على شاشة واحدة يجتمع أكثر من 20 مليون مشاهد وناقد ومحب للسينما من مختلف لغات العالم... يكتبون، ويقيّمون، ويتجادلون، بشأن الأفلام كما لو كانت جزءاً من حياتهم اليومية، وذلك على منصة «ليتربوكسد (Letterboxd)»، التي أصبحت اليوم ذاكرة السينما الرقمية، والتي تُسجل حتى الآن 582 فيلماً من إنتاج السعودية، بشكل كامل أو جزئي، وهو رقم كبير لبلد لم يفتح أبوابه للسينما إلا قبل 7 سنوات فقط.
ومنصة «ليتربوكسد»، التي انطلقت عام 2011 من نيوزيلندا، بدأت مساحةً بسيطة لتسجيل الأفلام ومشاركة القوائم بين الأصدقاء، لكنها سرعان ما تجاوزت وظيفتها التقنية، لتتحول إلى أرشيف عالمي حيّ، يوثّق العلاقة اليومية بين الإنسان والسينما، وفيها تُسجَّل كل مشاهدة، وكل انطباع، وكل شعور بعد النهاية؛ لتكوّن خريطة تفاعلية ضخمة تترجم ذائقة العالم السينمائية لحظة بلحظة.
كما لم تعد المنصة مجرد سجلّ للمشاهدات، بل أصبحت مرجعاً يُستند إليه في تحليل اتجاهات الجمهور وتطوّر الذوق العام، فمن خلال ملايين المراجعات القصيرة و«النجوم» التي تُمنح للأفلام، يمكن تتبّع كيف تغيّر الوعي الجمالي من جيلٍ إلى آخر، وبينما كان النقد السينمائي حكراً على الصفحات الثقافية في الماضي، فقد أصبح اليوم صوت الجمهور هو الذي يصنع سمعة الفيلم ويؤثر على مصيره التجاري والفني.
جيل سينمائي رقمي
ظهر من قلب هذه المنصة ما يُعرف بـ«جيل ليتربوكسد»، وهم الملايين من المستخدمين الشباب الذين يتعاملون مع السينما بوصفها جزءاً من هويتهم اليومية... يكتبون بصدقٍ وحرارة، ويمزجون بين الحس الساخر والفهم البصري العميق، ليخلقوا شكلاً جديداً من النقد الرقمي، حيث لا ينتظرون المقالات الطويلة ولا التحليلات الأكاديمية؛ يكفيهم سطر واحد مؤثر، أو استعارة لاذعة، أو اقتباس ذكي، ليعبّروا عن رأيهم ويُشعلوا نقاشاً واسعاً.
وهذا الجيل هو الذي منح المنصة قوتها الحقيقية، وجعلها المرجع الأول للمتابعة السينمائية عالمياً، فحين يرتفع تقييم فيلم على «ليتربوكسد»، ترتفع شعبيته فوراً على وسائل التواصل، وحين تنخفض «نجومه»، تتراجع التوصيات والمشاهدات... وبهذه البساطة، صار مؤشر الجمهور الرقمي أهم من الإعلانات والعروض الخاصة.
السعودية في مشهد عالمي
داخل هذا الأرشيف الرقمي الهائل، يظهر اسم السعودية في تصنيف «Produced by Saudi Arabia» مرتبطاً بأكثر من 582 فيلماً، وهو رقم يعكس توسع الدور الإنتاجي للمملكة في المشهد السينمائي العالمي. ويشمل التصنيف الأفلام التي أنتجتها السعودية بالكامل، أو شاركت في تمويلها، أو تصويرها، أو تقديم الدعم اللوجيستي لها، سواء أكان عبر مؤسسات الدولة أم الشركات الخاصة.
