أميركا بين المواجهات الآنية ومخاوف الاحتراب المستقبلي

الأصولية والعنصرية والقومية

مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
TT

أميركا بين المواجهات الآنية ومخاوف الاحتراب المستقبلي

مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)

والثابت أنه أخيراً نَحَتْ العنصرية الأميركية طريقاً مغايراً تجاه غير البيض والمهاجرين، كما نمت باطراد الجماعاتُ اليمينية العنصرية، لا سيما ذات التوجهات النازية منها، وجاءت رئاسة دونالد ترمب لتفتح الباب واسعاً أمام طروحات «أميركا أولاً»، التي اعتبرها الكثيرون داخل أميركا وخارجها رجع صدى لـ«ألمانيا فوق الجميع». في ظل هذه الخلفية المبسطة هل يمكن للمرء أن يفهم أبعاد ما جرى في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا؟
صباح السبت الثاني عشر من أغسطس (آب) الحالي. المكان حديقة عامة في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا، حيث يقبع هناك نصب تذكاري للجنرال روبرت لي، أحد أبرز دعاة انفصال ولايات الجنوب عن اتحاد الولايات الأميركية، خلال الحرب الأهلية قبل نحو قرنين من الزمان.
هنا كان البعض من سكان المدينة قد قرروا إزالة نصب الجنرال انطلاقاً من أنه يُذكِّر بفترة تاريخية مؤلمة في التاريخ الأميركي؛ زمن عبودية السود، وقد امتلك هؤلاء قناعة بأن بقاء النصب على هذا الحال يوجه إهانة لأميركا الحرة، حيث الجميع متساوون أمام القانون، السود والبيض، المولود على الأرض والمتجنِّس بجنسيتها، لكن يبدو أن هذه حقائق مبتورة.
من ولايات بعيدة مثل أوهايو وميشيغان وويسكنن، جاءت جماعات عنصرية يمينية مدججة بالأسلحة المرخصة شرعيّاً، مطلقين شعاراتهم التقليدية الرافضة للسود واليهود، الأجانب والمهاجرين، ليحدث الصدام المتوقع، ثم فجأة تدهس سيارة أحدهم بعضاً من المتظاهرين، ويتحول حرم جامعة فيرجينيا التاريخية، التي أسسها أحد أكبر وأهم الرؤساء التاريخ الأميركي، توماس جيفرسون، إلى ساحة حرب ومصابين، في استعلان للتعصب العرقي والكراهية، وعودة جماعات اليمين المتطرف كما النازي الأميركي و«الكو كلوكس كلان»، و«الآرية البيضاء»، و«التحالف الوطني»، وغيرها الكثير.
وتستدعي تطورات المشهد الأصولي والعنصري الأميركي طرح علامة استفهام مثيرة: «هل هناك منهجية مؤسسية حتى الساعة داخل البلاد ضد السود؟»... في مؤلفه الشيق «العنصرية... مقدمة قصيرة» يحدثنا البروفسور علي راتانسي أستاذ علم الاجتماع الزائر في جامعة سيتي – لندن، عن التمييز العنصرى الصارخ داخل أميركا، وعن أشكال اللامساواة في الولايات المتحدة الأميركية؛ فعلى سبيل المثال، في عام 2001 كان الدخل المتوسط الحقيقي للأسر السوداء 62 في المائة فقط من دخل الأسر البيضاء، وهو رقم يهبط إلى 58 في المائة إذا تم استبعاد الإسبان.
وتبلغ نسبة الأطفال الأميركيين السود الذين ينشأون في الفقر، بحسب التعريف الرسمي للدولة، ثلاثة أضعاف النسبة بين الأطفال البيض، فيما ظلت معدلات البطالة بالنسبة إلى الرجال السود ثابتة بكل صلابة عند مستوى ضعفين على الأقل مقارنة بكل الرجال البيض لفترة طويلة. ويظل الأميركيون الأفارقة أكبر جماعة مفصولة سكنيّاً عن غيرها في الولايات المتحدة، ويرجع هذا جزئيّاً إلى رفض الأميركيين البيض العيش في مناطق يعيش فيها أكثر من 20 في المائة من السود. والاختلافات في معدلات وفاة الرضع مؤشر واضح على صحة السكان، وهي كبيرة بدرجة خطيرة، وتبلغ معدلات وفيات الرضع السود ضعف مثيلاتها بين البيض. ويكمل نحو 75 في المائة من الأميركيين الأفارقة الآن دبلومة المدرسة الثانوية، لكن 14 في المائة فقط يحصلون على درجة جامعية... هل كان ما حدث إذن في تشارلوتسفيل أمراً غريباً أو مثيراً؟
