الصخب الأصولي وآداب الناس

سؤال الأخلاق وتأثير التطرف السلبي

عناصر من «داعش» في مرحلة تراجع وتقهقر في الفلوجة بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة على الأرض (أ.ب)
عناصر من «داعش» في مرحلة تراجع وتقهقر في الفلوجة بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة على الأرض (أ.ب)
TT

الصخب الأصولي وآداب الناس

عناصر من «داعش» في مرحلة تراجع وتقهقر في الفلوجة بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة على الأرض (أ.ب)
عناصر من «داعش» في مرحلة تراجع وتقهقر في الفلوجة بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة على الأرض (أ.ب)

من نوستالجيا وحنين الزمن الجميل إلى الشكوى المستمرة والمتصاعدة من انحطاط أخلاق الناس عما سبق في الماضي القريب الذي عايشوه أو سمعوا عنه وانتشار مشاعر التكاره والتنابذ والتشفي والعنف العشوائي والمتوحش، ينطرح سؤال الأخلاق وقيم وآداب السلوك التي يفترض أن ترفدها الصحوات والمؤسسات والحركات الدينية بالخصوص، كما ترفدها وتزيد منها الصحوات الإبداعية، الأدبية والفنية.
أهملت خطابات التشدد والتطرف المعاصرة في العالم الإسلامي باباً واسعاً من تراثه، وهو باب آداب السلوك والأخلاق، الذي ألَّف فيه المتكلمون والفلاسفة كما ألف فيه المؤدبون والمتصوفة وغيرهم، وأنتج فيه المسلمون مطورين ما ترجموه إيجابيّاً عن الشرق (ابن المقفع) والغرب (ابن مسكويه)، وما أبدعوه خالصاً لهم في آداب الدين والدنيا التي صبَّ ووقف عليها البعض كتباً خاصة كأبي الحسن الماوردي (توفي سنة 450 هجرية) وأبو حامد الغزالي (ت 505 هجرية) وشقيقه الأصغر أحمد الغزالي الطوسي الذي نُسِب له في العقد الماضي كتاب بعنوان «أدب الدين»، والحكيم الترمذي صاحب «الفروق» وأبو الحسن العامري وغيرهم كثير، ممن حاولوا التأسيس والتمكين لقيم أخلاقية وسلوكية عامة وخاصة في الاجتماع والثقافة، استوعبت الآخر وقدرته، وقدموا نموذجاً ذكره الكثيرون في كتبهم، كما توسعت كتب الرجال والتراجم في ذكر المحاسن والطرائف الأخلاقية والسلوكية للمترجم لهم، فحفظت كرم الشاعر الصعلوك عروة بن الورد العبسي، كما حفظت مكرمات وخارجيات صعصعة بن غالب التميمي (قبل الإسلام) «محيي الموءودات الذي أنفق ماله على إنقاذ البنات من الوأد على أيدي أهلهن»، وهو ما رواه ابنه عامر بن صعصعة للنبي صلى الله عليه وسلم مع وفد تميم وأقرَّه عليه ومدحه فيه، وكان محل تفاخر حفيده الفرزدق في معارضاته على سواه فيما بعد، بل لم تكتفِ كتب التراجم والرجال بذلك، بل لَمَّحت للتسامح في دلالة خطيرة كضربها المثل في الكرم بالمسيحي حاتم الطائي أو في الوفاء باليهودي السموأل بن عادياء قبل الإسلام. لكن على العكس من المتوقع، تدحض أخلاق وسلوكيات كثير من الناس، والشكوى الظاهرة منها، دعوى تأثير كل من الخطاب الديني السطحي أو الأصولي السائد، الذي لا يزال يخلط بين الأخلاق الجوانية التي لا يعلمها إلا الله وأخلاق المسؤولية التي يقيسها البشر في سلوك بعضهم بعضاً.

