«البيت الأزرق»... نشيد طويل يحتفي باللغة

عبده وازن من ضفاف القصيدة إلى الرواية

«البيت الأزرق»... نشيد طويل يحتفي باللغة
TT

«البيت الأزرق»... نشيد طويل يحتفي باللغة

«البيت الأزرق»... نشيد طويل يحتفي باللغة

جاء عبده وازن إلى الرواية من ضفاف القصيدة، إذ نشر عددا من الكتب الشعرية كان آخرها «الأيام ليست لنودعها». أنجز، من خلالها، قصيدة متطورة، ابتكرت لنفسها طرائق مخصوصة في تصريف القول وتشكيل الصورة. هذه الضفاف الأولى هي التي تسوغ حسه المرهف باللغة، بإيقاعاتها، بظلالها الإيحائية وبطاقاتها التخييلية الكبيرة. فلغة عبده وازن تشدنا إليها، قبل أن تشدنا إلى شيء آخر خارج عنها، تمتعنا بحضورها قبل أن تمتعنا بما تقول.
ويتجلى هذا الاحتفاء باللغة أقوى ما يتجلى في روايته «البيت الأزرق» الصادرة حديثاً عن دار ضفاف - بيروت والاختلاف - الجزائر. فهي تنهض فيه بوظيفتين اثنتين متداخلتين، متشابكتين: تخبر، من جهة، عن نفسها وتخبر من جهة أخرى، عن العالم الذي صدرت عنه، تقول ذاتها، مرة، وتقول، مرة أخرى، الواقع الذي يحيط بها. وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا إن هذا العمل الجديد ليس إلا نشيداً طويلاً يزجيه الكاتب للغة، للكتابة، لقوى الإنسان المبدعة، نشيداً يحتفي بالرواية بوصفها «نص النصوص»، في فضائها الرحب تلتقي روافد فنية ومعرفية شتى. بسبب من هذا لم يكتفِ عبده وازن، في هذه الرواية، ببناء عالم متخيل يضج بالشخصيات والوقائع، بل جعل من الفعل السردي حدثاً من جملة أحداثه، ومن الخطاب الروائي فاعلاً من فواعله الكثيرة. وإذا استخدمنا عبارة أمبرتو إيكو قلنا إن هذا العمل جعل من الرواية «فرجة معرفية»، تتداخل في فضائها الممارسة النصية بالتفكير فيها تداخل التسوية والتعمية والتشابك.
- الدخول إلى محترف الكتابة
منذ الصفحات الأولى يأخذ الراوي بيد قارئه ويدخله، برفق، إلى مختبر الكتابة ليكشف له عما غمض من أسرارها ويجلي ما استغلق من معانيها. هذا المختبر لا يعرفه القارئ، ولا ينبغي له أن يعرفه، لأنه يفضح أسرار اللعبة، ويكشف عما خفي من قوانينها وقواعدها. على هذا أمعن الروائيون الكلاسيكيون في إغلاق أبوابه ونوافذه ليبقى مظلماً ساكناً لا يجرؤ أحد على التسلل إليه. إنه مكانهم السري الذي يمارسون فيه كيمياء الصناعة بعيداً عن عيون الفضوليين.
ورواية «البيت الأزرق» تنقض هذا العرف، فتفتح هذا المختبر وتستضيف القارئ، غير مبالية بالتقاليد الروائية التي تفرق بين الأجناس، وتجعل التأمل في فعل الحكي من وظيفة النقاد ومنظري الأدب، وليس من وظيفة المبدعين والكتاب.
هذه الرواية تسرد، في المقام الأول، قصة الرواية، تحملنا إلى عوالم التخييل، وتصور لنا، بحس درامي، مآزق الكتابة ومضايقها.
- بناء الرواية
تتكون الرواية من مجموعة قصص آخذ بعضها برقاب بعض. ثمة قصة إطارية أولى، هي قصة الراوي الذي يخاطبنا بضمير المتكلم (وهو الضمير الذي يستخدمه كُتاب المذكرات، واليوميات، والسير الذاتية) ليسرد الأحداث ويصور الشخصيات. هذه القصة الأولى، التي تستهل بها الرواية، سرعان ما تنفتح على مجموعة من القصص الصغرى هي قصص بول السجين السابق، وحبيبته سامية، وطارق الأحمر. وهذه القصص تنفتح، بدورها، على قصص أصغر هي قصص الأب ألبير وغادة داغر وإدموند. ومن أجمل هذه القصص الفرعية القصة التي تروي علاقة الراوي بنسرين، المرأة ذات الجسد الناقص، المرأة التي كان جسدها كاملاً ثم تناقص. تتضمن هذه القصة صفحات من الأدب الرفيع، تمتزج فيها كينونة الشعر بصيرورة السرد في وحدة لا تنفصم عراها. لقد صورت، برهافة شعرية لافتة، الإنسان في عنفوانه وضعفه، في زهوه وانكساره في تمرده وخضوعه.
