ما إن تُضاء الخشبة حتى يبدأ التناقض في التشكُّل من تلقائه. العنوان يقول شيئاً، بينما يقول المشهد شيئاً آخر. «الحياة باللون الوردي» مقتبسة من أشهر أغنيات إديت بياف التي غنَّت للحبّ والحياة والنور، رغم طفولتها المقهورة في الشوارع، وحياتها المسكونة بالفقدان والخسارات.
ولكن على المسرح، لا ورد يُجمِّل الصورة. لا عطر، ولا أزهار. المقعد الخشبي وحيدٌ، والضوء أصفر خافت، والشارع يُشبه مسرحاً مهجوراً يرتطم فيه 4 لبنانيين بقسوة الغربة، 4 وجوه، 4 أصوات، 4 جراح لا تعثُر على لغة مشتركة سوى الحنين المُهترئ، والذكريات المبتورة.

تحملنا مسرحية «الحياة باللون الوردي» (مسرح «ديستركت 7»، الصيفي، بيروت) إلى باريس عام 1946. لكن العاصمة الفرنسية على الخشبة ليست مدينة النور. هي مدينة الظلال، ومسرح ما بعد الحرب، حين كانت فرنسا لا تزال تُلملم جراحها السياسية، وتبحث عن جمهورية جديدة تُعيد تجميع المعنى الذي تبعثر. ووسط هذا المشهد المُتصدّع، يروي 4 لبنانيين حكايات الغربة والتشرُّد، وكيف يُترَك المرء على عتبة باب مُغلَق.
وسط فضاء بصري بسيط، تُحاول المسرحية إعادة قراءة الهجرة من الداخل، حيث مغادرة الأوطان تتجاوز كونها انتقالاً جغرافياً إلى مكان آخر. الغربة الحقيقية هي الشرخ الأليم في الوعي والهوية والتوقّعات. الرسام، الراقصة، الشاب التائه، وعازف الأكورديون... كلٌّ منهم يحمل على كتفيه قصة شخصية، لكنها سرعان ما تتقاطع لتُشكّل سيرة جماعية: سيرة المنفى. هؤلاء لا يحملون أسماء بقدر ما يحملون رموزاً. هم ليسوا مجرَّد أفراد، وإنما تجسيد لأنماط إنسانية هشّة. لخيبات تُتوارث من جيل إلى آخر.

الأداء التمثيلي كان في مواضع كثيرة ناضجاً ومؤثراً. إيلي متري وطارق تميم يُقدّمان شخصيتَيْن مُحطمتَيْن بصدق، وصولانج تراك تضيف إلى العرض مزيجاً من الانكسار والصخب، بينما يترك لبنان عون ظلالاً صامتة حين لا يعود الكلام مهماً.
مع ذلك، فإنّ العمل، رغم عمق فكرته وتماسُك رموزه، لم يَسلَم من تعثّر درامي واضح. بدا النصّ أحياناً مُحمَّلاً بالتصريح المباشر، كأنَّ الحوار يُقنعنا بأنّ ثمة فكرة عظيمة تُقال، من دون أن يُترك للمتفرّج متّسع ليشعر بها، أو ينغمس فيها شعورياً. المونولوغ لم ينجُ من التفاوت، فبدت بعض اللحظات الدرامية على السطح. والمشاعر لم تكن دائماً على مستوى الألم المُفترض، فحلَّ تعثُّر بين الفعل وردّ الفعل. هكذا، فإنّ الطرح الذي أراد أن يكون صفعة، تراءى أحياناً رجفة متردّدة.

إحدى أبرز نقاط قوة العرض هي المفارقة التي يخلقها عنوان المسرحية: «La Vie en Rose» تتخطّى كونها أغنية حبّ؛ فهي رمزٌ لزمن بكامله، لأمل مستحيل، وحنين يُعمّق الجراح الداخلية. صوت إديت بياف، الخارج من العراء، من الحبّ المدمن، من المدن المكسورة، يطفو هنا مثل شاهد على خديعة الأحلام وواقعها. إنه وردٌ مسموم. وما فعلته الكاتبة مايا سعيد هو أنها نزعت من الأغنية بهجتها، وأبقت على موسيقاها وحدها، كأنها تقول إنَّ الحلم الأوروبي؛ الحلم الورديّ الذي أغرى أجيالاً كاملة بالهجرة، ليس سوى نسخة حديثة من الأوهام الكبرى.
في هذا المعنى، تحمل المسرحية طاقة رمزية قوية، لكنها لم تترجمها دائماً إلى لحظات متوهّجة. هناك تكرار شعوري، وتوزيع سردي لم يبلغ الذروة التي يحتاج إليها هذا النصّ. فالنصّ يريد أن يقول كثيراً، لكنه يضع يده أحياناً على الجرح، ويغادره سريعاً. بعض المَشاهد بقيت عالقة بين التلميح والتوصيف، من دون أن تنفجر إلى حقيقة فنّية كاملة.
ومع ذلك، يبقى في العمل ما يستحق التمهُّل: النبرة السوداء النابعة من الحنين، الجرأة في قَلْب الصورة النمطية عن باريس بوصفها أرض الأحلام، إظهار الغربة على هيئة مصيدة، وتشريح شعور عدم الانتماء الذي لا يغادر صاحبه، حتى وهو في حضن مدينة كبرى.
«الحياة باللون الوردي» عرضٌ يُعلن وجعه بصدق. في الخلفيّة صوت إديت بياف يُغنّي للورود كأنه يرثيها. يُزهر الوهم ليُذكّر بأنّ الغربة أحياناً جذور تُنتَزع، واقتلاعٌ نازف يتركنا مُعلّقين بين أرض لا تُنبتنا وسماء لا نُجيد البكاء تحتها.