بين الأخلاق «الجوانية» وأخلاق المسؤولية
من تعبيرات «القلب الأبيض»، كما تصف العامية المصرية «البراءة» إلى ادعاء التقوى أو التزام شكلياتها دون جوهرها، تبدو فجوة التزام واسعة بين دعوى التدين وسلوك الحسن والراقي من الأخلاق مع الآخرين من نفس الدين أو من نفس الجنس أو العرق. تُدعى التقوى، رغم أنها من أسرار الله، وقد تلتزم في الطقوس والعادات، لكن فجوة الالتزام بين المقول والمفعول واسعة وواضحة، كما يركز التدين السائد على التمسك بالأخلاق الجوانية تفصيلاً وتكراراً، بينما يلح اختصاراً على ما يمس حياة الناس وتعاملاتهم وتفصيلاتها من آداب السلوك القديمة الموروثة أو الجديدة والمتجددة مع مستحدثات العصر والتكنولوجيا.
باختصار، اندثرت كثير من السلوكيات الحسنة الموروثة، التي مثلت - في السابق - تقاليد اجتماعية محببة ومحل تفاخر وإجلال تكتنز بها كتب الذكريات والمذكرات، كما غابت المعايير الأخلاقية عن سلوكيات حديثة وما بعد حديثة، انحطت فيها سلوكيات الناس، قدحاً وفضحاً، وتكارهاً وتنافراً لحد بعيد في كثير من الفئات والجماعات، وانتشر العنف العشوائي، المعنوي والمادي، والمشاعر السلبية والمؤذية التي تجرح كما تقتل الآخرين أحياناً.
لم ننتج خطاباً قيمياً وأخلاقياً مستنيراً ومتجدداً، يضع فقهاً وآداباً تناسب العصر والمستجدات الحضارية والاجتماعية، بدءاً من أخلاق التواصل؛ من أخلاقيات استخدام الهاتف إلى المواقع التواصلية، وتناول الأخبار والأشخاص وحيواتهم، وما زال كثير من رجال الدين والمؤسسات الدينية ودعاتها وخطباؤها فضاء منعزلاً وساكناً لا يُحدِث تأثيره المطلوب، يمارس وظيفته وليس رسالته، ويحمل أحياناً نفس القيم السلبية لخطاب التشدد والأصولية دون تأهيل نقدي أو علمي، وهو ما أتاح للحركات الأصولية والدعوية والدعاة الأفراد أن يتمدد في فراغهم أحياناً، محدثين التأثير وأحياناً محدثين للخطر وتجنيد العناصر المتطرفة، أو تفجير وتأجيج المشكلات الطائفية والثقافية. ونرى أن جزءاً من أزمة الخطاب والسلوك الأخلاقي العربي والإسلامي بعموم أنه ركز على الجوانية دون أخلاق الموقف أو أخلاق المسؤولية، فتبدو العواطف الدينية المدعاة أشبه بالحياد القيمي الذي لا يمانع من إتيان ما يسيء للفرد والجماعة اكتفاء بدعوى أو ادعاء التقوى أو الإيمان، وهو على العكس من مكانة الأخلاق العملية والتعاملية في الإسلام، نصّاً وتراثاً بشكل واضح.
إن خطورة القناع «الجواني» الذي يتمسك به متدينون ومتشددون في المسألة الأخلاقية، أنه ينفي الإنساني، والآخر، وفكرة الضبط في الحقوق والواجبات، فيتورط فيما هو محرَّم ومجرَّم بغايات تبدو عنده مقبولة. على سبيل المثال، تنفجر الفتن الطائفية أحياناً من علاقات الجيرة بين المسيحيين والمسلمين، حيث يكون الإغراء من شاب أو مراهق لفتاة من طائفة أخرى، وهو ما لم تكن تجيزه التقاليد فضلاً عن الدين، حيث لا اقتراب أو تعرض من «بنت الجيران»، فضلاً عن واجب صيانتها وصيانة الجيرة من أي خطر قد تتعرض له، ولكن جوانيته الضيقة التي انحصرت وانحشرت في هويته الإيمانية غير العقلانية استحلَّت ما هو حرام وفق فقهها، ومجرَّم وفق إنسانيتها.
كذلك ينتهج التشدد الأصولي نهجاً ميكيافيليّاً، تبرر فيه الغايةُ الوسيلةَ، فلا يبالي بإغراء امرأة بالزواج بنية تجنيدها! كما كان يفعل «داعش» مراراً، أو استحلال المال والمقتنيات وتدمير المدنيين وغير المقاتلين بغاية النكال والإحراج للدولة والنظام هنا أو هناك، رغم أن قتل غير المقاتل محرم ديناً وشرعاً في النص الإسلامي والمواثيق الدولية والشرعة الإنسانية، ويتجاهل شروطاً لجواز التترس، وغير ذلك في عنف عشوائي وعدمي لا يبصر من يقتله.
وهنا يحل ويتحد العالم المتنوع والتفاعلي في الفرد الواحد أو المتوحد، وينتفي الآخر وحقوقه لصالح الذات ورغباتها وما تريد، فيكذب ويكره وينكر ما هو قانوني أو إنساني أو حضاري في التعامل مع الآخرين، لمجرد أنه يرى نفسه وقلبه «أبيض»، بينما فعله وسلوكه أسود، أو أنه على الطريقة الصحيحة دون أن يستقيم عليها.
تتناقض الأخلاق الجوانية مع أخلاق المسؤولية الحديثة، التي صكَّ مفهومَها عالم الاجتماع الألماني الراحل ماكس فيبر (1864 - 1920) في ظل أوضاع ألمانية وأوروبية شائكة، كبديل عن أخلاق الموقف التي تسعى للانقلاب على الواقع أو تطويعه متجهاً للمسؤولية القائمة على حوار تفاعلي بين الذات والآخر، ورآها أكثر مناسَبةً للأوضاع السياسية في عصره وللتطور العقلي والفكري في أوروبا بعموم.
وقد ساعدت حركات الأصولية والتطرف العنيف وممارساته الوحشية والمتوحشة وخطابه الإقصائي والتكارهي والتخويني على تأجيج كل السلبيات تجاه الآخرين، وعلى تعطيل أدوار وقوى الاعتدال والوسطية والحداثة والفن في صناعة سلوكيات أكثر رقيّاً، حيث وضعتها في خانة «العميل أو المتهم» دائماً وتصفه أحياناً بالعقلاني! وكأنه عيب، أو العصراني وكأنها سبة! وتعلن اكتفاءها النظري والثقافي رافضةً كل ما يمكن أن يكون فضيلة لمجتمع آخر أو ثقافة أخرى، حتى لو كان قيمة سلوكية أو شعورية راقية يمكن أن ترتفع بسلوك الفرد والإنسان.

