أيهما أفضل الصحافي المتخصص أم الصحافي الشامل؟

الصحافة مدرسة الشعوب، يدرك قيمتها القادة السياسيون حول العالم في توجيه الرأي العام وتشكيل وعيه؛ لذا يلعب الصحافي دورا مهما في تقديم المعلومات، وتقع عليه مهام كبرى، منها الإخبار والتثقيف والإعلام إلى جانب الإمتاع. وإلى جانب مواصفات الصحافي الجيد من تصميم وإصرار في الحصول على المعلومة، والدقة، والموضوعية، والقدرة على الوصول للمصادر، وموهبة الكتابة بأسلوب متميز وجذاب وغيرها، هناك مواصفات تصنع من الصحافي نجما، وتحقق له اسما بارزا.
وهنالك جدل مستمر في الأوساط الصحافية حول أفضلية الصحافي المتخصص أم الشامل، وعادة ما تنظر فئة الصحافيين المتخصصين الذين يستندون إلى تاريخ طويل في مجال معين إلى الصحافي الشامل الذي يقتحم مجالهم على أنه غير كفء، وأنه سيقدم مادة غير جيدة. من ناحية أخرى، تدعو مناهج الدراسات الإعلامية الحديثة في أوروبا وأميركا إلى أهمية التخصص في علوم الصحافة بحيث يخرج الطالب وهو مؤهل للعمل في تخصص صحافي بعينه، كصحافي ثقافي أو اقتصادي، أو محرر شؤون دولية، أو صحة أو امرأة ومجتمع، وغيرها.
ومنذ سنوات عديدة اتجهت الصحف العالمية للتخصص وبرزت أسماء صحافيين باتوا نجوما عالمين في مجال تخصصهم، كما تأسست جوائز لتكريم الصحافيين المتخصصين، مثل: العلميين. ورغم أن كل الشواهد تؤكد على قيمة الصحافي المتخصص، فإن الصحف الكبرى تعتبر «الصحافي الشامل» الحصان الرابح الذي تراهن عليه، وبخاصة في أوقات الأزمات الكبرى التي تتداخل فيها القضايا الاجتماعية مع الدينية والاقتصادية والثقافية، ويمثل لها حصنا آمنا تحتمي به إذ يمكنه بما يمتلكه من مصادر متنوعة وخلفية معرفية في مجالات متعددة أن يقدم مواد صحافية متكاملة قد لا يتمكن منها الصحافي المتخصص في مجال بعينه. هنا نستطلع آراء عدد من كبار الصحافيين والأكاديميين المتخصصين:
يرى الكاتب الصحافي المخضرم مكرم محمد أحمد، رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بمصر، أنه من الصعوبة تحديد أفضلية الصحافي المتخصص أو الشامل؛ لأن كلاهما لديه أدواته التي تمكّنه من كتابة موضوع بشكل جيد، وصحيح أن الصحافة العالمية متجهة للتخصص ولدينا في العالم العربي صحافيون اقتصاديون وعلميون نجحوا في تحقيق اسم كبير في مجالهم، لكن ذلك لا يمنع أن الصحف الكبرى دائما في حاجة مستمرة إلى الصحافي الشامل المتمكن الذي يمتلك القدرة على طرح الأسئلة بصورة منهجية وعقلانية في أي مجال، ويستطيع التواصل مع المصادر ويعد موضوعه بشكل احترافي.
ويشير نقيب الصحافيين المصريين الأسبق، والأمين العام الأسبق لاتحاد الصحافيين العرب، إلى أن الصحافي الشامل يبرز دوره في التحقيقات الصحافية التي تتطلب أن يكون الصحافي ملما بمعلومات في كافة المجالات لكي يتمكن من طرح الأسئلة والبحث عن الحقائق وكشفها للرأي العام.
