هاني نسيرة
تاريخيا، يمكن القول إن المسألة الطائفية في العالمين العربي والإسلامي خفتت وسكنت منذ بدايات العصر العباسي الأول وطوال العصر العباسي الثاني، بعد استقرار كلاميات هذه الفرق وأدبياتها، وتشكل هوياتها بشكل شبه كامل منذ القرن الرابع الهجري. ومنذ ذلك التاريخ تبلورت مؤسساتها الدينية، مع اختلاف في الدرجة والتاريخ، وتحددت أطرها الجغرافية والسياسية والاجتماعية، وظل التعايش الاجتماعي والتسامح الطائفي هو القانون السائد في التاريخ العربي والإسلامي.
تكشف المراجعة والاستقراء الدقيق لنصوص وأدبيات «داعش»، أن التنظيم الإرهابي المتطرف لم يتخذ قرار إعلان ضم الشام إلى دولته ثم إعلانه «الخلافة» خبط عشواء، أو جاء طارئًا بعد الخلاف مع تنظيم القاعدة أو فرعه «جبهة النصرة»، كما راج لدى كثير من المراقبين والمحللين، بل جاء محطة في استراتيجية مرحلية وضعها ودشنها التنظيم قبل ذلك بسنوات.
يبقى التفسير الأشهر تاريخيًا للصعود والصحوة الأصولية، أنها أتت رد فعل على هزيمة أو نكسة 1967 وما ترافق به من فشل دولة ما بعد الاستقلال العربي، في تحقيق أي من وعودها الآيديولوجية بالحرية أو التحرر والتحرير - للأرض المحتلة - أو الوحدة. وأن هذه الأصولية طرحت نفسها من جديد - بعد فترة أفول - بديلا للآيديولوجيا القومية، الناصرية والبعثية، كطريق واحد للخلاص والحل وتحقيق نهضة عربية ثانية. إلا أن هذا التفسير يبقى قديمًا نسبيًا، قياسًا لتحولات الظاهرة المتشددة والأصولية خلال العقود الأربعة التالية، من ظهور ما يسميه البعض «الجهاديات القُطرية» ثم «الجهادية المعولمة»، ممثلة في تنظيمي «داعش» و«القاعدة».
تمثل الصراعات النظرية والسجالية لمن يصفون أنفسهم بـ«الإسلاميين» و«الجهاديين» أكثر من 70 في المائة من مجموع مؤلفاتهم ومضامين وغايات خطاباتهم تقريبًا، وتسير معهم، منذ وثائقهم التأسيسية حتى سجالاتهم المتتالية والمستمرة. ونلمحها صراعات نظرية دائمة وعملية وقتالية أحيانا، قد يبدأ من التخطئة النظرية والاتهام في العقيدة والذمة، تخوينًا وتكفيرًا، حتى التصفية العملية والاغتيال المادي، فضلا عن المعنوي، وتنذر حال انتصار واحدها باشتعال الصراع بين جميعها، حيث سنة الاختلاف ومفهومه واتساعه ظل واستمر هشًا في إطار الفرقة الناجية التي تنفي آخريها.
لا يحتاج العنف الاجتماعي والديني غير العاطفة أو الغضب، ولا يحتاج الغضب إلا العاطفة والانفعال، أما الفعل والحوار الحضاري الواعي بعصره وتحدياته، وتراثه وأزماته، فيحتاج التأمل والتدبير والتأسيس العميق للفعل تنظيما وتنظيرا. من هنا يمكننا أن نرصد نشأة التنظيمات المتطرفة - تنظيمات الغضب الإسلامي - كما يحلو للبعض أن يسميها كحالة من هشاشة التأسيس الفكري والفقهي منذ بدايتها وحتى قمتها وصعودها الحالي، والإصرار على اللاتاريخية بل الانقلاب على التاريخ وعدم احترام قوانينه، وعلى تجذير القضايا الواقعية والوضعية دينا وإيمانا لا يقبل التدرج، ويرفض التطور في آن، بل كانت - وما زالت - مقصلة وحائط صد قويا للإصلاح
بديهية مثيرة للسؤال دائما كون «إيران - الداخل» ظلت، وما زالت، الاستثناء الأبرز من عمليات «القاعدة»، ثم تنظيم داعش منذ نشأة الأخير عام 1998 وحتى الآن، بينما تعولمت عملياتهم في كل أنحاء العالم، شرقه وغربه على السواء. لم يذكر بل يدعُ أسامة بن لادن، زعيم «القاعدة» التاريخي، لعداء إيران وهو من كفّر كل الحكومات العربية والإسلامية، وأطال وصفها بالمرتدة والممتنعة، إذ كانت المملكة العربية السعودية تمثل عدوه الأول، وظل النظام المصري عدو الظواهري الأول، رغم إلحاحه المستمر ودعوته للسلام مع إيران.
شأن كل الحركات الجبهوية، أو المذهبية المتشددة، تعاني الحركة الحوثية من فقر نظري وجفاف مرجعي، رغم نشأتها الباكرة التي تزيد على خمس وعشرين سنة، أي منذ تأسس تنظيم «الشباب المؤمن» على الشعار الثوري الإيراني «الموت لأميركا والموت لإسرائيل»، وذلك بإيعاز من الشيخ الوالد الراحل بدر الدين بن أمير الدين الحوثي عام 1990.
وقف اللغويون بمفهوم الزمن عند حدود الإحساس بالوقت، فالزمن هو طول الوقت - خاصة - أو قصره، ومنه القول الشائع مرض مزمن! لكن الزمن، منذ أرسطو وحتى ظهور ما يسمى السنوات الضوئية، هو حركة واتصال، يقيس المنجز البشري كما يقيس مسافات الكون.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
