من نوستالجيا وحنين الزمن الجميل إلى الشكوى المستمرة والمتصاعدة من انحطاط أخلاق الناس عما سبق في الماضي القريب الذي عايشوه أو سمعوا عنه وانتشار مشاعر التكاره والتنابذ والتشفي والعنف العشوائي والمتوحش، ينطرح سؤال الأخلاق وقيم وآداب السلوك التي يفترض أن ترفدها الصحوات والمؤسسات والحركات الدينية بالخصوص، كما ترفدها وتزيد منها الصحوات الإبداعية، الأدبية والفنية.
أهملت خطابات التشدد والتطرف المعاصرة في العالم الإسلامي باباً واسعاً من تراثه، وهو باب آداب السلوك والأخلاق، الذي ألَّف فيه المتكلمون والفلاسفة كما ألف فيه المؤدبون والمتصوفة وغيرهم، وأنتج فيه المسلمون مطورين ما ترجموه إيجابيّاً عن الشرق (ابن المقفع) والغرب (ابن مسكويه)، وما أبدعوه خالصاً لهم في آداب الدين والدنيا التي صبَّ ووقف عليها البعض كتباً خاصة كأبي الحسن الماوردي (توفي سنة 450 هجرية) وأبو حامد الغزالي (ت 505 هجرية) وشقيقه الأصغر أحمد الغزالي الطوسي الذي نُسِب له في العقد الماضي كتاب بعنوان «أدب الدين»، والحكيم الترمذي صاحب «الفروق» وأبو الحسن العامري وغيرهم كثير، ممن حاولوا التأسيس والتمكين لقيم أخلاقية وسلوكية عامة وخاصة في الاجتماع والثقافة، استوعبت الآخر وقدرته، وقدموا نموذجاً ذكره الكثيرون في كتبهم، كما توسعت كتب الرجال والتراجم في ذكر المحاسن والطرائف الأخلاقية والسلوكية للمترجم لهم، فحفظت كرم الشاعر الصعلوك عروة بن الورد العبسي، كما حفظت مكرمات وخارجيات صعصعة بن غالب التميمي (قبل الإسلام) «محيي الموءودات الذي أنفق ماله على إنقاذ البنات من الوأد على أيدي أهلهن»، وهو ما رواه ابنه عامر بن صعصعة للنبي صلى الله عليه وسلم مع وفد تميم وأقرَّه عليه ومدحه فيه، وكان محل تفاخر حفيده الفرزدق في معارضاته على سواه فيما بعد، بل لم تكتفِ كتب التراجم والرجال بذلك، بل لَمَّحت للتسامح في دلالة خطيرة كضربها المثل في الكرم بالمسيحي حاتم الطائي أو في الوفاء باليهودي السموأل بن عادياء قبل الإسلام. لكن على العكس من المتوقع، تدحض أخلاق وسلوكيات كثير من الناس، والشكوى الظاهرة منها، دعوى تأثير كل من الخطاب الديني السطحي أو الأصولي السائد، الذي لا يزال يخلط بين الأخلاق الجوانية التي لا يعلمها إلا الله وأخلاق المسؤولية التي يقيسها البشر في سلوك بعضهم بعضاً.
بين الأخلاق «الجوانية» وأخلاق المسؤولية
من تعبيرات «القلب الأبيض»، كما تصف العامية المصرية «البراءة» إلى ادعاء التقوى أو التزام شكلياتها دون جوهرها، تبدو فجوة التزام واسعة بين دعوى التدين وسلوك الحسن والراقي من الأخلاق مع الآخرين من نفس الدين أو من نفس الجنس أو العرق. تُدعى التقوى، رغم أنها من أسرار الله، وقد تلتزم في الطقوس والعادات، لكن فجوة الالتزام بين المقول والمفعول واسعة وواضحة، كما يركز التدين السائد على التمسك بالأخلاق الجوانية تفصيلاً وتكراراً، بينما يلح اختصاراً على ما يمس حياة الناس وتعاملاتهم وتفصيلاتها من آداب السلوك القديمة الموروثة أو الجديدة والمتجددة مع مستحدثات العصر والتكنولوجيا.
باختصار، اندثرت كثير من السلوكيات الحسنة الموروثة، التي مثلت - في السابق - تقاليد اجتماعية محببة ومحل تفاخر وإجلال تكتنز بها كتب الذكريات والمذكرات، كما غابت المعايير الأخلاقية عن سلوكيات حديثة وما بعد حديثة، انحطت فيها سلوكيات الناس، قدحاً وفضحاً، وتكارهاً وتنافراً لحد بعيد في كثير من الفئات والجماعات، وانتشر العنف العشوائي، المعنوي والمادي، والمشاعر السلبية والمؤذية التي تجرح كما تقتل الآخرين أحياناً.
