احتفى «يوم المخطوط العربي» الذي تنظمه سنوياً منظمة «الألكسو»، بالرحلة العلمية التي قطعها البروفسور السعودي يحيى بن جنيد على مدى 6 عقود في مجال خدمة التراث والمكتبات، عكف خلالها على إصدار عشرات المؤلفات في تاريخ الكتب والمكتبات، والحضارة الإسلامية، والوقف الثقافي، ورعى أجيالاً من المكتبيين عبر العقود.
جاء ذلك خلال الاحتفال الرسمي بيوم المخطوط العربي في دورته الثالثة عشرة 2025، الذي أقيم (الأحد) في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، بالتعاون مع معهد المخطوطات العربية، تحت شعار «المخطوط العربي: حياة أُمّة ورائد حضارة».

وقال الأمير تركي الفيصل، رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، في كلمته خلال الحفل، إن هذا اليوم يستدعي ذاكرة الفكر، وتصغي فيه الروح إلى صدى القرون، مؤكداً أن استضافة المركز لهذه المناسبة ليست من قبيل المصادفة، فمنذ أكثر من 50 عاماً، وتحديداً في السابع عشر من محرم عام 1393هـ (19 فبراير/ شباط 1973)، استقبل الملك فيصل بن عبد العزيز، بعثة معهد المخطوطات العربية بمدينة الرياض، بالقرب من موقع الحفل، في لقاءٍ لم يكن استقبالاً تقليدياً، بل ومضة فكر وبادرة رسالة أضاء فيها الفيصل مكانة التراث العربي كرافد أصيل للهوية ونبع دائم للثقافة الأصيلة.
واختير الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد شخصية العام التراثية في الاحتفال بيوم المخطوط العربي لعام 2025، تقديراً لإسهاماته الواسعة في خدمة التراث وصون المخطوط العربي، وتكريماً لمسيرة امتدت عقوداً في البحث والتأليف والتحقيق.

كما تم اختيار «المخبر الوطني لصيانة وترميم الرقوق والمخطوطات بالقيروان» في تونس، مؤسسة العام للعمل التراثي بالوطن العربي في احتفالية «يوم المخطوط العربي» بوصفها إحدى أبرز المؤسسات المتخصصة في حفظ وصيانة التراث المخطوط في الوطن العربي، إضافة إلى ذلك اختير كتاب «جامع فرائد الملاحة في جوامع فوائد الفلاحة»، بتحقيق الأستاذ الدكتور إحسان ذنون الثامري (العراق)، ليكون كتاب العام التراثي بالوطن العربي في الاحتفالية، تقديراً لقيمته العلمية وما يحمله من معارف زراعية وصحية تعكس ثراء التراث العربي المخطوط.

وأشاد الدكتور محمد ولد أعمر، المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، بجهود الدكتور بن جنيد، وقال إن بن جنيد «علم بارز أدرك الرياض الحضارية للتراث العربي، وتمتع برحلة بحثية واسعة جابت مناحي متنوعة من حقول التراث، وأسهم في حقول المخطوطات وفهرستها وتحقيقها، وعمل على رصد حركة النشر النقدي والحياة الثقافية».

السعودية قادت عملية لإنقاذ التراث
قال الدكتور يحيى بن جنيد إن السعودية قادت عملية إنقاذ كبيرة للتراث العربي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت موطناً وملاذاً لآلاف المخطوطات العربية التي تعرضت للإهمال، ووجدت طريقها إلى المراكز والجامعات السعودية، وحظيت بالاهتمام اللائق والاستثمار الواعي.
وأضاف بن جنيد في كلمته خلال حفل يوم المخطوط العربي: «عندما تُذكر المخطوطات، تتجه الأنظار إلى عدد من العواصم العربية، ولكن في الوقت الراهن أستطيع أن أجزم بأن السعودية تعدّ أهم مركز من مراكز المخطوطات في العالم العربي».
وتابع: «يكفي أن مدينة الرياض وحدها تضم أكثر من 100 ألف مخطوط، موزعة بين مراكزها وجامعاتها، وتضم النفائس التي قد لا يكون لها نظير في العالم العربي». وقال بن جنيد إن هذه المخطوطات جمعت من خلال عملية إنقاذ واسعة تولتها السعودية، وذلك عندما كان سماسرة المخطوطات يتوجهون إلى السعودية في وقت لم يكن هناك من يهتم بالمخطوطات، نظراً لتكلفة شرائها ورعايتها، بينما اقتنت السعودية آلاف المخطوطات ودفعت من أجلها ملايين الريالات، وحفظت في مراكزها وجامعاتها بشكل سليم، وخدمت من خلال الترميم والفهرسة والتصنيف وإتاحتها للباحثين.

ريادة بن جنيد في حفظ التراث
ويُعد بن جنيد واحداً من أبرز الأسماء الثقافية والعلمية في السعودية والعالم العربي؛ لما قدّمه من إسهامات رائدة في مجالات المخطوطات والمكتبات والدراسات الإسلامية. وُلد الدكتور يحيى بن جنيد في مكة المكرمة عام 1947م، وتلقى تعليمه الأولي فيها، قبل أن يكمل مراحله الدراسية في الطائف، ثم اتجه إلى التعليم الجامعي حيث حصل على البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة الملك سعود عام 1969، ثم الماجستير في المكتبات والمعلومات من جامعة ميزوري الأميركية عام 1976، وأعقبها بالدكتوراه في المكتبات والوثائق من جامعة القاهرة عام 1983.
وتنقّل بن جنيد بين مواقع أكاديمية وإدارية بارزة، فعمل أستاذاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتولى رئاسة قسم المكتبات والمعلومات، كما شغل منصب أمين عام مكتبة الملك فهد الوطنية، وأمين عام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وأسهم في تطوير مشاريعه وخططه البحثية، وعضو سابق في مجلس الشورى، إلى جانب عضويته في مؤسسات ثقافية كبرى مثل مكتبة الملك فهد الوطنية ومجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية ومجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية، وهو رئيس مركز البحوث والتواصل المعرفي حالياً.
وقد أثرى بن جنيد الساحة العلمية بأكثر من 35 كتاباً و150دراسة ومقالة، تناولت قضايا التراث والمخطوطات والتاريخ والببليوغرافيا، ومن أبرز مؤلفاته: «أمير المؤمنين الإمام المستعصم بالله (رؤية تصحيحية)»، و«سيدة عصرها: الكاتبة شُهدة»، فضلاً عن تحقيقه لعدد من النصوص التراثية المهمة مثل «رفع الباس عن بني العباس» و«جذوة الاقتباس في نسب بني العباس».
ونال الدكتور يحيى بن جنيد جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية عام 1998، تكريماً لإسهاماته العلمية الرصينة التي عكست عمق خبرته في دراسة التراث وصيانته، ولا يزال عطاؤه ممتداً عبر مشاركاته في الفعاليات الثقافية والبحثية العربية والدولية، ليبقى علامة بارزة في خدمة الهوية الثقافية للأمة وحفظ ذاكرتها الحيّة.



