أيام في إثيوبيا... سُرّة أفريقيا وعطر أنفاس العالم وحسناواته

يستحي السحاب أن يطول قمة جبل «إنتوتو» أعلى العاصمة الإثيوبية «أديس أبابا» فيتهادى غماماً دونها، وتحت السحاب وبينه تطل المدينة التي أطلقت عليها «الأمهرية» اسما اخترعته من الزهر في أقصى نضارته، فسمتها «الزهرة الجديدة»، لترسم مع القمة الخرافية مشهداً يبدو كأنه منتزع من جنة منسية، أو كأن ملائكة الجنان تركوه هناك دليلاً إلى حدائق لا نعلمها، أو كأنها خلقت لتتعطر منها أنفاس العالم وتزهو بفوح أريجه حسناواته.
ويتلوى الطريق من وسط أديس أبابا إلى قمة «إنتوتو» مثل ثعبان مقطوع الذيل يتزحلق صاعدا وسط الخضرة والغمام ونثيث رزاز المطر المنعش المنهمر من الجهات الأربع. تئن السيارات صاعدة، وتنزلق أخرى نازلة، وبينهما دواب تحمل السكان والأمتعة والأخشاب صاعدين نازلين، وفي كل الأحوال فإن الدابة المعدنية أو الإحيائية إن لم تكن منيعة وفي أوج عافيتها، حتماً لن تستطيع بلوغ المكان.
يقول سياح سعوديون التقتهم «الشرق الأوسط» في قمة الجبل وهم يفترشون الأرض تحت الرزاز والمطر، والجو البليل «هذه جنة الأرض»، ويتابعون: «لماذا نذهب إلى ماليزيا، وقريب منّا هذا الجمال، والمناخ الخلاب»، هو طبيعة رحيمة على مرمى حجر فلماذا نشد الرحال إلى بلاد بعيدة هكذا؟ ويضيفون: «لو أنها – يقصدون إثيوبيا – فيها المزيد من الخدمات، لجاءها السياح العرب من كل مكان».
وترتفع العاصمة الإثيوبية أديس أبابا - عاصمة أفريقيا إن شئت نظراً لأهميتها التاريخية والدبلوماسية للقارة - 2.300 متر فوق سطح البحر، على سفح جبل إنتوتو، في حين تعلوها قمته البالغة 3.200 متر فوق البحر، شيد المدينة الإمبراطور منيليك الثاني عام 1886 بعد أن اختارته (الجبل) زوجته الإمبراطورة تايتو بيتول، وجعل منه عاصمة لملكه.
ويطلق الكاتب الإثيوبي إبراهيم أحمد على المكان «نافذة أديس أبابا»، التي من خلالها يمكن رؤية المدينة ترفل تحت الغمام، من جهاتها الأربع، يقول: «كان المكان مليء بالزهور البرية، ومنه اشتق اسم أديس أبابا، وأخذت منه اسمها الزهرة الجديدة».
ويتلوى الطريق الإسفلتي صاعدا بين غابات أشجار اليوكالبتوس الكثيفة إلى «قمة إنتوتو»، ليصل إلى حياة على طبيعتها الأولى، بيوت تقليدية من الأخشاب والأكواخ المصنوعة من القش، ولولا طريق الإسفلت والكهرباء، لظننت أنها مستعارة من القرون الوسطى. ويعتمد سكانها في سبل كسب عيشهم على الزراعة والرعي مهنة أسلافهم السابقين، ثم بيع المصنوعات اليدوية للسياح.
ويوجد في سقف «أديس أبابا» عند قمة إنتوتو متحف القصر الملكي، ويحوي آثار الإمبراطور منيليك الثاني وزوجته، وتتوسطه «كنيسة القديسة مريم»، حولها استراحات ومدافن قديمة وجديدة. أما جنوب الكنيسة فتطل أديس أبابا بكامل أبهتها حين تشرق شمس المكان الخجولة، أما حين ينتصر الضباب ببياضه الثلجي، فإن ملامح المدينة تبدو كأنها مشيدة بين السحاب، راسمة مشهداً يخلد في الذاكرة ولا ينسى.
وتسكن القمة مجموعات ثقافية وإثنية متعددة، لكن غالبهم من قومية «الأورومو» وهم سكان الإقليم، وأخيراً أصدر البرلمان الإثيوبي قراراً قضى باعتماد الاسم الأورومي «فنفيني» اسما ثانياً للمدينة، لتحمل اسمين في الوقت ذاته، ويشتغل الأورومو القاطنون في القمة بالزراعة وصناعة الخشبيات والتراثيات التي يبيعونها للسياح والزوار.
أما رحلة الهبوط من القمة إلى السفح ووسط أديس أبابا، فمتعة بكاملها، يقول مرافقي مبهور الأنفاس: «انظر إلى هذا الهدوء والسكون والتاريخ والابتسامات التي تستقبلك أينما حللت، والطبيعة السخية»، وأنت نازل تشهد الطرق المؤدية إلى دبرماس وقندر والدروب إلى مزارع الزهر التي تعطر أنفاس العالم وحسانه وجميلاته. يقول تقرير بثته وكالة الأنباء الرسمية «إينا» إن إثيوبيا تعد ثاني أكبر مصدر للزهور في أفريقيا بعد كينيا، وتسعى حثيثة لتحتل المركز الأول، ولتقدم للعالم أعطر الزهور وأجملها، ملفوفة في وشاح من التاريخ والعمق الحضاري والثراء السكاني، بما يجعل من البلد الذي ينمو بوتائر مرتفعة «سُرّة أفريقيا» وموطن التأثير والجمال فيها.