الشرق الأوسط»: «المجلس الأعلى للاستفتاء يواصل تحضيراته لإجراء هذه العملية الديمقراطية. من الناحية السياسية، نحن سنستمر في التفاوض مع بغداد وستستمر هذه المباحثات بين الجانبين مستقبلاً، وننتظر أيضاً زيارة وفد من بغداد إلى كردستان»، مشيراً إلى أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات والاستفتاء في كردستان أنهت استعداداتها، من الناحية الفنية، لتنظيم الاستفتاء.
ويضيف سعد الدين: «صحيح أن الجانبين الأميركي والتركي طلبا تأجيل الاستفتاء إلى وقت آخر، لكن رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني أبلغهما بأن إجراء الاستفتاء هو القرار النهائي للشعب الكردي، ولن ينتظر شعب كردستان أكثر من ذلك. استفتاء كردستان واستقلالها لن يزعزعا الاستقرار في المنطقة، والاستفتاء سيجري في أجواء مستقرة وهادئة».
ويوضح أن قرار تأجيل الاستفتاء أو إجرائه ليس بيد رئيس الإقليم، لأن هناك مجلساً أعلى للاستفتاء في كردستان يشارك في عضويته 80 في المائة من الأحزاب والأطراف السياسية في كردستان، وقد صوتت جميع هذه الأطراف على إجراء الاستفتاء في 25 سبتمبر.
ويكشف هذا العضو في المجلس الأعلى للاستفتاء عن توجّه وفود المجلس قريباً إلى الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا، الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وألمانيا ودول الجوار وعدد من الدول العربية والأوروبية ودول العالم الأخرى. ويضيف: «سنُبلغ هذه الدول أننا سنجري الاستفتاء في موعده المحدد، وأننا نريد من خلال هذه العملية الديمقراطية أن نعرف رأي شعب كردستان، ولكي يعلم في ما بعد الشارع العراقي والدولي أن الضغوط التي تعرضت لها كردستان خلال السنوات الماضية والمشكلات مع الحكومة العراقية كانت نتيجتها أن شعب كردستان يريد أن يعيش مستقلاً ولا يريد البقاء مع العراق».
ورغم أن الأطراف العراقية تجد أن من حق الشعب الكردي إجراء الاستفتاء، إلا أنها تطالب بتأجيله وتدعو إلى حل المشكلات في إطار العراق الموحد. وتقول النائبة عن كتلة الأحرار (التيار الصدري) في مجلس النواب العراقي، ماجدة التميمي لـ«الشرق الأوسط»: «إجراء الاستفتاء حق من حقوق الشعب الكردي، وإن شاء الله سيؤدي هذا الاستفتاء إلى أمور أفضل للإقليم وللعراق ككل. فخير الإقليم هو خير العراق وخير العراق هو خير للإقليم، لكن إذا كان الهدف من الاستفتاء هو الانفصال فهذا يحزننا، لأننا فتحنا عيوننا ورأينا كردستان جزءاً من العراق وأهله، ونتمنى أن تتجه الأمور نحو الأحسن بين أربيل وبغداد، وأن يكون هناك تفاهم بين الجانبين».
وشددت على أنه «ليست هناك مشكلة ليس لها حل. المشكلات العالقة بين أربيل وبغداد ليست مستعصية، بل قابلة للحل ببساطة، لكنها تحتاج إلى رغبة في الحوار لدى الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم».
ويرى إقليم كردستان أن الوقت الحالي هو الأنسب لإعلان «دولة» في خضم التغييرات والتطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. وأوضح رئيس الإقليم مسعود بارزاني خلال الاجتماع الذي جمعه بمكونات الإقليم القومية والدينية في مدينة أربيل، 23 أغسطس الماضي: «ستكون دولتنا معبّرة عن جميع المكونات، وعلينا أن نعمل وفق مزيد من تعميق التعايش المشترك في هذا البلد»، مؤكداً أن دولة كردستان ستكون دولة ديمقراطية مبنية على أساس المواطنة.
