«الذراري الحمر» رحلة في أعماق العنف والبراءة

معالجة سينمائية لقصة حقيقية هزت تونس

فيلم «الذراري الحمر» للمخرج لطفي عاشور (فيسبوك المخرج)
فيلم «الذراري الحمر» للمخرج لطفي عاشور (فيسبوك المخرج)
TT

«الذراري الحمر» رحلة في أعماق العنف والبراءة

فيلم «الذراري الحمر» للمخرج لطفي عاشور (فيسبوك المخرج)
فيلم «الذراري الحمر» للمخرج لطفي عاشور (فيسبوك المخرج)

يتناول الفيلم التونسي «الذراري الحمر» للمخرج لطفي عاشور، قصة مؤلمة مستوحاة من واقع تونس، ويستعرض من خلاله حقيقة المأساة التي وقعت في جبل مغيلة عام 2015؛ وأعاد عاشور صياغتها بشكلٍ فنيّ مازجاً بين الواقع والخيال. الفيلم ليس فقط عن الإرهاب بصفته ظاهرة، بل هو استكشافٌ عميقٌ لوجوهِ العنف المختلفة وتأثيرها على الأطفال، خصوصاً في المناطق المهمشة.

تبلغ مدة الفيلم الدرامي 100 دقيقة، وهو من إنتاج مشترك بين تونس وفرنسا وبولندا وبلجيكا وقطر، والسعودية. وكتب السيناريو كل من ناتاشا دي بونتشرا، ودرية عاشور، وسيلفان كاتنوي ولطفي عاشور.

تدور أحداث الفيلم المشارك في مسابقة مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» حول «أشرف»، وهو طفلٌ يبلغ من العمر 14 عاماً، يعمل راعياً للغنم في شمال تونس الفقير، ويعيش مع ابن عمه المراهق «نزار». في مشهد مأساوي، يهاجمهما إرهابيو تنظيم «داعش»، ويقطعون رأس «نزار» أمام أعين «أشرف». يجد الطفل نفسه مضطراً لإعادة الرأس إلى عائلته التي تعيش في حالة عجز مطلق، حيث تبدو الشرطة غير مبالية بمشاكل الفقراء في تلك المناطق، في حين يبقى خطر الإرهابيين حاضراً.

المخرج لطفي عاشور

تتحوّل القصة من مأساة خارجية إلى رحلة داخلية معقدة، حين يبدأ «أشرف» بالتفاعل مع رؤى شبح ابن عمه «نزار»، مما يدخله في حالة نفسية تجمع بين الواقع والخيال في محاولة لفهم ما حدث والتعامل مع صدمته العميقة.

يحمل اسم «الذراري الحمر» رمزيةً مزدوجةً تُضيف عمقاً لمعاني الفيلم، فيتجاوز كونه مجرد وصفٍ للأطفال ليعكس روح القصة والرسائل الكامنة وراءها.

يقول مخرج الفيلم لطفي عاشور لـ«الشرق الأوسط»: «تُشير كلمة (الذراري) في اللهجة التونسية إلى الأطفال، بما يحملونه من براءة وضعف في مواجهة العالم». وهذا ينسجمُ مع محور الفيلم الذي يركّز على «أشرف» الطفل الذي يعيش ظروفاً قاسية وعنيفة، ويحاول النجاة وفهم ما يحدث من حوله. وبَيّن عاشور أن في بعض مناطق تونس، يُستخدم وصف «الحمر» للإشارة إلى القوة والشجاعة والجرأة. وهذا التوصيف يُعبّر عن التّحول النفسي الذي يعيشه الأطفال في الفيلم، حين يجدون أنفسهم في مواقف تتطلّب شجاعة تتجاوز أعمارهم وقدراتهم الطبيعية.

أشرف وابن عمه نزار في مشهد من الفيلم

يجمع اسم الفيلم بين البراءة الفطرية للأطفال (الذراري) وبين القوة غير المتوقعة التي يضطرون لإظهارها (الحمر). وهذا يعكس تناقضاً مأساوياً في القصة، حيث يُجبَر الأطفال على مواجهة العنف والدمار في وقتٍ كان لا بدّ أن يكونوا فيه محميّين من هذه الصراعات.

«الذراري الحمر» اسمٌ يختزل الحكاية في عمقها الإنساني، ويُظهِر كيف يمكن للسينما أن تُحوّل قصص الألم إلى حكايات عن الشجاعة والصّمود.