هذا البناء المفتوح يتيح للقصص أن يتناسل بعضها من بعض وكأن فعل القص باب مشرع على المطلق واللانهائي. يذكرنا تناسل القصص بعضها من بعض بظاهرة «التضمين» في القص القديم. والتضمين حركة انفتاح على الداخل يتم بمقتضاه استدعاء قصة لأخرى بحيث تصبح القصة الأولى مشيمة تحتضن قصصاً شتى، غير أن هذه القصص تظل تحيا داخل القصة الإطارية في كنف العافية. هذا التناسل إن هو إلا زج بالمروي له في متاهة لا يُحد منتهاها، حيث تتشابك الدروب وتتداخل السبل ويصبح التلقي ضرباً من التيه، ضرباً من الاستغراق والذهول.
وكثيراً ما يعمد الراوي من أجل إذكاء ظمأ المروي له إلى تعليق أحداث قصة ليشرع في سرد قصة ثانية، سرعان ما يتنكب عنها ليسرد وقائع قصة ثالثة. ومن ثم يصبح المروي له مشدوداً إلى عدد من القصص منتظراً خواتم كثيرة.
- مأزق النهاية
هذه الرواية ليست رواية هذه الشخصيات التي ذكرْنا، بقدر ما هي رواية الكتابة التي تريد أن تصطاد العالم في شباك الكلمات، لكنها لا تظفر منه إلا ببعض الصور العابرة، إلا ببعض البقايا المتناثرة. لهذا أجنح إلى القول إن الرواية هي «بطلة» الرواية، الشخصية الرئيسية فيها، منها تتولد كل الأحداث وإليها تؤول. منذ الصفحات الأولى يخبرنا الراوي أنه بصدد كتابة رواية لكن خاتمتها قد استعصت عليه. عامان مرّا على انهماكه في تحريرها وما برح عاجزاً عن الظفر بنهايتها.
هذا الراوي الذي ظل اسمه مجهولاً يحترف مهنة الكتابة، يكتب كما قال عن الآخرين ولهم مقابل أجر مالي، فيوقع هؤلاء الكتب بأسمائهم وهم يعلمون أنه لا شأن لهم بها. ورغم تجربته الطويلة مع الكتابة لم يتمكن من إنهاء روايته فظلت دون خاتمة تضع حداً لأحداثها ووقائعها. في هذا السياق تنفتح الرواية على تأملات في «مأزق النهاية»، النهاية التي تلائم، من ناحية أولى، منطق الأحداث، فلا تخرج عليها، وتتفق وطبيعة الشخصيات، من ناحية ثانية، فلا تعدل عنها.
«مأزق النهاية» مثل «مأزق البداية» كان من المواضيع الأثيرة في النقد المعاصر. فالشاعر والكاتب الفرنسي أراغون اهتم كثيراً بالخاتمة بوصفها الصمت الذي يعقب الكتابة. أما رولان بارت فقد عدها «مرآة لبداية الرواية». فقراءة النص الروائي تتيح لنا أن نكتشف السبل وطبيعة التحولات التي تجعل الخاتمة موصولة بالمقدمة.
وأشار النقاد إلى أن الخاتمة هي التي تبقى موشومة في ذاكرة القارئ بعد أن ينتهي من القراءة. وأضافوا أن عدداً من المتلقين يعودون فيقرأون الرواية انطلاقاً منها. ومن ثمة تتحول الخاتمة إلى شكل من أشكال البدايات.
يوضح الراوي بعد تأملاته أن «الرواية التي يكتبها تحتمل نهايتين ممكنتين: فإما أن يدفع جولييت، الشخصية الرئيسية في رواية المتكلم، إلى الانتحار، وهذا كما يقول الراوي/ الكاتب، يتلاءم مع شخصيتها؛ فهي تعاني من اكتئاب مزمن، وإما أن يدعها تسقط في اكتئابها تاركاً مصيرها مجهولاً. يميل الراوي إلى فكرة انتحار البطلة حتى تنتهي من ألمها النفسي»، مردفاً: «سأبحث لها عن طريقة رحيمة في الانتحار. إنها امرأة رقيقة ولا تحتمل الموت القاسي».
يكتب الراوي نهايات ثلاثاً، تقدم ثلاث طرق مختلفة للانتحار، مستحضراً صور شخصيات روائية نسائية أقدمن على وضع حد لحياتهن، مثل مدام بوفاري وآنا كارينينا وسواهما.
هكذا يفتح لنا الكاتب الراوي محترف الكتابة، يسلط الضوء على طريقته في تشكيل الأحداث وبناء الشخصيات، موضحاً أن الخاتمة إمكانات مفتوحة، وأن كل رواية هي أفق من الروايات.