وبحث المجلس الأعلى للاستفتاء في كردستان برئاسة رئيس الإقليم مسعود بارزاني، في جلسته التي عقدها بتاريخ 23 أغسطس الماضي، في نتائج اجتماعات وفد المجلس في بغداد مع الحكومة والأطراف السياسية العراقية. ونص بيان المجلس الذي أصدره عقب الانتهاء من الاجتماع على نقاط عدة من أبرزها «التشديد على ضرورة استمرار المفاوضات مع بغداد حول عملية الاستفتاء وشكل العلاقة بين الإقليم والعراق. و‏الإسراع بتشكيل اللجان ‏الخاصة بعملية الاستفتاء، واتخاذ التدابير العملية لإجراء الاستفتاء في موعده المحدد، وتأييد محاولات حكومة إقليم كردستان للإصلاح، واتخاذ الإجراءات الضرورية لتحسين الحالة المعيشية للمواطنين، والتأكيد على‏ الحقوق العادلة لشعب كردستان وتقرير المصير».
وبيّن أن عملية الاستفتاء لن تكون لها أي تأثيرات سلبية على الحرب ضد «داعش»، و«ستستمر كردستان في مواصلة الحرب ضد الإرهاب في الجبهات الأمامية». كما أكد البيان الإيمان الكامل والراسخ بالشراكة الحقيقية بين المكونات القومية والدينية في كردستان. وقرر الاجتماع إدراج فقرة تشكيل وإرسال وفود للتفاوض مع دول الجوار ودول العالم، ‏في برنامج المجلس الأعلى للاستفتاء، إضافة إلى الاتفاق على عقد مؤتمر للكتاب والأدباء والصحافيين في المنطقة والشرق الأوسط باللغة العربية في إقليم كردستان حول مبادئ الديمقراطية وحق تقرير المصير.
ومع اقتراب موعد إجراء الاستفتاء تندثر المشكلات الداخلية في كردستان بين الأحزاب الكردية. فالأطراف الكردستانية اتفقت على تفعيل برلمان الإقليم لصالح إنجاح عملية الاستفتاء. ويرى نائب عن الاتحاد الوطني الكردستاني (حزب الرئيس العراقي السابق جلال طالباني) أن الاستفتاء جمع كل الأطراف الكردية على طريق واحدة.
وأوضح النائب في برلمان كردستان خلف أحمد لـ«الشرق الأوسط»: «نحن في الاتحاد الوطني الكردستاني نؤيد الاستفتاء على الاستقلال لأنه موضوع وطني وهو أملنا جميعاً ويجب علينا نحن الكرد أن نؤيد هذه العملية، ولا يمكن لأي سبب من الأسباب أن نقف ضدها لأننا ننتظر هذا اليوم منذ زمن طويل والاستفتاء نجح في توحيد البيت الكردي».
في المقابل، يقول عضو المجلس العام لـ«حركة التغيير» صابر إسماعيل حمزة لـ«الشرق الأوسط» إن الحركة تؤيد الاستفتاء من أجل استقلال كردستان، لكنها لا ترى الوقت الحالي مناسباً لإجرائه. ويوضح: «نحبذ تأجيله حالياً».
ومع اقتراب موعد إجراء الاستفتاء على الاستقلال في كردستان العراق، يشهد الشارع الكردي نشاطات وندوات مكثفة استعداداً لهذا الحدث الذي يصفه الأكراد بـ«التاريخي»، بينما تواصل مجالس المدن الكردستانية الواقعة خارج إدارة حكومة الإقليم (المتنازع عليها) الواحدة تلو الأخرى التصويت بالموافقة على مشاركة مدنها في الاستفتاء على استقلال كردستان والانضمام إلى «الدولة» الكردية المنتظرة. كما أعلنت عشائر عربية سنية تقع مناطقها في إقليم كردستان عن تأييدها للاستفتاء والاستقلال، مؤكدة أن حياتها وحقوقها مؤمنة بفضل الحماية التي توفرها قوات «البيشمركة» لها ولمناطقها التي حررتها القوات الكردية من «داعش» في السنوات القليلة الماضية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.