أميركا بين المواجهات الآنية ومخاوف الاحتراب المستقبلي

الأصولية والعنصرية والقومية

مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
TT

أميركا بين المواجهات الآنية ومخاوف الاحتراب المستقبلي

مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)
مظاهرات اليمين المتطرف ذات التوجهات النازية في الولايات المتحدة وتأثيرها على ما جرى في مدينة شارلوتشفيل بولاية فيرجينيا (أ.ف.ب)

والثابت أنه أخيراً نَحَتْ العنصرية الأميركية طريقاً مغايراً تجاه غير البيض والمهاجرين، كما نمت باطراد الجماعاتُ اليمينية العنصرية، لا سيما ذات التوجهات النازية منها، وجاءت رئاسة دونالد ترمب لتفتح الباب واسعاً أمام طروحات «أميركا أولاً»، التي اعتبرها الكثيرون داخل أميركا وخارجها رجع صدى لـ«ألمانيا فوق الجميع». في ظل هذه الخلفية المبسطة هل يمكن للمرء أن يفهم أبعاد ما جرى في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا؟
صباح السبت الثاني عشر من أغسطس (آب) الحالي. المكان حديقة عامة في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا، حيث يقبع هناك نصب تذكاري للجنرال روبرت لي، أحد أبرز دعاة انفصال ولايات الجنوب عن اتحاد الولايات الأميركية، خلال الحرب الأهلية قبل نحو قرنين من الزمان.
هنا كان البعض من سكان المدينة قد قرروا إزالة نصب الجنرال انطلاقاً من أنه يُذكِّر بفترة تاريخية مؤلمة في التاريخ الأميركي؛ زمن عبودية السود، وقد امتلك هؤلاء قناعة بأن بقاء النصب على هذا الحال يوجه إهانة لأميركا الحرة، حيث الجميع متساوون أمام القانون، السود والبيض، المولود على الأرض والمتجنِّس بجنسيتها، لكن يبدو أن هذه حقائق مبتورة.
من ولايات بعيدة مثل أوهايو وميشيغان وويسكنن، جاءت جماعات عنصرية يمينية مدججة بالأسلحة المرخصة شرعيّاً، مطلقين شعاراتهم التقليدية الرافضة للسود واليهود، الأجانب والمهاجرين، ليحدث الصدام المتوقع، ثم فجأة تدهس سيارة أحدهم بعضاً من المتظاهرين، ويتحول حرم جامعة فيرجينيا التاريخية، التي أسسها أحد أكبر وأهم الرؤساء التاريخ الأميركي، توماس جيفرسون، إلى ساحة حرب ومصابين، في استعلان للتعصب العرقي والكراهية، وعودة جماعات اليمين المتطرف كما النازي الأميركي و«الكو كلوكس كلان»، و«الآرية البيضاء»، و«التحالف الوطني»، وغيرها الكثير.
وتستدعي تطورات المشهد الأصولي والعنصري الأميركي طرح علامة استفهام مثيرة: «هل هناك منهجية مؤسسية حتى الساعة داخل البلاد ضد السود؟»... في مؤلفه الشيق «العنصرية... مقدمة قصيرة» يحدثنا البروفسور علي راتانسي أستاذ علم الاجتماع الزائر في جامعة سيتي – لندن، عن التمييز العنصرى الصارخ داخل أميركا، وعن أشكال اللامساواة في الولايات المتحدة الأميركية؛ فعلى سبيل المثال، في عام 2001 كان الدخل المتوسط الحقيقي للأسر السوداء 62 في المائة فقط من دخل الأسر البيضاء، وهو رقم يهبط إلى 58 في المائة إذا تم استبعاد الإسبان.
وتبلغ نسبة الأطفال الأميركيين السود الذين ينشأون في الفقر، بحسب التعريف الرسمي للدولة، ثلاثة أضعاف النسبة بين الأطفال البيض، فيما ظلت معدلات البطالة بالنسبة إلى الرجال السود ثابتة بكل صلابة عند مستوى ضعفين على الأقل مقارنة بكل الرجال البيض لفترة طويلة. ويظل الأميركيون الأفارقة أكبر جماعة مفصولة سكنيّاً عن غيرها في الولايات المتحدة، ويرجع هذا جزئيّاً إلى رفض الأميركيين البيض العيش في مناطق يعيش فيها أكثر من 20 في المائة من السود. والاختلافات في معدلات وفاة الرضع مؤشر واضح على صحة السكان، وهي كبيرة بدرجة خطيرة، وتبلغ معدلات وفيات الرضع السود ضعف مثيلاتها بين البيض. ويكمل نحو 75 في المائة من الأميركيين الأفارقة الآن دبلومة المدرسة الثانوية، لكن 14 في المائة فقط يحصلون على درجة جامعية... هل كان ما حدث إذن في تشارلوتسفيل أمراً غريباً أو مثيراً؟
