لم تكن جدة يوماً بحاجةٍ إلى مناسبة لتبوح بتاريخها السينمائي، فمنذ خمسينات القرن الماضي، حين كانت العروض تُقام على شاشة من قماش داخل أحواش مفتوحة، والمدينة تحتفظ بعلاقة متينة مع الفن السابع. واليوم، وهي تستعد لانطلاق الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي بين 4 و12 ديسمبر (كانون الأول)، تستعيد جدة دورها بوصفها فضاءً حاضناً للضوء، وموقعاً يعيد رسم ملامح المشهد السينمائي في المملكة.
في هذه المدينة، التي تعانق التاريخ وتضيء بالفنون، تتجدد الحكاية السينمائية لتكتب فصلاً جديداً يمدّ جذوره عميقاً في الذاكرة. فمن «سينما الحوش» التي كانت تُقام على قماش أبيض مشدود في ساحات مفتوحة، إلى السجادة الحمراء التي تستقبل نجوم العالم اليوم، تمتد رحلة 70 عاماً من حضور الصورة وتحوّلاتها.

جدة... بدأت السينما من ساحاتها المفتوحة
يصف فيصل بالطيور، الرئيس التنفيذي لمؤسسة البحر الأحمر السينمائي، العلاقة بين المهرجان والمدينة، بأنها علاقة طبيعية لمدينة عرفت الفن منذ زمن بعيد، ويقول: «المهرجانات تستمد روحها من المدن التي تُقام فيها، وجدة مدينة معروفة بثقافاتها وحضاراتها، لكن القليل يعرف عمق ارتباطها بالسينما».
ويشير إلى أن جدة منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، كانت تحتضن أكثر من 20 سينما، كثير منها في قلب جدة التاريخية المسجّلة ضمن مواقع اليونيسكو، ما يجعلها إحدى أقدم المدن السعودية في علاقتها مع عروض الأفلام.

هذه الصورة يكمّلها المخرج عبد الله سحرتي، مؤسس «سينما البلد»، الذي يوضح أن البدايات كانت بأربع دور عرض فقط، قبل أن تتوسع إلى 8 أحواش سينمائية، ويقول: «كان الجمهور من سكان الأحياء ومحبي التجربة الجديدة، المنبهرين بفيلم متحرك يُعرض على قماش أبيض وجهاز مضيء يثير الخيال».
بوابة الثقافات وصناعة الحكايات
يرى سحرتي أن جدة لم تدخل عالم السينما صدفة؛ فهي مدينة استقبلت الحجاج لسنوات طويلة، ما جعلها بوابة واسعة لثقافات العالم. هذا الانفتاح المبكر شكّل وعياً فنياً مختلفاً لدى أهل المدينة، وأتاح لهم الاحتكاك بتجارب سينمائية جديدة وصلت عبر الزوّار والحجاج.

واعتبر «سينما الحوش» كانت نواة لصناعة سينمائية مستقلة، تقوم على القرب من الجمهور والاستماع إلى ذائقته، بعيداً عن النمط التجاري السائد. ومع تطور الزمن، تغيرت أدوات العرض وبقي الجوهر، يقول سحرتي: «الأفلام القديمة كانت أجمل في نصوصها وأدائها، وهذا ما يفتقده الجمهور في بعض الأعمال التجارية اليوم».
لكن جدة لا تستحضر الماضي كما هو، بل تعيد صياغته بروح حديثة. ففي «سينما البلد» اليوم تلتقي ذاكرة الأحواش مع التقنية المتقدمة «مقاعد واسعة تشبه كراسي المنازل، مساحة مفتوحة يمرّ فيها الهواء البارد، ونظام صوتي يتحدى اتساع المكان»، يضيف سحرتي: «نختبر كل فيلم يومياً صوتاً وصورة قبل عرضه، لضمان تجربة تقنية كاملة».

حين تصنع المدينة هوية الفنان
في قلب هذا المشهد، يقدّم الممثل خالد يسلم قراءة شخصية لعلاقته بالسينما وبمدينة جدة، قائلاً: «جدة كانت الانطباع الأول لتشكيل ذائقتي وهويتي الفنية، وهذا ما عكسته في فيلم (رولِم). الذي يدور حول الهوية والفن، وكانت المدينة حاضرة في وجدان البطل».
ويرى يسلم أن الصناعة اليوم تمرّ بمرحلة تجريبية بين الاستقلالية والسينما التجارية، مضيفاً: «المهرجانات فرصة لاكتشاف زوايا جديدة في الصناعة. والمشاركة فيها مفيدة دائماً، لأنها تفتح سرديات محلية أمام جمهور عالمي».

أما عن حضور النجوم العالميين، فيرى أنه «يسلط الضوء على المهرجان»، لكنه كممثل محلي يستفيد أكثر من الاحتكاك بنجوم الصناعة من كتّاب ومخرجين وفنيين «إلا إذا أتيحت فرصة مشاركة أحدهم الشاشة... وهذا لم يحدث بعد».
ويشدد على ذائقة الجمهور السعودي قائلاً: «المشاهد السعودي اليوم يمتلك مقاييس عالمية. ووجود صالات متعددة وتجارب متطورة مثل (الآيماكس) يعمّق تجربته، لكن شركات التوزيع والإعلام تبقى مسؤولة عن دعم الصناعة المحلية».

المهرجان... منصة تعيد رسم المستقبل
على مدى 5 أعوام، نجح مهرجان البحر الأحمر - كما يصفه بالطيور - في خلق تحول عالمي، ودعم صناع السينما في المملكة والعالم العربي وآسيا وأفريقيا، ونقل أصواتهم إلى مدى أبعد، وأضاف: «نوازن بين نخبة الصناعة والجمهور العام. هذا العام خصصنا مساحة للعائلات والأطفال وصناع الأفلام، لخلق جيل جديد من محبي السينما وصنّاع المستقبل».
من جدة... يبدأ الفيلم
هكذا تستعيد جدة دورها القديم وتتقدمه برؤية جديدة؛ من أحواش كانت تُضاء بقماش مشدود على جدار، إلى مهرجان دولي يضيء سجادة حمراء على شاطئ البحر الأحمر. مدينة تصنع الضوء، وتروي الحكايات، وتمنح الصورة حياة تبدأ من هنا... وتمتد إلى العالم.