من أين جاء مثيرو الشغب في أميركا خلال الأحداث الأخيرة؟ لا يعرف الكثيرون أن هناك حزباً نازياً أميركياً تأسس عام 1958 في مدينة أرلينحيتون بولاية فيرجينيا عينها، بواسطة جورج روكويل، الذي خطَّط لحكم أميركا في سبعينات القرن الماضي، لكن اغتياله قطع عليه الطريق، إذ قتله منشقّ عن الحزب، وقد كانت أفكاره وبالاً على الأميركيين، ومستمَدَّة من عمق الطروحات الهتلرية النازية، فقد كانت خريطته الفكرية إذا وصل لرئاسة أميركا تبدأ بالقضاء على اليهود بطرق هتلر ذاتها، عطفاً على ترحيل الأميركيين من أصول أفريقية، وإعادة بناء الدستور بأصل نازي.
عطفاً على ذلك كانت وما زالت حركة «الكو كلوكس كلان» واحدة من أعنف تلك الحركات، وقد قامت كثيراً بحوادث عنف وإحراق منازل وأراضٍ، واختطاف للسود وللأجانب.
أما التحالف الوطني الذي تأسس سنة 1974 على يد بروفسور الفيزياء ويليام لوثر بيرس فيعد أخطر جناح نازي جديد، في أميركا، ويحفل بقتلة ومفجرين وسارقي بنوك... ويكفي الإشارة إلى أن تيموثي ماكفاي مفجِّر مبنى الاتحاد الفيدرالي في أوكلاهوما عام 1995، كان ينتمي إلى هذا الجناح النازي المتشدد.
غير أن المشهد لا يتوقف عند الجماعات النازية أو اليمينية العنصرية الأميركية على هذا النحو التقليدي؛ فبحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، فإن جيلاً جديداً من اليمين المتطرف بدأ يترسخ حضوره أخيراً في الولايات المتحدة... لماذا وكيف؟
الجواب ولا شك يأخذنا في طريقين؛ الأول مادي، والثاني ذهني، أي أن الأول متصل بالأوضاع الاقتصادية والمالية في البلاد، والثاني بالحالة السياسية في العقد الماضي والعامين الأخيرين تحديداً.
لتكن البداية مع الشق الأول المادي، ومدخلنا إليه هو أن المتظاهرين الذين ملأوا الدنيا شغباً في فيرجينيا، إنما جاءوا من ولايات ومناطق يطلق عليها حزام «الصدأ» للدلالة على تدهور الأوضاع الاقتصادية.
في هذا السياق يتذكر المرء ما قاله المؤرخ الأميركي الأشهر هوارد زين في مؤلفة العمدة «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة»، وتحديداً في الفصل الرابع والعشرين من الجزء الثاني، الذي يجيء تحت عنوان «الثورة القادمة لحراس النظام».
أما حراس النظام، فهم جماهير الشعب الأميركي التي بدأت تشعر بحالة من السخط والغضب على الطغمة الأوليجاركية في البلاد، التي تتحكم في الثروات في غير عدالة.
يشير زين إلى أن نسبة واحد في المائة فقط من الشعب يملكون ثلث الثروة، وباقي الثروة موزع على التسعة والتسعين في المائة الباقية بطريقة تجعلهم في صراع دائم، مثل الصراع بين أصحاب الأملاك الصغيرة ضد من لا يملكون، والسود ضد البيض، والسكان الأصليين ضد الوافدين، والمثقفين والمهاجرين ضد الأمير. والشاهد أن هوارد زين يحذر وينذر الأميركيين، لا سيما القيادات الرسمية، من أن ما جرى في العشرينات عندما قُدِّر لجماعة «الكو كلوكس كلان» العنصرية أن تستقطب ملايين الأعضاء، يمكن أن يتكرر ما دام بقي ملايين الأميركيين يتطلعون لحلول للمشكلات الخطيرة التي تضرب أميركا اقتصادياً واجتماعياً أسرياً وأخلاقياً، تلك التي تجعل منهم عاجزين، وحيدين، محبطين، ما أدى إلى عزلتهم عن بقية الناس، وعزلتهم عن العالم وعن عملهم وعن أنفسهم، فراحوا يعتنقون مذاهب يمينية متطرفة.