«نحن في زمن الصحافي الشامل» هكذا يرى الدكتور محمود علم الدين، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، قائلا: «إنه من الضروري أن يكون الصحافي ملما بكافة الجوانب المعرفية والجوانب التكنولوجية التي تخدم عمله، فهو مطالب بأن يكون مثقفا موسوعيا، وهي سمة لا بد أن تكون أساسية في الصحافي في بدايات عمله، ومع الوقت قد يتجه للتخصص، لكنه يجب أن يظل مطلعا ومواكبا للتطورات والتحولات في المجالات كافة من حوله وبشكل دائم». ويؤكد علم الدين أن الصحافي «يجب أن يطور من نفسه وأدواته بصفة دائمة إذا أراد أن يكون متميزا». ويقارب علم الدين بين الصحافي والباحث كونهما يجب أن يتابعا كل جديد وينقبا عن المعلومات بدقة وموضوعية، لافتا إلى أن طبيعة العمل الإعلامي ككل في الوقت الحالي تتطلب من الصحافي الكثير من المهارات التي لن يمتلكها فقط بالتعليم الجامعي والتخصص الأكاديمي في مجال الإعلام فقط، بل أن يمتلك أدوات تكنولوجية إلى جانب أسلوب إبداعي ومهارة وموهبة الكتابة، وبخاصة أن المؤسسات الإعلامية الكبرى أصبح لديها روافد متعددة للنشر، منها الورقي والإلكتروني والمرئي أيضا.
كذلك يؤكد الدكتور حسين أمين، أستاذ الإعلام بالجامعة الأميركية بالقاهرة أن من أهم مواصفات الصحافي الجيد بشكل عام امتلاكه لعمق ثقافي يستند عليه، ونظرا لكون الثقافة مركبا ثقافيا، في حين أن المهنية لا ترتبط بالتخصص أو الشمولية لأن لها معايير أخرى؛ لذا فمن الصعوبة تحديد الأفضلية.
ويشير مدير مركز كمال أدهم للصحافة التلفزيونية والإلكترونية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، إلى أن هنالك اتجاهين، الأول: يرجّح أن الإعلامي يجب أن يكون متخصصا بحيث يمتلك مهارة تحويل المادة العلمية إلى مادة صحافية مقروءة ومستساغة للجمهور، أو يحولها لما يسمى «كبسولات معرفية»، وتصبح مادة قابلة للقراءة أو المشاهدة أو الاستماع. أما الاتجاه الآخر الذي يرى أنه عصر السماوات المفتوحة وضغوط العمل الصحافي من ضيق الدورة الخبرية والتنافسية مع المواقع الإلكترونية يجب أن تتوافر في الصحافي صفة الشمولية.
ويلفت الدكتور أمينن إلى أن دورة وسائل الإعلام نفسها أو المؤسسات الصحافية الكبرى تبدأ بشكل شمولي، فهي تبدأ بصحف يومية ذات أقسام متعددة ثم تتجه لإصدار صحف متخصصة في الرياضة أو الاقتصاد أو السيارات وغيرها؛ «لذا فالتخصص سمة من سمات تقدم وسائل الإعلام وتطورها».
ويقول: «ولكن من المهم أن نضع في الاعتبار أن الصحافة تقدم خدمة أو منتجا يستهلك الجمهور، ولا بد أن يكون الصحافي لديه القدرة على التأثير في الوجدان الجماهيري لمجتمعه».
من جانبه، يقول الدكتور سعيد الدحيه الزهراني، الإعلامي السعودي والأكاديمي المتخصص في الصحافة والنشر الإلكتروني لـ«الشرق الأوسط»: «المصطلحات ومدلولاتها تعرضت عبر هذه البيئة الجديدة لهزات عميقة مفاهيمياً وتطبيقياً، ومنها هذا السؤال الشيق حول شمولية الصحافي أو تخصصه، في إطار معايير المهنية والإنتاج وتحقيق الدور الوظيفي الأمثل صحافياً». ويؤكد الزهراني أن «الواقع الاتصالي اليوم تمثله ثورة معلوماتية إلكترونية شاملة وهائلة. سمتها الرئيسية - بعد السرعة والتسارع - التشاركية إنتاجاً واستهلاكاً؛ ما أسهم في خلق حالة من الإرباك في عملية تنظيم البيانات والتعامل معها والإفادة من مضامينها، وهنا نصل إلى الصحافي المتخصص الذي هو بمرتبة خبير في تخصصه وحقله ومجاله».
لكنه يرى أن «الموسوعيين في مرحلة التدفق الهائل للمعلومات ليس في كل الحقول فحسب، بل في التخصص الواحد، باتوا أسطورة تخييلية غير واقعية» ويقول: «اليوم أضحى التخصص الواحد بتفريعات شتى وتحتاج إلى متخصصين في فرع واحد من تخصص واحد، لنصل إلى نتيجة حتمية تبرهن على أن الصحافي الشامل بات حالة ادعائية لا أكثر» ويبرهن الزهراني على أن «الشواهد من رموز الإعلام المتعددة في حقول التعاطي والنشر تؤكد هذا الاتجاه... إذ حين يحضر اسم أحد الرموز الصحافية يبرز اتجاهه الخاص ومجاله المتخصص في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الرياضة أو الفن، وهكذا».
