الصخب الأصولي وآداب الناس

سؤال الأخلاق وتأثير التطرف السلبي

عناصر من «داعش» في مرحلة تراجع وتقهقر في الفلوجة بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة على الأرض (أ.ب)
عناصر من «داعش» في مرحلة تراجع وتقهقر في الفلوجة بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة على الأرض (أ.ب)
TT

الصخب الأصولي وآداب الناس

عناصر من «داعش» في مرحلة تراجع وتقهقر في الفلوجة بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة على الأرض (أ.ب)
عناصر من «داعش» في مرحلة تراجع وتقهقر في الفلوجة بعد أن تعرضوا لخسائر كبيرة على الأرض (أ.ب)

من نوستالجيا وحنين الزمن الجميل إلى الشكوى المستمرة والمتصاعدة من انحطاط أخلاق الناس عما سبق في الماضي القريب الذي عايشوه أو سمعوا عنه وانتشار مشاعر التكاره والتنابذ والتشفي والعنف العشوائي والمتوحش، ينطرح سؤال الأخلاق وقيم وآداب السلوك التي يفترض أن ترفدها الصحوات والمؤسسات والحركات الدينية بالخصوص، كما ترفدها وتزيد منها الصحوات الإبداعية، الأدبية والفنية.
أهملت خطابات التشدد والتطرف المعاصرة في العالم الإسلامي باباً واسعاً من تراثه، وهو باب آداب السلوك والأخلاق، الذي ألَّف فيه المتكلمون والفلاسفة كما ألف فيه المؤدبون والمتصوفة وغيرهم، وأنتج فيه المسلمون مطورين ما ترجموه إيجابيّاً عن الشرق (ابن المقفع) والغرب (ابن مسكويه)، وما أبدعوه خالصاً لهم في آداب الدين والدنيا التي صبَّ ووقف عليها البعض كتباً خاصة كأبي الحسن الماوردي (توفي سنة 450 هجرية) وأبو حامد الغزالي (ت 505 هجرية) وشقيقه الأصغر أحمد الغزالي الطوسي الذي نُسِب له في العقد الماضي كتاب بعنوان «أدب الدين»، والحكيم الترمذي صاحب «الفروق» وأبو الحسن العامري وغيرهم كثير، ممن حاولوا التأسيس والتمكين لقيم أخلاقية وسلوكية عامة وخاصة في الاجتماع والثقافة، استوعبت الآخر وقدرته، وقدموا نموذجاً ذكره الكثيرون في كتبهم، كما توسعت كتب الرجال والتراجم في ذكر المحاسن والطرائف الأخلاقية والسلوكية للمترجم لهم، فحفظت كرم الشاعر الصعلوك عروة بن الورد العبسي، كما حفظت مكرمات وخارجيات صعصعة بن غالب التميمي (قبل الإسلام) «محيي الموءودات الذي أنفق ماله على إنقاذ البنات من الوأد على أيدي أهلهن»، وهو ما رواه ابنه عامر بن صعصعة للنبي صلى الله عليه وسلم مع وفد تميم وأقرَّه عليه ومدحه فيه، وكان محل تفاخر حفيده الفرزدق في معارضاته على سواه فيما بعد، بل لم تكتفِ كتب التراجم والرجال بذلك، بل لَمَّحت للتسامح في دلالة خطيرة كضربها المثل في الكرم بالمسيحي حاتم الطائي أو في الوفاء باليهودي السموأل بن عادياء قبل الإسلام. لكن على العكس من المتوقع، تدحض أخلاق وسلوكيات كثير من الناس، والشكوى الظاهرة منها، دعوى تأثير كل من الخطاب الديني السطحي أو الأصولي السائد، الذي لا يزال يخلط بين الأخلاق الجوانية التي لا يعلمها إلا الله وأخلاق المسؤولية التي يقيسها البشر في سلوك بعضهم بعضاً.