تدور أحداث الفيلم في فترة حساسة من تاريخ تونس، حين كانت البلاد تواجه تصاعداً في نشاطات الجماعات الإرهابية التي استفادت من الفراغين الأمني والسياسي الذي أعقب الثورة. وكشفت الجريمة المروعة، التي استهدفت مدنيين وأطفالاً أبرياء، عن وحشية هذه الجماعات وخلّفت صدمة مجتمعية، خصوصاً في ظلّ ندرة الحوادث الإرهابية بتاريخ تونس.

لا يتناول الفيلم الجريمة فقط، بل يضعُها في سياقيها السياسي والاجتماعي الأوسع. ويعكس كيف استفادت الجماعات الإرهابية من التّحولات السياسية بعد الثورة.

مشهدٌ من الفيلم يُظهر أشرف حين يعود برأس ابن عمّه نزار إلى عائلته

بدأت فكرة الفيلم وفق لطفي عاشور، فور وقوع الجريمة الأولى في عام 2015، بيد أنّ تطوّر الأحداث وزيادة العنف، مع وقوع جريمة ثانية عام 2017 بالمنطقة نفسها وفي العائلة نفسها، دفع المخرج إلى تحويل القصة لفيلم روائي. استغرق العمل عليه مدة 6 سنوات، بينها عامان من التأخير بسبب جائحة (كوفيد - 19).

يضُمّ «الذراري الحمر» نحو 100 شخصٍ، واستغرق تصويره 42 يوماً. ورغم استناده إلى أحداث حقيقية، اختار الفريق معالجة القصة بأسلوب روائي بعيدٍ عن التّوثيق المباشر، مما أتاح لهم حريةً فنية أكبر للتّعبير عن معاني القصة العميقة.

يُركّز الفيلم على استكشاف الحالة النفسية لـ«أشرف»، وكيف يواجه صدمة فقدان ابن عمه والعنف الذي تعرّض له. ويُوضح المخرج أن الفيلم يسعى لدمج الشاعرية بالخيال، لتقديم تجربة سينمائية تعكس ألم الفقد والتغلب على الصدمة بطريقة إنسانية عميقة.

لقطة من «الذراري الحمر» (البحر الأحمر السينمائي)

نال أداء الممثل الشاب علي الحليلي الذي جسد شخصية «أشرف» إشادة واسعة. واستطاع بمهارة أن يعبّر عن التعقيدات النفسية للطفل، مما أضفى مصداقية وعمقاً للقصة.

«الذراري الحمر»، ليس فقط فيلماً عن مأساة وقعت في مكان معين وزمن محددٍ، بل هو عمل إنساني عالمي يُعبّر عن قوة السينما في تسليط الضوء على قضايا جوهرية بأسلوب فني وشاعري.


مقالات ذات صلة

«سينما ترسو»... يستعيد ملامح أفلام المُهمشين والبسطاء

يوميات الشرق لوحات المعرض يستعيد بها الفنان رضا خليل ذكريات صباه (الشرق الأوسط)

«سينما ترسو»... يستعيد ملامح أفلام المُهمشين والبسطاء

معرض «سينما ترسو» يتضمن أفكاراً عدّة مستوحاة من سينما المهمشين والبسطاء تستدعي الذكريات والبهجة

محمد عجم (القاهرة )
يوميات الشرق من أفلام شاشات الواقع «النهار هو الليل» لغسان سلهب (المكتب الإعلامي للمهرجان)

مهرجان «شاشات الواقع» في دورته الـ19 بانوراما سينما منوعة

نحو 35 فيلماً وثائقياً طويلاً وشرائط سينمائية قصيرة، يتألف منها برنامج عروض المهرجان الذي يتميز هذه السنة بحضور كثيف لصنّاع السينما اللبنانيين.

فيفيان حداد (بيروت)
سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)

قصة جرّاح دماغ «محارب» أنقذ شارعه من الحرائق واللصوص في لوس أنجليس

تشيستر غريفيث وابنه أثناء محاولات إخماد الحرائق التي اجتاحت شارعهما (التلغراف)
تشيستر غريفيث وابنه أثناء محاولات إخماد الحرائق التي اجتاحت شارعهما (التلغراف)
TT

قصة جرّاح دماغ «محارب» أنقذ شارعه من الحرائق واللصوص في لوس أنجليس

تشيستر غريفيث وابنه أثناء محاولات إخماد الحرائق التي اجتاحت شارعهما (التلغراف)
تشيستر غريفيث وابنه أثناء محاولات إخماد الحرائق التي اجتاحت شارعهما (التلغراف)

أنهى الطبيب تشيستر غريفيث إجراء عملية جراحية في الدماغ، ثم ركب سيارته وسافر إلى لوس أنجليس لإنقاذ منزله الواقع على شاطئ البحر في ماليبو من حرائق الغابات المستعرة في جميع أنحاء المدينة.