لافتا إلى أن «الاتجاه نحو التخصص الصحافي بالحتميّة، لا يمنع ضرورة أن يلم الصحافي بمعالم الحقول الأخرى ومستجداتها. وهذا متحقق بالأصل جراء الثورة المعلوماتية التي أفرزتها البيئة الاتصالية الإلكترونية التي لا تستأذن أحداً في الوصول والانتشار، لكن البصمة التي تصنع الفرق وتحقق المفهوم الصحافي وظيفياً تكمن في استراتيجيات التخصص التي شملت حتى الفنون الصحافية، مثل: التحقيقات الاستقصائية والأعمال الحوارية وغيرها. ويخلص إلى أن «الوعي الشامل ضرورة، لكن التخصص أمر متحتم».
«القاعدة تقول اعرف كل شيء عن شيء، واعرف شيء عن كل شيء» استنادا لهذا المبدأ يرى الصحافي محمد مصطفى عبد الرءوف، سكرتير تحرير «وكالة أنباء الشرق الأوسط» المصرية الرسمية، أن الصحافة بدأت تتجه للتخصص منذ أكثر من 10 سنوات، فظهرت الملاحق والإصدارات المتخصصة، معتبرا أنه «عمليا، لا يمكن تطبيق مفهوم الصحافي الشامل؛ لأن بعض التخصصات تحتاج إلى فهم عميق من الصحافي الذي يعمل بها، مثل: الاقتصاد أو الثقافة أو الرياضة، لكي يستطيع الصحافي أن يقدم ما وراء الخبر، فلو افترضنا أن صحافيا رياضيا حاول أن يكتب خبرا اقتصاديا فالنتيجة لن تكون مرضية».
ويتفق مصطفى مع الزهراني في أن المفاهيم الصحافية تأثرت بالتحولات والتغيرات في المجالات الأخرى، ولا سيما التحولات التكنولوجية، قائلا إن «الصحافي الشامل أصبح مصطلحا يمكن إطلاقه الآن على الصحافي الذي يجيد كل فنون العمل الصحافي one man crew، أي الصحافي الذي يكتب تقريرا ويصوره سواء بالفوتوغرافيا أو الفيديو، ويعالجه فنيا ليجعله صالحا للنشر».
أما الإعلامي أكرم شعبان، مدير مكتب «بي بي سي» البريطانية بالقاهرة، فيرى أن المفاضلة بين الصحافي المتخصص والشامل أمر صعب لأن المؤسسات الإعلامية في حاجة ماسة إليهما. ويوضح أن «هناك تخصصات صحافية تتطلب صحافيا متمكنا، منها أقسام: الرياضة والاقتصاد والصحة والتكنولوجيا، إلا أن وجود (الصحافي الجوكر) له أهمية كبرى؛ إذ يمكن الاعتماد عليه في الكتابة عن القضايا الشائكة والمتداخلة»
ولكن يعتقد شعبان أن ليس كل صحافي شامل يمتلك القدرات الذهنية والكتابية والثقافية التي تمكنه من التميز، أو كما يقال: «ليس كل شامل كامل». ويؤكد شعبان من خلال خبرته الصحافية والإعلامية أن «المسألة تتوقف على المحتوى المتفرد والقدرات الخاصة للصحافي الجوكر الذي يكون قد وصل إلى مهاراته عبر سلسلة من الخبرات المتراكمة والمهارات المكتسبة عبر التدريب المستمر».
ويلفت شعبان إلى أن الصحافي الجوكر يفيد مؤسسته، حيث إنه يوفر طاقم عمل لا يقل عن 3 أفراد، وهو أمر ضروري للمؤسسات الكبرى التي تغطي صراعات وحروبا وأزمات مختلفة حول العالم. ويؤكد الصحافي متعدد المواهب «مالتي سكيل جورناليست» بات ضرورة في ظل تعدد المنصات الإعلامية للمؤسسات، وحول نموذج «بي بي سي» يقول: إن الصحافي في «بي بي سي» يتمرس على الكتابة للموقع وإعداد تقارير صوتية للراديو، والتقديم التلفزيوني، ويمكنه إعداد التقارير المصورة والقيام بمونتاج لها وتحرير المواد المكتوبة، وهو ما تتميز به شبكة مراسلين «بي بي سي» حول العالم.