إذا ما بحثنا عن معنى كلمة «فكر» لوجدناها تعكس إعمال العقل في المعلوم، للوصول إلى معرفة المجهول. وهو ما يقف وراء تحليلات ونقاشات ترافقنا يومياً، ومن خلاله ندخل في استنتاجات، فنحلّ مشكلاتنا أو نزيدها تعقيداً.
المخرج والكاتب المسرحي غبريال يمّين لجأ إلى الفكر بكونه مرآةً تعكس ما يدور في الخيال، ولإبراز أهميته عند البشر، فقدَّم توليفة فنّية تجمع بين الفانتازيا والواقع. وفي «شغلة فكر»، عنوان عمله الجديد على مسرح «مونو» في بيروت، يُشرِّح لهذا المكوّن؛ وعلى طريقته يُترجم قدرات العقل ومهاراته في 9 قصص، لتؤلّف 9 عروض مسرحية قصيرة يؤدّي بطولتها 13 ممثلاً. وعلى مدى نحو ساعتَيْن من الوقت، يتلقّفها الجمهور مثل أطباق شهية، فيخرج من الصالة ترافقه حالة من الشبع والتخمة. وهي نتاج أفكار غنيّة بموضوعات إنسانية يتناولها العمل؛ وقد جمعها يمّين ضمن ديكورات مُبهرة تسهّل عملية هضمها وامتصاصها.

المسرحية يقتبسها يمّين من «ذا غود دكتور» للكاتب المسرحي الأميركي نيل سايمون، لَبْنَنَها بأسلوبه السهل الممتنع لتتناسب مع إيقاع حياة اللبنانيين. كما يمكن لموضوعاتها أن تنسجم مع أي مجتمعات أخرى، غربية أو عربية. وتستمر عروضها على خشبة «مونو» حتى 17 يوليو (تموز) الحالي.
تحكي المسرحية عن كاتب مسرحي (طلال الجردي) يبحث عن فكرة لعمل جديد، فيأخذ الحضور برحلة بين أفكاره التي يتخيّلها مباشرة على المسرح، وتتحوّل نصوصاً مُترجمة بشخصيات من لحم ودم. وكل فكرة من التسع التي تدور في رأسه تُشكّل ولادة لحكايات قصيرة، بينها ما يحكي عن القهر والظلم، وأخرى عن الحبّ والغبن والتقدُّم في العمر، وغيرها.
ومن اللحظة الأولى لانطلاقة العمل، يُحاول يمّين بخبرته المسرحية حمل الجمهور على بساط ريح ذكي. وهو ما يجعل هذه الرحلة الفنّية حالة ممتعة بأدواتها ومكوّناتها، فتلامس أعماق الذين يشاهدونها من جهة. كما ترسم الابتسامة على شفاههم من جهة ثانية، فتبرز نكهة يمّين المسرحية بشكل مباشر. ويشعر مُشاهد المسرحية بأنه يتابع عملاً أجرى فيه المخرج والكاتب اللبناني إسقاطات على شخصيّته الحقيقية. وهذا الأمر يلمسه عن قرب في أكثر من مشهد، وتبدو واضحة في أغنية تُلوّن مشهداً معيّناً يخرج فيه صوت يمّين مؤدّياً.

ومن خلال هذا العرض، يعطي يمّين فرصة لمواهب تمثيلية شابة اختارها من بين طلّابه الجامعيين، فيجمع هذه المواهب مع ممثلين محترفين، صانعاً خلطة ذكية بين الخبرة و«المرّة الأولى». فوقف كل من عامر فيّاض، وعلي بليبل، وكريس حداد، وكاتي يونس، ومابيل طوق، وماييف ليشا إلى جانب طلال الجردي، وطارق تميم، وسلمى شلبي، وألّفوا معاً مشهدية فنّية تتلوّن بقدرات مختلفة، وهو ما زوَّد العمل بقيمة فنّية شابة مُرصَّعة بخبرات احترافية.
وبغضّ النظر عمّا إذا كان طول المسرحية خدمها أو أسهم في التقليل من حماسة مُشاهدتها، فإنّ «شغلة فكر» ارتقت بأدواتها عن غيرها من الأعمال المقدَّمة على مسرح لبنان اليوم. فتميَّزت بديكوراتها ولوحاتها المُطعَّمة بالغناء والموسيقى والرقص. كما أعطت مساحة لا يُستهان بها للكوميديا، ولكن من دون مبالغة. في الوقت عينه، حضَّت مُشاهدها على التفكير في الرسائل التي تحملها، فراح يكتشفها الواحدة تلو الأخرى تماماً كما «تريند» الـ«أنبوكسينغ» الرائجة اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فكلّ قصة من قصص المسرحية كانت بمثابة صندوق هدية ينتظر مُتلقّيها اكتشاف ما في داخله. وعلى وَقْع المفاجأة التي يتلقّاها، يُصفّق لمحتواها تارة، ويتعاطف مع رنين الإنسانية البالغة فيها تارة أخرى.
وكما في اسكتشات الموظّف المسكين، ومربّية الأولاد، والرجل «الدنجوان»، كذلك في قصص أخرى، تعلو حرارة تفاعل الجمهور في الصالة مع أبطال العمل.

أما قصة «السعادة المتأخّرة» التي تدور بين رجل وامرأة متقدّمين في العمر يجلسان على مقعد خشبي في متنزه، فتركت أثرها الكبير في الحضور. ساد المسرح الصمت التام لشدّة انجذاب المُشاهد إلى حواراتها، وكذلك إلى لوحاتها الفنّية الرقيقة التي ولَّدت أجواء مسرحية تختلف عن باقي قصص العمل.
ولم يفُت يمّين التطرّق إلى الهموم الراهنة، وفي مقدّمتها ما يتعلّق بـ«المودع اللبناني»، فقدّم قصة صاخبة عن هذا الموضوع تمثَّلت بالحركة والصراخ لرفع الصوت وإيصال الرسالة للمسؤولين. في حين اعتمد في مشهد «الرجل الدنجوان» على حوارات ذكية، فقدَّم نموذجاً للرجل المحبوب من النساء، ولكن بأسلوب راقٍ لا يُشبه المستهلَك الرائج.