يبقى الطريق التحليلي والتفسيري الثاني لتصاعد المد القومي الأميركي عند بعض المحللين السياسيين داخل أميركا وخارجها، مرتبطاً ارتباطاً كبيراً بفوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالرئاسة، وما صاحب حملته من شعارات كانت واضحة وكافية لإطلاق وحش العنصرية من القمقم.
هنا يمكن الإشارة إلى أن تلك الصحوة الأصولية قد بدأ ازدهارها من جديد خلال سنوات حكم باراك أوباما، وهو ما أشارت إليه صحيفة «لاكروا» الفرنسية في تقرير أخير لها، معتبرة أن الأمر كان رد فعل طبيعياً رافضاً لأن يصل رئيس من أصول أفريقية لمقعد الرئاسة، وقد جاء ترمب ليوقظ أشباح أميركا العنصرية.
جعل ترمب تركيزه على الداخل الأميركي خلال حملته الانتخابية الرئاسية، واستعار كثيراً من الصور التمثيلية والتشبيهية التي لعب من خلالها الحكم النازي على مشاعر الألمان، وقد نجح ترمب بالفعل في الحصول على أصوات اليمين المتطرف، الذي عزف بدوره على التدهور الديموغرافي للرجل الأبيض، وللفرص الاقتصادية الضائعة التي يتمتع بها اليوم السود واللاتين والمهاجرون، ولا ينكر أحد أن ترمب قد روج بالفعل لطروحات اليمين البديل «الت رايت» المناهضة للهجرة، وكارثية هذا البديل هي أنه استطاع تقديم ثقافة بديلة في شكلها الظاهر مغاير للجماعات العنصرية التقليدية، لكنها في الباطن قد تكون أشد خطراً وهولاً، ما دعا البروفسور جورج مايكل الأستاذ المتخصص في حركات اليمين المتطرف في جامعة «وستفيلد ستايت» لأن يجزم بأن هذه الحركة مرشحة للامتداد».
لا يمكن للمتابع للشأن الأميركي أن يوجه اتهامات رسمية أو مباشرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب بوصفه «راعي العنصرية» الأميركية في طبعاتها الجديدة، لكن ضمناً يمكن للمرء بأن يقطع بأن السياقات الأولى لحكمه والطغمة التي تحيط به تدفع دفعاً مباشراً الولايات المتحدة في طريق العنصرية والتزمت، قبل أن ينعطف المسار نحو العنف ولاحقاً إلى الاحتراب الطائفي والعرقي، وصولاً إلى ما يخشاه البعض ويتوقعه البعض الآخر، أي الحرب الأهلية بين الأميركيين. خذ إليك بعضاً من الأسماء التي أحاطت بترمب خلال حملته الانتخابية وبعضها سار معه ولازمه حتى الساعة.
بداية مع ديفيد ديوك القومي المتطرف، الداعي لتفوق الجنس الأبيض ورئيس حركة «الكو كلوكس كلان» السابق، الذي أعلن دعمه الصريح لدونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الماضية، وقد قال ذات مرة: «أشعر بفرح غامر عندما أرى أن ترمب يتبنى معظم القضايا التي دافعت عنها... شعاري سيظل أميركا أولاً».
ولا يزال ديوك بمثابة المرشد الروحي لتلك الجماعة العنصرية، التي يقول مكتب المباحث الاتحادية أن عددها يتزايد بشكل كبير، لا سيما أنهم يعزفون على أوتار الوظائف والفرص التشغيلية، حيث كثير من البيض لا يجدون فرص عمل في الوقت الذي يعتبرون فيه السود والمهاجرين يقتنصون تلك الفرص اقتناصاً.
الشخصية الأخرى الأقرب مباشرة إلى ترمب، ريتشارد سبنسر برتراند، رئيس معهد الأمن القومي الأميركي، الذي عمل طويلاً في الخفاء لتعزيز الانتماء إلى الهوية البيضاء وإنشاء دولة عرقية من شأنها أن تبعد الأقليات. وفي قراءة موسعة عبر موقع «تقرير واشنطن» نجد ربطاً واضحاً بين سبنسر البالغ من العمر 38 عاماً، وحركة اليمين البديل التي تعمل على جمع القوميين البيض من شمال البلاد إلى جنوبها، وفي احتفالية بفوز ترمب، وبحسب ما نقلته صحيفة «واشنطن بوست» قال سبنسر: «دعونا نحتفل مثل عام 1939، في إسقاط لا تخطئه أذهان الحضور عن العام الذي تم فيه اختيار أدولف هتلر مستشاراً لألمانيا، وشرع فيه النازيون في خلق دولتهم العرقية.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».