لم ننتج خطاباً قيمياً وأخلاقياً مستنيراً ومتجدداً، يضع فقهاً وآداباً تناسب العصر والمستجدات الحضارية والاجتماعية، بدءاً من أخلاق التواصل؛ من أخلاقيات استخدام الهاتف إلى المواقع التواصلية، وتناول الأخبار والأشخاص وحيواتهم، وما زال كثير من رجال الدين والمؤسسات الدينية ودعاتها وخطباؤها فضاء منعزلاً وساكناً لا يُحدِث تأثيره المطلوب، يمارس وظيفته وليس رسالته، ويحمل أحياناً نفس القيم السلبية لخطاب التشدد والأصولية دون تأهيل نقدي أو علمي، وهو ما أتاح للحركات الأصولية والدعوية والدعاة الأفراد أن يتمدد في فراغهم أحياناً، محدثين التأثير وأحياناً محدثين للخطر وتجنيد العناصر المتطرفة، أو تفجير وتأجيج المشكلات الطائفية والثقافية. ونرى أن جزءاً من أزمة الخطاب والسلوك الأخلاقي العربي والإسلامي بعموم أنه ركز على الجوانية دون أخلاق الموقف أو أخلاق المسؤولية، فتبدو العواطف الدينية المدعاة أشبه بالحياد القيمي الذي لا يمانع من إتيان ما يسيء للفرد والجماعة اكتفاء بدعوى أو ادعاء التقوى أو الإيمان، وهو على العكس من مكانة الأخلاق العملية والتعاملية في الإسلام، نصّاً وتراثاً بشكل واضح.
إن خطورة القناع «الجواني» الذي يتمسك به متدينون ومتشددون في المسألة الأخلاقية، أنه ينفي الإنساني، والآخر، وفكرة الضبط في الحقوق والواجبات، فيتورط فيما هو محرَّم ومجرَّم بغايات تبدو عنده مقبولة. على سبيل المثال، تنفجر الفتن الطائفية أحياناً من علاقات الجيرة بين المسيحيين والمسلمين، حيث يكون الإغراء من شاب أو مراهق لفتاة من طائفة أخرى، وهو ما لم تكن تجيزه التقاليد فضلاً عن الدين، حيث لا اقتراب أو تعرض من «بنت الجيران»، فضلاً عن واجب صيانتها وصيانة الجيرة من أي خطر قد تتعرض له، ولكن جوانيته الضيقة التي انحصرت وانحشرت في هويته الإيمانية غير العقلانية استحلَّت ما هو حرام وفق فقهها، ومجرَّم وفق إنسانيتها.
كذلك ينتهج التشدد الأصولي نهجاً ميكيافيليّاً، تبرر فيه الغايةُ الوسيلةَ، فلا يبالي بإغراء امرأة بالزواج بنية تجنيدها! كما كان يفعل «داعش» مراراً، أو استحلال المال والمقتنيات وتدمير المدنيين وغير المقاتلين بغاية النكال والإحراج للدولة والنظام هنا أو هناك، رغم أن قتل غير المقاتل محرم ديناً وشرعاً في النص الإسلامي والمواثيق الدولية والشرعة الإنسانية، ويتجاهل شروطاً لجواز التترس، وغير ذلك في عنف عشوائي وعدمي لا يبصر من يقتله.
وهنا يحل ويتحد العالم المتنوع والتفاعلي في الفرد الواحد أو المتوحد، وينتفي الآخر وحقوقه لصالح الذات ورغباتها وما تريد، فيكذب ويكره وينكر ما هو قانوني أو إنساني أو حضاري في التعامل مع الآخرين، لمجرد أنه يرى نفسه وقلبه «أبيض»، بينما فعله وسلوكه أسود، أو أنه على الطريقة الصحيحة دون أن يستقيم عليها.
تتناقض الأخلاق الجوانية مع أخلاق المسؤولية الحديثة، التي صكَّ مفهومَها عالم الاجتماع الألماني الراحل ماكس فيبر (1864 - 1920) في ظل أوضاع ألمانية وأوروبية شائكة، كبديل عن أخلاق الموقف التي تسعى للانقلاب على الواقع أو تطويعه متجهاً للمسؤولية القائمة على حوار تفاعلي بين الذات والآخر، ورآها أكثر مناسَبةً للأوضاع السياسية في عصره وللتطور العقلي والفكري في أوروبا بعموم.