بين الأخلاق «الجوانية» وأخلاق المسؤولية
من تعبيرات «القلب الأبيض»، كما تصف العامية المصرية «البراءة» إلى ادعاء التقوى أو التزام شكلياتها دون جوهرها، تبدو فجوة التزام واسعة بين دعوى التدين وسلوك الحسن والراقي من الأخلاق مع الآخرين من نفس الدين أو من نفس الجنس أو العرق. تُدعى التقوى، رغم أنها من أسرار الله، وقد تلتزم في الطقوس والعادات، لكن فجوة الالتزام بين المقول والمفعول واسعة وواضحة، كما يركز التدين السائد على التمسك بالأخلاق الجوانية تفصيلاً وتكراراً، بينما يلح اختصاراً على ما يمس حياة الناس وتعاملاتهم وتفصيلاتها من آداب السلوك القديمة الموروثة أو الجديدة والمتجددة مع مستحدثات العصر والتكنولوجيا.
باختصار، اندثرت كثير من السلوكيات الحسنة الموروثة، التي مثلت - في السابق - تقاليد اجتماعية محببة ومحل تفاخر وإجلال تكتنز بها كتب الذكريات والمذكرات، كما غابت المعايير الأخلاقية عن سلوكيات حديثة وما بعد حديثة، انحطت فيها سلوكيات الناس، قدحاً وفضحاً، وتكارهاً وتنافراً لحد بعيد في كثير من الفئات والجماعات، وانتشر العنف العشوائي، المعنوي والمادي، والمشاعر السلبية والمؤذية التي تجرح كما تقتل الآخرين أحياناً.
لم ننتج خطاباً قيمياً وأخلاقياً مستنيراً ومتجدداً، يضع فقهاً وآداباً تناسب العصر والمستجدات الحضارية والاجتماعية، بدءاً من أخلاق التواصل؛ من أخلاقيات استخدام الهاتف إلى المواقع التواصلية، وتناول الأخبار والأشخاص وحيواتهم، وما زال كثير من رجال الدين والمؤسسات الدينية ودعاتها وخطباؤها فضاء منعزلاً وساكناً لا يُحدِث تأثيره المطلوب، يمارس وظيفته وليس رسالته، ويحمل أحياناً نفس القيم السلبية لخطاب التشدد والأصولية دون تأهيل نقدي أو علمي، وهو ما أتاح للحركات الأصولية والدعوية والدعاة الأفراد أن يتمدد في فراغهم أحياناً، محدثين التأثير وأحياناً محدثين للخطر وتجنيد العناصر المتطرفة، أو تفجير وتأجيج المشكلات الطائفية والثقافية. ونرى أن جزءاً من أزمة الخطاب والسلوك الأخلاقي العربي والإسلامي بعموم أنه ركز على الجوانية دون أخلاق الموقف أو أخلاق المسؤولية، فتبدو العواطف الدينية المدعاة أشبه بالحياد القيمي الذي لا يمانع من إتيان ما يسيء للفرد والجماعة اكتفاء بدعوى أو ادعاء التقوى أو الإيمان، وهو على العكس من مكانة الأخلاق العملية والتعاملية في الإسلام، نصّاً وتراثاً بشكل واضح.
إن خطورة القناع «الجواني» الذي يتمسك به متدينون ومتشددون في المسألة الأخلاقية، أنه ينفي الإنساني، والآخر، وفكرة الضبط في الحقوق والواجبات، فيتورط فيما هو محرَّم ومجرَّم بغايات تبدو عنده مقبولة. على سبيل المثال، تنفجر الفتن الطائفية أحياناً من علاقات الجيرة بين المسيحيين والمسلمين، حيث يكون الإغراء من شاب أو مراهق لفتاة من طائفة أخرى، وهو ما لم تكن تجيزه التقاليد فضلاً عن الدين، حيث لا اقتراب أو تعرض من «بنت الجيران»، فضلاً عن واجب صيانتها وصيانة الجيرة من أي خطر قد تتعرض له، ولكن جوانيته الضيقة التي انحصرت وانحشرت في هويته الإيمانية غير العقلانية استحلَّت ما هو حرام وفق فقهها، ومجرَّم وفق إنسانيتها.
كذلك ينتهج التشدد الأصولي نهجاً ميكيافيليّاً، تبرر فيه الغايةُ الوسيلةَ، فلا يبالي بإغراء امرأة بالزواج بنية تجنيدها! كما كان يفعل «داعش» مراراً، أو استحلال المال والمقتنيات وتدمير المدنيين وغير المقاتلين بغاية النكال والإحراج للدولة والنظام هنا أو هناك، رغم أن قتل غير المقاتل محرم ديناً وشرعاً في النص الإسلامي والمواثيق الدولية والشرعة الإنسانية، ويتجاهل شروطاً لجواز التترس، وغير ذلك في عنف عشوائي وعدمي لا يبصر من يقتله.
وهنا يحل ويتحد العالم المتنوع والتفاعلي في الفرد الواحد أو المتوحد، وينتفي الآخر وحقوقه لصالح الذات ورغباتها وما تريد، فيكذب ويكره وينكر ما هو قانوني أو إنساني أو حضاري في التعامل مع الآخرين، لمجرد أنه يرى نفسه وقلبه «أبيض»، بينما فعله وسلوكه أسود، أو أنه على الطريقة الصحيحة دون أن يستقيم عليها.
تتناقض الأخلاق الجوانية مع أخلاق المسؤولية الحديثة، التي صكَّ مفهومَها عالم الاجتماع الألماني الراحل ماكس فيبر (1864 - 1920) في ظل أوضاع ألمانية وأوروبية شائكة، كبديل عن أخلاق الموقف التي تسعى للانقلاب على الواقع أو تطويعه متجهاً للمسؤولية القائمة على حوار تفاعلي بين الذات والآخر، ورآها أكثر مناسَبةً للأوضاع السياسية في عصره وللتطور العقلي والفكري في أوروبا بعموم.
وقد ساعدت حركات الأصولية والتطرف العنيف وممارساته الوحشية والمتوحشة وخطابه الإقصائي والتكارهي والتخويني على تأجيج كل السلبيات تجاه الآخرين، وعلى تعطيل أدوار وقوى الاعتدال والوسطية والحداثة والفن في صناعة سلوكيات أكثر رقيّاً، حيث وضعتها في خانة «العميل أو المتهم» دائماً وتصفه أحياناً بالعقلاني! وكأنه عيب، أو العصراني وكأنها سبة! وتعلن اكتفاءها النظري والثقافي رافضةً كل ما يمكن أن يكون فضيلة لمجتمع آخر أو ثقافة أخرى، حتى لو كان قيمة سلوكية أو شعورية راقية يمكن أن ترتفع بسلوك الفرد والإنسان.

