في 10 سبتمبر (أيلول) المقبل، يعتلي عازف الفلوت دانيال الهيبي خشبة مسرح «كازينو لبنان» للمرة الأولى، حاملاً معه سنوات من التجوّل بين القارات، وألحاناً صقلتها التجارب. بالنسبة إليه، لا يُختَزل الحفل في كونه أمسية موسيقية؛ فهو عودة إلى مسرح الطفولة الداخلي، ومحطّة عاطفية وفنّية كبرى تُتوّج التعب، ورحلات السفر، وثمار التضحية. لحظةٌ يختلط فيها الفرح بالامتنان، والآلة الصغيرة التي اختارته، تستعدّ لمشاركة قصّتها على أحد أعرق مسارح لبنان.

نشأ دانيال وسط عائلة لم تتّخذ الموسيقى مهنتها، لكنها كانت تسكنها كلّ يوم. في صباحات والده، يتردّد صوت فيروز، وتتداخل ألوان وديع الصافي وزكي ناصيف، فيما كانت والدته تُكرّر أغنيات خوليو إغليسياس وأندريا بوتشيللي، وتترك في أجواء البيت عبير الأوبرات الإيطالية وأغنيات الحبّ الإسبانية. أمّا الموسيقى الكلاسيكية، فوجدت مكانها الدافئ في المساء مع باخ وموزارت وشوبان. من تلك التوليفة المتنوّعة، وُلدت لديه ذائقة واسعة؛ كأنّ طفولته كانت درساً مبكراً في أنّ النغم لا يعرف حدوداً.
اختيار الفلوت جاء بدايةً برغبة من والده، لكنْ ما إن وُضعت الآلة بين يديه، حتى شعر أنّ شيئاً ما تبدّل في داخله: «أحببتُها إلى حدّ قرّرت معه أن تكون صوتي الأبدي ولسان روحي، تحكي قصّتي في كلّ مرحلة من حياتي».

كانت باريس المحطّة التي تحوّلت من مدينة للدراسة إلى مدرسة للحياة والفنّ. هناك، انفتح على ثقافات وأساليب موسيقية من العالم، وتعلّم أن يرى الموسيقى جسراً يصل بين الحضارات. تجربة مهرجان «كان السينمائي» منحته وقوفاً أمام جمهور عالمي متنوّع، ولقاءً بلغة النغم مع وجوه لا تتقاطع إلا في هذه المساحة المشتركة. ويعترف بأنّ مديرة أعماله، سينتيا سركيس بيرّوس، كانت رفيقة الطريق التي فتحت له أبواب هذه التجارب، ومنحته الدعم والرؤية التي يحتاج إليها لمواصلة السعي نحو الأفضل.
في مؤلّفاته وعروضه، يمزج بين الكلاسيك والجاز والروك والألحان الشرقية، وهو مزيج يجمع بين وعي الاختيار والتطوّر الطبيعي لمساره. «كلّ مدينة زرتُها، وكلّ موسيقي تعاملتُ معه، ترك بصمته في ألحاني»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، مؤكّداً أنّ موسيقاه انعكاس لعالمه الداخلي وتجربته الخارجية معاً.

رأى العازف اللبناني في الفلوت فرصة لابتكار لغة خاصة، خصوصاً أنه ليس شائع الاستخدام في الموسيقى المعاصرة. قدَّمه بأسلوب يمزج بين الشرق والغرب، ويضعه في قلب الجُملة الموسيقية لا على هامشها، ليكون الصوت الحامل للرسالة وما يتخطّى ظلَّها الخلفي.
منذ طفولته، وقف على منصّات صغيرة وكبيرة، مع فِرق وأوركسترات في لبنان وخارجه. ومع كلّ مرة، ازداد يقينه بأنّ المسرح هو مكان انتمائه الحقيقي، وأنّ الموسيقى خيار حياة وليست على الإطلاق شغفاً عابراً. وفي الخارج، منحته التجارب شعوراً بالاحتراف والانفتاح على جمهور متعدّد الثقافات، لكنّ العزف في لبنان له تفسير آخر: «هنا، أشعر باتصال أعمق مع الجمهور. أقدّم لهم جزءاً من هويتي وروحي، وأعود إلى بيتي حيث تتحوّل الموسيقى إلى لغة أكثر دفئاً وصدقاً».
يؤمن دانيال الهيبي أنّ الموسيقى لغة عالمية قادرة على تخطّي الحواجز السياسية واللغوية، وصنع أرضية مشتركة للفَهْم الإنساني. في مؤلّفاته، يحرص على أن تمتزج التأثيرات الشرقية بالغربية، وتتداخل أنماط الجاز والروك مع النغم العربي، لإيمانه بأنّ الاختلافات يمكن أن تتحوّل إلى قوة خلاّقة.
يبدأ دائماً من إحساسه الداخلي: «الموسيقى هي التعبير الأصدق عن مشاعري، لكنني في الوقت نفسه أفكّر بمَن سيستمع إليها، وأسعى لأن تلامس قلوبهم. الجمهور ليس مُستمعاً فحسب. إنه شريك في الرحلة الموسيقية».

التحدّي بالنسبة إليه هو التوازن بين التجديد والحفاظ على الجذور: «الابتكار لا يعني القطيعة مع الأصل، وإنما تطويره بأسلوب معاصر».
في 10 سبتمبر، يشاء أن يغادر الحاضرون وهم يشعرون بأنهم كانوا جزءاً من تجربة تمزج بين الاحترافية والروحانية، وبين القوة والحنان: «هدفي أن يترك فنّي أثراً فيهم، ويتحوَّل الحفل إلى ذكرى يعودون إليها دائماً باعتزاز».