من أين جاء مثيرو الشغب في أميركا خلال الأحداث الأخيرة؟ لا يعرف الكثيرون أن هناك حزباً نازياً أميركياً تأسس عام 1958 في مدينة أرلينحيتون بولاية فيرجينيا عينها، بواسطة جورج روكويل، الذي خطَّط لحكم أميركا في سبعينات القرن الماضي، لكن اغتياله قطع عليه الطريق، إذ قتله منشقّ عن الحزب، وقد كانت أفكاره وبالاً على الأميركيين، ومستمَدَّة من عمق الطروحات الهتلرية النازية، فقد كانت خريطته الفكرية إذا وصل لرئاسة أميركا تبدأ بالقضاء على اليهود بطرق هتلر ذاتها، عطفاً على ترحيل الأميركيين من أصول أفريقية، وإعادة بناء الدستور بأصل نازي.
عطفاً على ذلك كانت وما زالت حركة «الكو كلوكس كلان» واحدة من أعنف تلك الحركات، وقد قامت كثيراً بحوادث عنف وإحراق منازل وأراضٍ، واختطاف للسود وللأجانب.
أما التحالف الوطني الذي تأسس سنة 1974 على يد بروفسور الفيزياء ويليام لوثر بيرس فيعد أخطر جناح نازي جديد، في أميركا، ويحفل بقتلة ومفجرين وسارقي بنوك... ويكفي الإشارة إلى أن تيموثي ماكفاي مفجِّر مبنى الاتحاد الفيدرالي في أوكلاهوما عام 1995، كان ينتمي إلى هذا الجناح النازي المتشدد.
غير أن المشهد لا يتوقف عند الجماعات النازية أو اليمينية العنصرية الأميركية على هذا النحو التقليدي؛ فبحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، فإن جيلاً جديداً من اليمين المتطرف بدأ يترسخ حضوره أخيراً في الولايات المتحدة... لماذا وكيف؟
الجواب ولا شك يأخذنا في طريقين؛ الأول مادي، والثاني ذهني، أي أن الأول متصل بالأوضاع الاقتصادية والمالية في البلاد، والثاني بالحالة السياسية في العقد الماضي والعامين الأخيرين تحديداً.
لتكن البداية مع الشق الأول المادي، ومدخلنا إليه هو أن المتظاهرين الذين ملأوا الدنيا شغباً في فيرجينيا، إنما جاءوا من ولايات ومناطق يطلق عليها حزام «الصدأ» للدلالة على تدهور الأوضاع الاقتصادية.
في هذا السياق يتذكر المرء ما قاله المؤرخ الأميركي الأشهر هوارد زين في مؤلفة العمدة «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة»، وتحديداً في الفصل الرابع والعشرين من الجزء الثاني، الذي يجيء تحت عنوان «الثورة القادمة لحراس النظام».
أما حراس النظام، فهم جماهير الشعب الأميركي التي بدأت تشعر بحالة من السخط والغضب على الطغمة الأوليجاركية في البلاد، التي تتحكم في الثروات في غير عدالة.
يشير زين إلى أن نسبة واحد في المائة فقط من الشعب يملكون ثلث الثروة، وباقي الثروة موزع على التسعة والتسعين في المائة الباقية بطريقة تجعلهم في صراع دائم، مثل الصراع بين أصحاب الأملاك الصغيرة ضد من لا يملكون، والسود ضد البيض، والسكان الأصليين ضد الوافدين، والمثقفين والمهاجرين ضد الأمير. والشاهد أن هوارد زين يحذر وينذر الأميركيين، لا سيما القيادات الرسمية، من أن ما جرى في العشرينات عندما قُدِّر لجماعة «الكو كلوكس كلان» العنصرية أن تستقطب ملايين الأعضاء، يمكن أن يتكرر ما دام بقي ملايين الأميركيين يتطلعون لحلول للمشكلات الخطيرة التي تضرب أميركا اقتصادياً واجتماعياً أسرياً وأخلاقياً، تلك التي تجعل منهم عاجزين، وحيدين، محبطين، ما أدى إلى عزلتهم عن بقية الناس، وعزلتهم عن العالم وعن عملهم وعن أنفسهم، فراحوا يعتنقون مذاهب يمينية متطرفة.
