قال المخرج الفلسطيني ورد كيّال إنّ فيلمه القصير الجديد «نهاية» جاء من «الحاجة إلى التعبير عن لحظة إنسانية يعيشها الفلسطيني يومياً في ظلّ واقع خانق مليء بالعجز والتناقضات»، مشيراً إلى أنّ فكرته وُلدت من حديث شخصي دار بينه وبين أحد أصدقائه عن السينما والواقع، وعن الطريقة التي يمكن من خلالها أن يقول الفنان ما يريد.
وأضاف، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أنّ «الفكرة تطوَّرت وقرَّرتُ أن أصنع منها فيلماً بسيطاً لا يحتاج إلى أدوات ضخمة أو ميزانيات كبيرة أو حبكات مركّبة، بل هو عمل صادق يضع الإنسان أمام صورته، ويُجبره على النظر في مرآته بصدق».

وعدَّ الفيلم محاولة لالتقاط تلك اللحظة الدقيقة التي «يتقاطع فيها الصمت بالعجز، والإدراك بالخذلان، في واقع يزداد قسوة يوماً بعد آخر».
ورأى كيّال مشاركة عمله في الدورة الـ41 من مهرجان «وارسو السينمائي الدولي» محطة مهمّة ومؤثرة بالنسبة إليه، «خصوصاً أنّ المهرجان من أبرز الفعاليات السينمائية الأوروبية التي تمنح مساحةً للأصوات الجديدة وللسينما التي تُواجه القمع والحروب».
وأكد أنّ عرضه في وارسو يُمثّل لحظةً إنسانية وفنّية في آن واحد، «فالمهرجان لم يكن في السنوات الأخيرة منفتحاً على السينما الفلسطينية بهذا الشكل»، مشيراً إلى أنّ «نهاية» هو الفيلم الفلسطيني الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية هذا العام، ما يمنحه حضوراً رمزياً كبيراً في ظلّ ما تشهده فلسطين من مأساة متواصلة.
وأوضح أنّ المهرجان، بمكانته السياسية والثقافية، يتيح للفيلم أن يُعرض أمام جمهور أوروبي مختلف قد لا يتعامل عادةً مع السينما الفلسطينية من الداخل، مُعدّاً هذه المشاركة فرصةً لتقديم مقولته الفنّية في فضاء جديد، بعيداً عن التوقّعات المسبقة والنمط المُعتاد في تناول القضية الفلسطينية فنّياً.
تدور أحداث فيلم «نهاية» في ليلة عاصفة بمدينة حيفا، حيث يمشي رجلٌ وحيد في شوارع خالية مُحاولاً إشعال سيجارته من دون جدوى، فالرياح والمطر يُطفئان كلَّ محاولة.
علَّق كيّال: «هذا المشهد البسيط في ظاهره يتحوَّل تدريجياً إلى استعارة عن حالة إنسانية أعمق، إذ يعكس العجز الداخلي الذي يعيشه الفلسطيني خارج غزة أمام المأساة المستمرّة».

وأكد أنّ الفيلم صُوِّر بلقطة واحدة مُتواصلة من دون أي قطع أو انتقال زمني، في محاولة لتثبيت المُشاهد داخل لحظة واحدة مكثَّفة، مشيراً إلى أنّ هذا القرار الفنّي كان صعباً لكنه ضروري، لكونه يعكس فكرة الثبات والعجز التي أراد التعبير عنها، فالشخصية لا تتحرّك فعلياً نحو أي تغيير، بل تدور داخل دائرة مغلقة من المحاولات الفاشلة.
وأضاف كيّال أنّ «الإصرار على تنفيذ الفيلم بهذه الطريقة يجعل المُشاهد يشعر أنّه يعيش اللحظة نفسها مع الشخصية، من دون أن تمنحه السينما أي مهرب أو فاصل أو انتقال وهمي. فهو يظلُّ أسير اللحظة بكلّ ثقلها وبطئها وبردها»، لافتاً إلى أنّ «هذا الخيار الإخراجي كان تحدّياً تقنياً وإبداعياً كبيراً، لكنه منح الفيلم صدقه البصري وإحساسه الواقعي العميق».
