أن يتصدّر مسلسلٌ قائمة الأعمال الأكثر مشاهدةً على «نتفليكس» في هذه الآونة، فلا بدّ له من أن يدور في فلك الجريمة أو الألغاز. هكذا هو الحال بالنسبة إلى «Untamed» (طبيعة جامحة)، السلسلة ذات الحلقات الـ6 التي التفّ حولها الجمهور رافعاً إياها إلى المرتبة الأولى.
يبدأ قطعُ الأنفاس من المشهد الأول، حيث يتسلّق شابّان جبلاً شاهقاً وهما مربوطان بحبالٍ لا تقيهما المخاطر. سرعان ما تبلغ الإثارة ذروتها مع دخول متسلّقةٍ ثالثة إلى المشهد وهي تتدلّى في الهواء على هيئة جثّة.
يحدث ذلك كلُه ولم تكد تمرّ 5 دقائق على انطلاق المسلسل. هذه مخاطرة إخراجيّة تدفع بالمُشاهد إلى التساؤل: ما الذي ينتظرنا بعد إذا كان المشهد الأول قد تسبّب بهذا التسارع في دقّات القلب؟
بعد الجثة المتدلّية، يدخل البطل إلى المشهد؛ هو كايل تورنر المحقق المسؤول عن فكفكة ألغاز القضية التي تبدو وفاةً طبيعية أو انتحاراً، قبل أن تبدأ الخفايا بالبروز تدريجياً على يدَي المحقق البارع والواثق بنفسه، رغم مزاجه الخاص ومناكفاته مع زملائه.
تدور أحداث المسلسل في متنزه «يوسيميتي» الوطني في كاليفورنيا، ذات الطبيعة الساحرة والمتوحّشة في آن. مع العلم بأن التصوير الحقيقي جرى في غابات ومتنزهات كولومبيا البريطانية في كندا. لكن بغَضّ النظر عن موقع التصوير، فإنّ المشاهد الطبيعية هي الأخرى تحبس الأنفاس وتشكّل عنصر ثراءٍ بالنسبة إلى المسلسل.

في هذا المتنزه الشاسع حيث تتجاور الذئاب والدببة، وحيث ينصب مشرّدون خياماً ويقيمون في العراء، تحدث أمورٌ غريبة ليست وفاة الشابة لوسي كوك أوّلها ولا آخرها. في المكان الذي من المفترض أن يشكّل مساحة ترفيهية وموقعاً سياحياً، يموت أشخاصٌ بشكلٍ غامض، ويكثر السكّان الأميركيون الأصليون بتقاليدهم وموروثاتهم، وينتشر السلاح في أيدي صيادين لا يكتفون بقتل الحيوانات، كما تتغلغل عصابات تصنيع المخدّرات.
تأتي شخصية المحقق كايل لتزيد الغموض غموضاً، فهو منغلقٌ على نفسه، ويفضّل العمل وحده من دون التعاون مع زملائه. هو الآخر يخبّئ سراً ما، وغالباً ما يظهر حوله طفلٌ يتأرجح حضوره بين الواقع والتخيّلات. كايل شخصية جذّابة رغم سوداويّتها، ويؤدّيها الممثل إريك بانا ببراعة. تُعاونه في المهمة الممثلة ليلي سانتياغو بدور الشرطية نايا فاسكيز، التي تخفّف من جدّيّة كايل، وتقنعه بأنّ يداً واحدة لا تصفّق في التحقيق بلغز وفاةٍ بهذا الغموض.

لفاسكيز كذلك ألغازها وحبكتها الخاصة داخل القصة؛ إذ تصارع هي الأخرى أشباح الماضي المتجسّدة في شريكٍ سابق يحاول أن يسلبها ابنها. وهي المنتقلة حديثاً من صخب لوس أنجليس إلى صفاء الجبال، تجد في المتنزه ملجأً بعد أن استطاعت أن تروّض توحّشه، كما نجحت في تليين موقف زميلها المحقق كايل.
أما المرأة الثانية التي تقف إلى جانب كايل، فزوجته السابقة جيل التي تؤدّي دورها الممثلة روزماري ديويت. بينهما انفصالٌ أليم ومُثقل بالجراح، إلا أن جيل حائط دعم بالنسبة إليه وتُخفي أسراراً مرتبطة بالجريمة.

لكن مهما كثرت الألغاز، تبقى وفاة لوسي المحور الذي تدور حوله كل الحبكات والفرضيّات. يكشف جَمع الأدلّة الحثيث، أن الضحية العشرينية هي ذاتها الطفلة التي اختفى أثرها في الـ6 من عمرها فظنّها الجميع ميتة. أما الوشم المذهّب الذي على معصمها فيربطها بعصابة تصنيع وترويج المخدّرات.
يأخذ كايل على عاتقه، ومن على صهوة حصانه الذي غالباً ما يفضّله على السيارة، أن يلاحق عناصر الجريمة بأدقّ تفاصيلها، معرّضاً نفسه لمخاطر كبرى. لكنه وسط تلك المغامرة، يداوي جرحاً قديماً تركه لسنواتٍ أسير عُزلته وتلك الغابة.

وفي انعكاسٍ لهذا لزمن المتوقّف، يغلب انطباعٌ عام بأنّ أحداث المسلسل تدور في التسعينات قبل عصر الهواتف الذكية والتكنولوجيا، التي كان من المفترض أن تلعب دوراً محوَرياً في كَشفٍ سريع لخلفيات الجريمة. إلا أنّ هذا العنصر لا يظهر سوى مع اقتراب النهاية، ربما عن سابق تصوّر وتصميم، تماشياً مع الإطار العام والأحداث التي تدور في الطبيعة النائية بعيداً عن الحضارة العصريّة.
لكن مهما تباطأت الأحداث، فإنّ سلاسة المسلسل تكمن في أنه اقتصر على 6 حلقات، مدة كل واحدة منها 45 دقيقة. وحتّى إن فقدَت الحبكة عنصر الإثارة في منتصف العمل، فإنّ تكشّف طبقات الجريمة واحدةً تلو الأخرى، وارتباطها بالخفايا النفسية القاتمة للشخصيات الأساسية، يُبقي الجمهور متمسّكاً بمتابعة المُشاهدة. يُضاف إلى ذلك فريقٌ من الممثلين المحترفين، بمن في ذلك الأطفال منهم الذين يُضفون الكثير من الحكمة إلى السرديّة.

مَن يحبّون مسلسلات الجريمة التي تغلب عليها الألغاز أكثر من الدماء سيجدون في «Untamed» ضالّتهم. ولهُواة مسلسلات «الوسترن» ذات المناظر الطبيعية الخلّابة على غرار «Yellowstone» حصّتُهم كذلك في العمل الذي نال حتى اللحظة تصنيفاتٍ جيدة جداً على منصات تقييم المسلسلات.