يبقى الطريق التحليلي والتفسيري الثاني لتصاعد المد القومي الأميركي عند بعض المحللين السياسيين داخل أميركا وخارجها، مرتبطاً ارتباطاً كبيراً بفوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالرئاسة، وما صاحب حملته من شعارات كانت واضحة وكافية لإطلاق وحش العنصرية من القمقم.
هنا يمكن الإشارة إلى أن تلك الصحوة الأصولية قد بدأ ازدهارها من جديد خلال سنوات حكم باراك أوباما، وهو ما أشارت إليه صحيفة «لاكروا» الفرنسية في تقرير أخير لها، معتبرة أن الأمر كان رد فعل طبيعياً رافضاً لأن يصل رئيس من أصول أفريقية لمقعد الرئاسة، وقد جاء ترمب ليوقظ أشباح أميركا العنصرية.
جعل ترمب تركيزه على الداخل الأميركي خلال حملته الانتخابية الرئاسية، واستعار كثيراً من الصور التمثيلية والتشبيهية التي لعب من خلالها الحكم النازي على مشاعر الألمان، وقد نجح ترمب بالفعل في الحصول على أصوات اليمين المتطرف، الذي عزف بدوره على التدهور الديموغرافي للرجل الأبيض، وللفرص الاقتصادية الضائعة التي يتمتع بها اليوم السود واللاتين والمهاجرون، ولا ينكر أحد أن ترمب قد روج بالفعل لطروحات اليمين البديل «الت رايت» المناهضة للهجرة، وكارثية هذا البديل هي أنه استطاع تقديم ثقافة بديلة في شكلها الظاهر مغاير للجماعات العنصرية التقليدية، لكنها في الباطن قد تكون أشد خطراً وهولاً، ما دعا البروفسور جورج مايكل الأستاذ المتخصص في حركات اليمين المتطرف في جامعة «وستفيلد ستايت» لأن يجزم بأن هذه الحركة مرشحة للامتداد».
لا يمكن للمتابع للشأن الأميركي أن يوجه اتهامات رسمية أو مباشرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب بوصفه «راعي العنصرية» الأميركية في طبعاتها الجديدة، لكن ضمناً يمكن للمرء بأن يقطع بأن السياقات الأولى لحكمه والطغمة التي تحيط به تدفع دفعاً مباشراً الولايات المتحدة في طريق العنصرية والتزمت، قبل أن ينعطف المسار نحو العنف ولاحقاً إلى الاحتراب الطائفي والعرقي، وصولاً إلى ما يخشاه البعض ويتوقعه البعض الآخر، أي الحرب الأهلية بين الأميركيين. خذ إليك بعضاً من الأسماء التي أحاطت بترمب خلال حملته الانتخابية وبعضها سار معه ولازمه حتى الساعة.
بداية مع ديفيد ديوك القومي المتطرف، الداعي لتفوق الجنس الأبيض ورئيس حركة «الكو كلوكس كلان» السابق، الذي أعلن دعمه الصريح لدونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الماضية، وقد قال ذات مرة: «أشعر بفرح غامر عندما أرى أن ترمب يتبنى معظم القضايا التي دافعت عنها... شعاري سيظل أميركا أولاً».
ولا يزال ديوك بمثابة المرشد الروحي لتلك الجماعة العنصرية، التي يقول مكتب المباحث الاتحادية أن عددها يتزايد بشكل كبير، لا سيما أنهم يعزفون على أوتار الوظائف والفرص التشغيلية، حيث كثير من البيض لا يجدون فرص عمل في الوقت الذي يعتبرون فيه السود والمهاجرين يقتنصون تلك الفرص اقتناصاً.
الشخصية الأخرى الأقرب مباشرة إلى ترمب، ريتشارد سبنسر برتراند، رئيس معهد الأمن القومي الأميركي، الذي عمل طويلاً في الخفاء لتعزيز الانتماء إلى الهوية البيضاء وإنشاء دولة عرقية من شأنها أن تبعد الأقليات. وفي قراءة موسعة عبر موقع «تقرير واشنطن» نجد ربطاً واضحاً بين سبنسر البالغ من العمر 38 عاماً، وحركة اليمين البديل التي تعمل على جمع القوميين البيض من شمال البلاد إلى جنوبها، وفي احتفالية بفوز ترمب، وبحسب ما نقلته صحيفة «واشنطن بوست» قال سبنسر: «دعونا نحتفل مثل عام 1939، في إسقاط لا تخطئه أذهان الحضور عن العام الذي تم فيه اختيار أدولف هتلر مستشاراً لألمانيا، وشرع فيه النازيون في خلق دولتهم العرقية.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».