عن المسؤولية الأصولية والأزمة الأخلاقية
حصرت الحركات الأصولية وحركات التطرف العنيف وخطاباته المسلمين في غاية السياسة والإمامة والخلافة التي قصمت ماضيهم وتقسم حاضرهم، دون اهتمام بالحاضر والمستقبل في شيء، ليظل كلاهما تائهاً يبحث للماضي وحضوره عن دور إيجابي فيه. ولم يجهد الخطاب الديني نفسه في التمكين للصالح والقابل للاستدعاء من تراثنا وثقافتنا، وكما سبق أن ذكرنا أهمل باباً عريضاً من التراث الأخلاقي في الحضارة الإسلامية، ولم يقوَ على إحيائه أو البناء عليه.
كذلك فشل الخطاب التشدد والجواني في وضع معايير قيمية وأخلاقية للمستجدات والممارسات الحديثة، أو الإسهام في التنمية وتجاوز الأزمات عبر نشر ثقافة التعايش وثقافة العمل والإتقان والإنجاز وغيرها.
كما أنه لم ينجح في استيعاب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية فضلاً عن السياسية في إنتاج قيم وسلوكيات إيجابية تتجاوزها ولا تعمقها، بتفعيل ثقافة العمل والتطور والتعفف والتحمل وغيرها من القيم النبيلة والجميلة التي تناسب هذه اللحظات الصعبة من الأزمات.
هذا، رغم كثرة النقول والنصوص القرآنية والنبوية التي تحث وتدفع لترجمة الإيمان سلوكاً حسناً خلوقاً يلمسه الآخرون ويلامسونه، من قبيل «البر حسن الخلق» و«الدين المعاملة» و«أحاسنكم أخلاقاً»، وكثير غير ذلك، إلا أن الضجيج الخطابي والحركي الديني والمتشدد لم ينجح في إعاقة الانحطاط الأخلاقي، فضلاً عن أنه قد يكون أحد الدوافع إليه لأسباب مختلفة يتحمل مسؤوليتها كما سنوضح.
فقد أعاق وشَوَّه خطاب التشدد والديني الشكلي والسطحي كل جهود التمكين للقيم الحضارية التي يحملها الخطاب المدني أو الثقافي أو الفلسفي أو الفني، معتبراً ومحتكراً أن هذا حقه الوحيد فلا يجوز لغيره أن يُسهِم في تطوير وعي الناس وسلوكهم بل أوجب على الناس أحياناً رَفْض كل ذلك، باعتباره نجساً حديثاً لا ينتمي لماضينا الذي وقف عنده الزمن. وهو في ذلك يدرك أنه لم يملأ فراغات الزمن وحاجات الناس ورغباتهم، فصار مغترباً عن واقعهم وبلا مسارب ومصادر قيم أخرى، فكانت العشوائية علامة سلوكية لا يضبطها إلا القانون رغم أن الأصولية ترفضه أيضاً، كما ترفض كل ما هو حديث، وأخطره تشكيكها ورفضها لمفهوم الدولة والوطنية والمواطنة، وما شابه في تكريس ثقافة اللاانتماء والعشوائية والسيولة وتهديد السلم الأهلي.
بينما حفظ لنا التراث شعراً وأدباً راقياً اكتظت به مجلدات «الأغاني» للأصفهاني وسير أمثال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وشغب وغيرهم ومختارات أبي تمام وكتب الذخائر والمعلقات، إلا أن التشدد المعاصر شوه لا يزال يشوه كل إنتاج الفن والأدب ويحجب بينه وبين الناس بشكل غريب ليبقى وحده مصدراً للعشوائية والتكاره والعزلة في حياة الناس لا غير.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.