عن المسؤولية الأصولية والأزمة الأخلاقية
حصرت الحركات الأصولية وحركات التطرف العنيف وخطاباته المسلمين في غاية السياسة والإمامة والخلافة التي قصمت ماضيهم وتقسم حاضرهم، دون اهتمام بالحاضر والمستقبل في شيء، ليظل كلاهما تائهاً يبحث للماضي وحضوره عن دور إيجابي فيه. ولم يجهد الخطاب الديني نفسه في التمكين للصالح والقابل للاستدعاء من تراثنا وثقافتنا، وكما سبق أن ذكرنا أهمل باباً عريضاً من التراث الأخلاقي في الحضارة الإسلامية، ولم يقوَ على إحيائه أو البناء عليه.
كذلك فشل الخطاب التشدد والجواني في وضع معايير قيمية وأخلاقية للمستجدات والممارسات الحديثة، أو الإسهام في التنمية وتجاوز الأزمات عبر نشر ثقافة التعايش وثقافة العمل والإتقان والإنجاز وغيرها.
كما أنه لم ينجح في استيعاب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية فضلاً عن السياسية في إنتاج قيم وسلوكيات إيجابية تتجاوزها ولا تعمقها، بتفعيل ثقافة العمل والتطور والتعفف والتحمل وغيرها من القيم النبيلة والجميلة التي تناسب هذه اللحظات الصعبة من الأزمات.
هذا، رغم كثرة النقول والنصوص القرآنية والنبوية التي تحث وتدفع لترجمة الإيمان سلوكاً حسناً خلوقاً يلمسه الآخرون ويلامسونه، من قبيل «البر حسن الخلق» و«الدين المعاملة» و«أحاسنكم أخلاقاً»، وكثير غير ذلك، إلا أن الضجيج الخطابي والحركي الديني والمتشدد لم ينجح في إعاقة الانحطاط الأخلاقي، فضلاً عن أنه قد يكون أحد الدوافع إليه لأسباب مختلفة يتحمل مسؤوليتها كما سنوضح.
فقد أعاق وشَوَّه خطاب التشدد والديني الشكلي والسطحي كل جهود التمكين للقيم الحضارية التي يحملها الخطاب المدني أو الثقافي أو الفلسفي أو الفني، معتبراً ومحتكراً أن هذا حقه الوحيد فلا يجوز لغيره أن يُسهِم في تطوير وعي الناس وسلوكهم بل أوجب على الناس أحياناً رَفْض كل ذلك، باعتباره نجساً حديثاً لا ينتمي لماضينا الذي وقف عنده الزمن. وهو في ذلك يدرك أنه لم يملأ فراغات الزمن وحاجات الناس ورغباتهم، فصار مغترباً عن واقعهم وبلا مسارب ومصادر قيم أخرى، فكانت العشوائية علامة سلوكية لا يضبطها إلا القانون رغم أن الأصولية ترفضه أيضاً، كما ترفض كل ما هو حديث، وأخطره تشكيكها ورفضها لمفهوم الدولة والوطنية والمواطنة، وما شابه في تكريس ثقافة اللاانتماء والعشوائية والسيولة وتهديد السلم الأهلي.
بينما حفظ لنا التراث شعراً وأدباً راقياً اكتظت به مجلدات «الأغاني» للأصفهاني وسير أمثال إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وشغب وغيرهم ومختارات أبي تمام وكتب الذخائر والمعلقات، إلا أن التشدد المعاصر شوه لا يزال يشوه كل إنتاج الفن والأدب ويحجب بينه وبين الناس بشكل غريب ليبقى وحده مصدراً للعشوائية والتكاره والعزلة في حياة الناس لا غير.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.