لكن الرواية لا تروي قصة مخطوط واحد فحسب، بل قصة مخطوط ثانٍ هو مخطوط بول، السجين السابق الذي اتُّهم بقتل امرأة هي سامية. هذا المخطوط سلمته ندى التي تعتني بأمور السجناء نفسيّاً واجتماعياً، إلى الراوي، والتمست منه تصحيحه. يهجر الراوي روايته وينكب على النص الذي تركه السجين يصحح ويحذف ويزيد وكأنه على حد عبارته يعيد كتابته. وهنا يثبت الراوي، بحروف بارزة، صفحات المخطوط داخل الرواية، فإذا بالقارئ أمام نصين متوازيين، متداخلين. هذان النصان ينفتحان على نص ثالث هو نص التحقيق الذي يريد الراوي أن يكتشف، من خلاله قاتل سامية، المرأة التي اتهم بول بقتلها. وهذا التحقيق يستدعي، بدوره، قصصاً أخرى كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.
لكن هذه الجوانب الميتا سردية لا تتجلى في الأحداث فحسب وإنما تتجلى أيضاً في تواتر كثير من المصطلحات التي تركت مظانها وانفصلت عن منابتها، وأصبحت جزءاً من الرواية تبده القارئ بمحمولاتها المفهومية التي هي بلغة النقد والمطارحات الفكرية أوثق صلة. فعبارات مثل الشخصية الرئيسية والبطل المضاد والشخصية الدوستويفسكية والأحداث والعنوان وخاتمة الرواية، وغيرها كثير مما جاء منجَّماً في تضاعيف الرواية، هي بمعاجم النقد الحديث أمست رحما.
لكن الراوي لم يكتف باستدعاء هذا المعجم النقدي بل أقحم، في فصول الرواية، ملاحظاته ومواقفه النقدية. فهو على سبيل المثل يعترض على استخدام عبارة «البطل» المتواترة في القراءات السردية ويستبدل بها عبارة الشخصية الرئيسية، لإيمانه بأن «ليس من أبطال في هذا العالم، عالمنا، ولا حتى في الروايات». كما أنه يعترض على ظاهرة الشخصية التي تتحول إلى قرين، كما هو الحال بالنسبة إلى الشاعر فرناندو بيسوا والكاتب بورخس، ويختار أن تتحول شخصية القرين إلى صديق مع كل ما تنطوي عليه هذه العبارة من معاني التعاطف والتوادد. كما أنه يدلي برأيه في القصص البوليسية التي لا يمكن، في نظره، أن تدخل عالم الأدب الرفيع أيّاً كان كاتبها: «أعترف أنني لم أقرأ في حياتي سوى بضع روايات من هذا النوع الذي ما برحت أصنفه اعتباطاً خارج الأدب، على خلاف الثقافة الغربية التي توليه كبير اهتمام وتدرجه في صميم الأدب الحديث». كل هذا يؤكد أن الخطاب الروائي قد أسقط الحدود بين الإبداع والتأمل في الإبداع، بين لغة النقد ولغة التخييل، ساعياً إلى ابتكار نص جديد يمتح من ذينك النوعين طاقاته الاستعارية والرمزية غير آبه بالفوارق الأجناسية التي تباعد بينهما.
في هذا المحترف الروائي الذي أخذنا إليه الروائي تبوح الكتابة بأسرارها وخفاياها وتبدد الأوهام الرومانسية التي كانت تعتبر الأدب ضرباً من البديهة والإلهام. إلى وقت قريب كان محترف الكتابة محترفاً مغلقاً، يلفه الظلام، ويكتنفه الغموض، كل الكتاب يتكتمون عن البوح بأسراره تمنعاً أو ترفعاً أو بحثاً عن سلامة موهومة.
لكن هذا الصنف من الرواية، وهو ينهض بوظيفة التأمل في أسئلة الكتابة، يعمد إلى قلب التقليد الذي يتوجه إلى الرواية بوصفها موضوعاً للتأمل لا أداة لإنتاج المعرفة، على حد عبارة الناقد رشيد يحياوي، فبات الخطاب الروائي، بسبب من ذلك، يمتلك صلاحية تأويل ما هو نظري يستنطقه، ويحتضن أسئلته. هكذا استضافت الرواية لغة المفاهيم والمصطلحات فأسهمت، بذلك، في نقل أسئلة السرد من خارج الرواية إلى داخلها، وأسهمت في استبدال الأسئلة الآيديولوجية التي كانت تستبد باهتمام الرواية بأسئلة الكتابة وقضايا السرد.
وهذا الخطاب الميتا سردي، على حد عبارة النقاد المعاصرين، يذكرنا بظاهرة التغريب في المسرح الحديث التي استخدمها برشت، على نحو واسع، في مسرحياته. فكلاهما يسعى إلى تبديد الوهم المرجعي وجعل المتقبل على وعي باللعبة الفنية متأملاً قواعدها، باحثاً عن مقاصدها. فالرواية الجديدة لا تكف عن التنقل بين نص العالم وعالم النص، ساعية، باستمرار، إلى لفت انتباهنا إلى «صناعتها الفنية» من ناحية، وإلى الواقع الضاج بالحركة من ناحية أخرى.



شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.