من الجوانب الأكثر لفتاً للانتباه في الفن المصري، هو الثراء العميق للقصص غير المروية، والأعمال التي لم يسلط عليها الضوء بشكل كافٍ.
ومن خلال معرض «من؟ متى؟» الذي يحتضنه غاليري «ليوان» بالقاهرة» حتى 27 فبراير (شباط) الحالي نتعمق في تجارب فنية متميزة لأسماء، ربما نسمعها لأول مرة، لكنها تمثل مساحة مهمة من المشهد التشكيلي المصري.

يضم المعرض «مجموعة مختارة من أعمال الفنانين المصريين الذين طواهم النسيان رغم أعمالهم المتميزة»، حسب وصف مصطفى عز الدين، جامع الأعمال الفنية ومدير الغاليري، ومن هؤلاء الفنانين أحمد لطفي، منير مرقص، جورج عياد أبو السعد، سعد صادق، كامل غندر، أليس تادرس، عواطف رمزي النحال، مارجوري حمودة، ماري لويز خير الله، وعزيز يوسف، نظير خليل وهبة، ومحمد يوسف، وغيرهم.
ويرى «أن الاعتراف بهذه الإبداعات، ومشاركتها من خلال المعارض، والفعاليات الفنية، يعزز العملية الإبداعية، ويكشف عن ثراء تجارب غنية جديدة، بصرف النظر عن أسماء مبدعيها المنسيين».

من بين الفنانين الذين يحتفي بهم المعرض فنانون كان له مشوار فني حافل بالنشاطات، ومنهم من بقي بعيداً تماماً عن الأضواء، لكن ما يجمعهم هو أن إبداعهم لم يلق الاهتمام الذي يستحقه، ومن هنا يأتي هذا المعرض؛ ليضيء على أعمالهم التي تستحق أن تُكتشف من جديد.
وحول فكرة إقامة المعرض، يقول عز الدين لـ«الشرق الأوسط»: «منذ بداياتي كجامع للأعمال الفنية، كنت شغوفاً بالقراءة عن الفن، وأثناء ذلك اكتشفت أسماء فنانين، أدركت أن لا أحد يعرفهم، أو يسمع عنهم شيئاً، وكأنهم غابوا عن الذاكرة تماماً»، مضيفاً: «كنت محظوظاً حين التقيت صديقاً، شاركني الشغف نفسه بالفن، واستوقفني أنه يقدر اللوحات الفنية؛ لجمالها وأصالتها، وقيمتها الفنية، وليس لشهرة الفنان، وكان هذا الشغف المشترك بيننا سبباً في تعاوننا لتنظيم هذا المعرض».

اللافت أنه برغم أن بعض هؤلاء الفنانين درسوا في الخارج، وأن آخرين تعمقوا في دراستهم الأكاديمية داخل مصر، وأنهم كذلك أقاموا معارض وشاركوا في العديد من الفعاليات الفنية، فإن أسماءهم ظلت مجهولة للكثيرين، حتى بالنسبة للنقاد والمتخصصين.
ويبرر عز الدين ذلك قائلاً: «في ذلك الوقت، ربما لم تكن هناك وسائل الإعلام التي توجه اهتماما كافياً بالفن التشكيلي، بشكل كافٍ، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن موجودة في وقتهم؛ مما ساهم في عدم انتشار أعمالهم وشهرتهم».
واعتبر عز الدين ابتعاد هؤلاء الفنانين المنسيين عن الأضواء «سلاحاً ذا حدين»؛ فبينما جعل أعمالهم متميزة ومتفردة في ظل تركيزهم على أعمالهم الفنية، وعدم التفاتهم إلى إرضاء الجمهور، أو النقاد، فإنهم في الوقت نفسه لم يحققوا شهرة لافتة.
ويعد مصطفى عز الدين المعرض «فرصةً جديدةً لتقدير إبداعهم، وإعادة التوازن بين الماضي والحاضر، بعد رحيلهم، فبناء نسيج فني أكثر ثراءً هو أحد مكتسبات هذه النوعية من المعارض؛ إذ يكون الفن في أفضل حالاته عندما يعكس التنوع الجميل للتجربة الإنسانية؛ وقد جلب هؤلاء الفنانون المهمشون الخطوط والألوان والأصوات الأساسية إلى هذا النسيج منذ سنوات طويلة».
وحين تتأمل لوحاتهم التي يضمها المعرض، تشعر كم شهدت الحركة التشكيلية المصرية تنوعاً في المدارس والاتجاهات الفنية على مدى تاريخها.

من خلال المعرض الذي يضم نحو 60 لوحة لـ20 فناناً، يتعرف الجمهور على أعمال مصور المناظر الطبيعية كامل غندر، عاشق البيئة المصرية، الذي عاش متنقلاً بين أنحاء القاهرة، وأقاليم مصر، مجسداً وجوه ناسها، وشواطئ النيل، وتلال الأقصر، وجنادل أسوان، عبر أسلوب فني يشغي بالعذوبة، مستخدماً الألوان المائية بلمساتها الرومانسية المؤثرة.
ويظهر تأثر الفنان سعد صادق بالفلكلور الشعبي، والطقوس الاحتفالية المصرية، خصوصاً المولد النبوي الشريف، وينقل المشاهد إلى القاهرة الفاطمية، والعمارة والزخارف الإسلامية.

ولد سعد صادق عام 1929 في محافظة المنيا (جنوب مصر)، حيث درس فنون البورتريه والمنظر الطبيعي على يد كبار الفنانين مثل أحمد صبري، ويوسف كامل، وحسني البناني، وكامل يوسف، وحصل على دبلوم المعلمين شعبة التربية الفنية، وأكمل دراساته الحرة بكلية الفنون الجميلة في الخمسينات من القرن الماضي.
ومن بين أعمال المعرض تبرز اللوحات التأثيرية للفنان نذير خليل، الذي اهتم بشكل كبير بالطبيعة، وصفوف الأشجار المنتشرة في المدن الصغيرة والريف، وكانت الطبيعة مرسومة بعناية ودقة، وفي إحدى لوحاته تتعانق روعة الطبيعة مع دفء البيوت في الريف المصري، واعتمد الفنان على إبراز الضوء، واستعمال الألوان المتكاملة في الظلال.

وتصور الفنانة ماري لويز (1923-2016) الأسواق الشعبية القديمة، والبيوت السكندرية في الأزقة والشوارع الضيقة المطلة على البحر، وعرضت الفنانة أعمالها في معارض بمصر، وفرنسا، وقبرص، والولايات المتحدة، ولا تزال لوحاتها تزين العديد من المنازل حول العالم، ورحلت في الثالثة والتسعين من عمرها تاركة وراءها فناً يعكس حيوية وجمال مصر.
ويعبر الفنان أحمد يوسف عن نعومة الفتيات الحالمات، بينما تحتفي مارجوري حمودة بالدور المبكر للمرأة المصرية في المجتمع.

ويكشف المعرض عن أعمال للفنان أحمد لطفي (1896ـ 1966) الذي صمم مناظر «أوبريت العشرة الطيبة».
ورغم إسهامات لطفي في الحركة التشكيلية المصرية، ظل غير معروف لكثيرين، حتى بعد أن اقتنى «متحف الفن المصري الحديث» 4 لوحات له تعكس جرأته اللونية، وأسلوبه المميز، الذي يجمع بين التأثيرية والتعبيرية.