وتتوزع هذه الأعمال بين محلية وعربية وعالمية؛ فإلى جانب أفلام سعودية خالصة مثل «وجدة» و«مندوب الليل» و«شمس المعارف» و«ناقة»، هناك أيضاً أفلام دولية مثل «Jeanne du Barry» الفرنسي، و«Four Daughters» التونسي، و«The Last Queen» الجزائري، وجميعها حظيت بدعم سعودي عبر «صندوق البحر الأحمر السينمائي الدولي» أو «هيئة الأفلام» أو جهات إنتاجية محلية. وهذا التنوع في الحضور يعبّر عن تحوّل جوهري في رؤية السعودية للسينما؛ من أنها منتج محلي إلى شريكٍ عالمي يسهم في سرد القصص الإنسانية من مختلف الثقافات.
وعلى مستوى الحضور المحلي، تبقى هيفاء المنصور «العلامة الأبرز» في الذاكرة السينمائية السعودية، ففيلمها «وجدة» (2012) لا يزال يحتفظ بتقييم مرتفع وتفاعل مستمر على «ليتربوكسد» بعد أكثر من عقد على إنتاجه، بوصفه أول فيلم سعودي طويل يشارك في المهرجانات الدولية ويُعرض عالمياً، حيث حاز نحو 10 آلاف إعجاب، ليكون أعلى فيلم سعودي على المنصة.
ملامح قوة جديدة
الأفلام المرتبطة بالسعودية على «ليتربوكسد» تتوزع على نطاقٍ واسع من الأنواع: دراما، ورعب، وخيال علمي، ورسوم متحركة، وأفلام وثائقية وفنية. وهذا التنوع ليس مجرد تنويع تجاري، بل نتيجة استراتيجية ثقافية تهدف إلى بناء صناعة مستدامة تتحدث بلغات متعددة وتستوعب شرائح مختلفة من الجمهور، بما يعكس انفتاح المشهد المحلي، حيث تتقاطع الطاقات الشابة مع الخبرات الدولية، ويُعاد تعريف معنى «الفيلم السعودي» ليشمل التمويل، والموقع، والرؤية الفنية، والتمثيل الثقافي معاً، وليس فقط الجنسية أو اللغة.
ووجود هذا الكم من الأفلام على منصة «ليتربوكسد» يمنح السعودية نوعاً جديداً من الحضور الثقافي. فهي لا تكتفي اليوم بعرض أفلامها في المهرجانات أو في الصالات، بل تملك موقعاً دائماً في الذاكرة الرقمية للجمهور العالمي، وكل تقييم يكتبه مستخدم في أميركا أو كوريا أو فرنسا عن فيلم سعودي يصبح وثيقة رمزية في سجل إدراك العالم صورتها. ومن خلال هذه المنصة، يمكن قياس مدى تفاعل الجمهور مع القصص السعودية، وكيف تتغيّر انطباعاتهم مع مرور الوقت، وهي بيانات لا تملكها المهرجانات ولا شركات التوزيع.
سعوديون على «ليتربوكسد»
ومن الملاحظ أن جيلاً سعودياً شاباً بدأ يشارك بفاعلية في النقاشات على المنصة؛ يكتبون مراجعاتهم بالعربية والإنجليزية، ويناقشون إخراج الأفلام المحلية، ويقارنونها بالإنتاج الأجنبي، ويتبادلون التوصيات مع مستخدمين من أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية... هذا الحضور يعكس تبدّلاً في طبيعة العلاقة بين الجمهور السعودي والسينما، فبعد عقود من الغياب عن الشاشات، أصبح الشباب السعودي جزءاً من مجتمع نقدي عالمي، يقرأ ويُقرأ، ويكتب بلغته الخاصة عن أفلامٍ تعبّر عنه وعن مجتمعه.
واللافت أيضاً أن بعض المخرجين السعوديين أنفسهم صاروا يطالعون تعليقات الجمهور على «ليتربوكسد»، ليعرفوا كيف يتلقى العالم أعمالهم بعيداً عن قوالب الإعلام الرسمي، وكليشيهات التواصل الاجتماعي، حيث تختصر المنصة المسافة بين المبدع والمشاهد، وتفتح دائرة الحوار بشأن السينما المحلية في فضاء عالمي حقيقي، فكل مراجعة، وكل نجمة تقييم، تفاعل ثقافي صغير لكنه متراكم، ويمتد أثره إلى أبعد من حدود شباك التذاكر.