وقد ساعدت حركات الأصولية والتطرف العنيف وممارساته الوحشية والمتوحشة وخطابه الإقصائي والتكارهي والتخويني على تأجيج كل السلبيات تجاه الآخرين، وعلى تعطيل أدوار وقوى الاعتدال والوسطية والحداثة والفن في صناعة سلوكيات أكثر رقيّاً، حيث وضعتها في خانة «العميل أو المتهم» دائماً وتصفه أحياناً بالعقلاني! وكأنه عيب، أو العصراني وكأنها سبة! وتعلن اكتفاءها النظري والثقافي رافضةً كل ما يمكن أن يكون فضيلة لمجتمع آخر أو ثقافة أخرى، حتى لو كان قيمة سلوكية أو شعورية راقية يمكن أن ترتفع بسلوك الفرد والإنسان.
عن المسؤولية الأصولية والأزمة الأخلاقية
حصرت الحركات الأصولية وحركات التطرف العنيف وخطاباته المسلمين في غاية السياسة والإمامة والخلافة التي قصمت ماضيهم وتقسم حاضرهم، دون اهتمام بالحاضر والمستقبل في شيء، ليظل كلاهما تائهاً يبحث للماضي وحضوره عن دور إيجابي فيه. ولم يجهد الخطاب الديني نفسه في التمكين للصالح والقابل للاستدعاء من تراثنا وثقافتنا، وكما سبق أن ذكرنا أهمل باباً عريضاً من التراث الأخلاقي في الحضارة الإسلامية، ولم يقوَ على إحيائه أو البناء عليه.
كذلك فشل الخطاب التشدد والجواني في وضع معايير قيمية وأخلاقية للمستجدات والممارسات الحديثة، أو الإسهام في التنمية وتجاوز الأزمات عبر نشر ثقافة التعايش وثقافة العمل والإتقان والإنجاز وغيرها.
كما أنه لم ينجح في استيعاب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية فضلاً عن السياسية في إنتاج قيم وسلوكيات إيجابية تتجاوزها ولا تعمقها، بتفعيل ثقافة العمل والتطور والتعفف والتحمل وغيرها من القيم النبيلة والجميلة التي تناسب هذه اللحظات الصعبة من الأزمات.
هذا، رغم كثرة النقول والنصوص القرآنية والنبوية التي تحث وتدفع لترجمة الإيمان سلوكاً حسناً خلوقاً يلمسه الآخرون ويلامسونه، من قبيل «البر حسن الخلق» و«الدين المعاملة» و«أحاسنكم أخلاقاً»، وكثير غير ذلك، إلا أن الضجيج الخطابي والحركي الديني والمتشدد لم ينجح في إعاقة الانحطاط الأخلاقي، فضلاً عن أنه قد يكون أحد الدوافع إليه لأسباب مختلفة يتحمل مسؤوليتها كما سنوضح.
فقد أعاق وشَوَّه خطاب التشدد والديني الشكلي والسطحي كل جهود التمكين للقيم الحضارية التي يحملها الخطاب المدني أو الثقافي أو الفلسفي أو الفني، معتبراً ومحتكراً أن هذا حقه الوحيد فلا يجوز لغيره أن يُسهِم في تطوير وعي الناس وسلوكهم بل أوجب على الناس أحياناً رَفْض كل ذلك، باعتباره نجساً حديثاً لا ينتمي لماضينا الذي وقف عنده الزمن. وهو في ذلك يدرك أنه لم يملأ فراغات الزمن وحاجات الناس ورغباتهم، فصار مغترباً عن واقعهم وبلا مسارب ومصادر قيم أخرى، فكانت العشوائية علامة سلوكية لا يضبطها إلا القانون رغم أن الأصولية ترفضه أيضاً، كما ترفض كل ما هو حديث، وأخطره تشكيكها ورفضها لمفهوم الدولة والوطنية والمواطنة، وما شابه في تكريس ثقافة اللاانتماء والعشوائية والسيولة وتهديد السلم الأهلي.
بينما حفظ لنا التراث شعراً وأدباً راقياً اكتظت به مجلدات «الأغاني» للأصفهاني وسير أمثال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وشغب وغيرهم ومختارات أبي تمام وكتب الذخائر والمعلقات، إلا أن التشدد المعاصر شوه لا يزال يشوه كل إنتاج الفن والأدب ويحجب بينه وبين الناس بشكل غريب ليبقى وحده مصدراً للعشوائية والتكاره والعزلة في حياة الناس لا غير.