وأوضح أنّ «فكرة إشعال السيجارة تحوَّلت داخل الفيلم إلى استعارة محورية تُعبّر عن الإنسان الذي انغلق على نفسه وتحوَّل إلى كائن أناني يعيش داخل قوقعته»، وقال إنّ «هذه الفكرة جاءت من ملاحظة واقعية لطبيعة الحياة اليومية للفلسطينيين داخل أراضي 48، حيث تستمر الحياة بشكل طبيعي بينما الإبادة مُتواصلة في غزة».
وأشار إلى أنّ الإلهام الأساسي للعمل جاء من شعوره بالعجز الجماعي والتقصير تجاه ما يحدث في فلسطين، الذي ازداد بعد الإبادة التي تشهدها غزة، مُتابعاً: «أرى أنّ السينما مسؤولة عن طرح الأسئلة وليس تقديم الأجوبة، ولا أخشى ردود الفعل على الفيلم، ولا أهتمّ إن كان البعض سيرى فيه نقداً قاسياً، لأنّ وظيفة السينما هي أن تقول ما لا يُقال، وتواجه ما يُخشى مواجهته».
وأضاف: «لا أحمّل الفلسطينيين المسؤولية عن المأساة، ولكن من واجبي أن أراجع نفسي وأُظهر كيف أصبحنا عاجزين عن حماية أنفسنا وعن التواصل مع ألمنا الجمعي. الاحتلال مسؤول أولاً وأخيراً، لكن من واجبنا أن نسأل: ماذا فعل بنا هذا الاحتلال؟ وكيف غيَّر فينا ما لم نعد نراه؟».
وتحدَّث كيّال عن موقع التصوير قائلاً إنّه اختار حيّاً في مدينة حيفا بُنيت طبقاته فوق بعضها البعض منذ عام 1948، حيث تتقاطع العمارة الاستعمارية مع العمارة الشعبية الفلسطينية، في مشهد يعكس التناقض بين مَن بنى ومَن سُلب منه المكان.
وأوضح أنّ «هذا الاختيار لم يكن جمالياً فقط، بل سياسي أيضاً، لأنّ المكان نفسه يحمل في تكوينه طبقات من التاريخ والاستعمار والاقتلاع»، مشيراً إلى أنّ «هذا الحيّ يضمّ فئات منبوذة ومهاجرين وطبقات غير مرئية داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو ما يعكس رمزياً الفكرة التي يرتكز عليها الفيلم عن التهميش والعزلة والانفصال».
وبيَّن أنّ التصوير في الشارع، تحت المطر والبرد وفي ظروف صعبة، أضفى واقعيةً شديدة وعمقاً شعورياً إضافياً، إذ امتزج أداء الممثل بتعب الجسد والبرد الحقيقي.
وقال كيّال إنّ «اختيار الممثل زياد بكري جاء طبيعياً ومباشراً بعد سلسلة من اللقاءات»، مشيراً إلى أنّ الأخير قرأ السيناريو وأبدى حماسته الفورية للمُشاركة، لأنه شعر أنّ الشخصية تُعبّر عنه، لافتاً إلى أنّ غياب الحوار تقريباً في الفيلم جعل التمثيل يعتمد على الجسد والحركة والإحساس الداخلي، وهو ما برَعَ فيه بكري، ليُحوّل الصمت إلى لغة مكتملة المعنى.
وأضاف المخرج أنّ «عملية التصوير كانت شاقّة جداً، إذ استغرقت تحضيرات طويلة لتنسيق اللقطة الواحدة، وتطلَّبت انسجاماً كاملاً بين الكاميرا والممثل والإضاءة وحركة المطر والرياح»، واستدرك بأنّ «هذا العناء منح الفيلم صدقه، لأنّ التعب الحقيقي الذي عاشه الممثل انعكس في الأداء وأضفى على الشخصية طبقةً إضافيةً من الضغط والانفعال».
كذلك بيَّن أنّ «هذه الصعوبة لم تكن عائقاً بقدر ما كانت جزءاً من التجربة الإبداعية نفسها، لأنّّ (نهاية) ليس مجرّد فيلم يُروى، بل هو تجربة تُعاش».