لقد كان هذا سيناريو يعدّه الجرّاح البالغ من العمر 62 عاماً لسنوات، فقد أجرى التدريبات اللازمة لذلك، وزوّد منزله بخراطيم إطفاء الحرائق، وأطلع ابنه وجاره على مسار العمل. و«الآن حان الوقت لوضع السيناريو موضع التنفيذ»، وفق ما ذكرته صحيفة «التلغراف» البريطانية.

ما تلا ذلك كان مهمة جريئة شهدت مواجهة الرجال الثلاثة لـ«أسوأ جحيم» في تاريخ المدينة لينجحوا في حماية 6 منازل أخرى في شارعهم، بينما انهارت المنازل من حولهم وتحولت إلى فوضى من الرماد والأنقاض.

«لن أترك منزلي يحترق مهما حدث»

ومع تفاقم الحريق الذي ابتلع آلاف المنازل وترك آثاراً مشتعلة عبر آلاف الأفدنة، رفض الرجال الثلاثة التراجع، وحتى عندما جلبت الرياح التي تبلغ سرعتها 80 ميلاً في الساعة صفائح من الجمر بحجم كرات القدم، واصلوا القتال.

واتّسع نطاق الحرائق الكثيرة المستعرة في لوس أنجليس منذ 5 أيام، التي أسفرت عن سقوط ما لا يقل عن 16 قتيلاً، السبت، لتطول مناطق كانت بمنأى من النيران. وأتت هذه الحرائق على أجزاء كاملة من ثاني كبرى المدن الأميركية، مدمّرة أكثر من 12 ألف مبنى و15 ألف هكتار من الأراضي. ووصف الرئيس الأميركي جو بايدن، خلال اجتماع في البيت الأبيض، المشهد بـ«ساحة حرب».

وقال كلايتون كولبيرت، جار غريفيث، لصحيفة «التلغراف»: «في مرحلة ما، بدأت بتجهيز سيارتي للرحيل، ثم قررت أنني لن أترك منزلي يحترق، مهما حدث». وأضاف: «بلا شك، لو لم نكن هنا، لما كان أي من منازلنا موجوداً». وتمكن الثلاثي، المسلحين بأقنعة الوجه وخراطيم إطفاء الحرائق والمجارف، من إبقاء الجحيم بعيداً لمدة أربعة أيام وخمس ليال.

كلايتون كولبيرت يعرض لجارته التي أنقذ منزلها فيديو يوضح مدى اقتراب الحريق من ممتلكاتها (التلغراف)

اللحظة الأكثر خطورة

جاءت اللحظة الأكثر خطورة بالنسبة للرجال، ليلة الأربعاء، عندما انطلقت النيران نحوهم من الغرب، واجتاحت اثنين من المنازل الخشبية لجيرانهم وأشعلت النيران فيهما في غضون 20 دقيقة. وقال كولبيرت: «لم نكن نعرف متى سينتهي الأمر. وربما كان هذا هو الشيء الأكثر رعباً». وقام الرجال الثلاثة بالقفز على الأسطح المجاورة ورش النيران بالمياه، واستخدموا التراب والرمل لإخماد أي حرائق على الأرض، وتمكنت المجموعة من إخماد النيران ومنعها من الانتشار نحو المنازل الأخرى.

وأكد الطبيب غريفيث، وهو أب لطفلين، أنه لم يكن خائفاً. وقال: «أنا جراح... أنت تتدرب وتستعد، وبعد ذلك عندما تكون في خضم الأمر، فإنك تعتمد على تدريبك واستعدادك». وأضاف ابنه، الطالب البالغ من العمر 24 عاماً، الذي يُدعى أيضاً تشيستر غريفيث: «لقد كان كل هذا، بصراحة، تحت قيادة والدي... لقد كان يستعد لهذا لفترة طويلة. إنه بطل، ويتمتع بعقلية المحارب».

جراح الدماغ تشيستر غريفيث يقف مع ابنه أمام أحد المنازل التي أنقذاها (التلغراف)

بدوره، لم ينم كولبيرت لعدة أيام. وفي حديثه لصحيفة «التلغراف»، الجمعة، اعترف بأنه لا يعرف ما هو اليوم الذي يعيشه. وأنه يتذكر أنه كان من المفترض أن يخضع لجراحة في الكلى في 10 يناير (كانون الثاني)، وأنه تفاجأ أنه يوافق يوم الجمعة! وفي مرحلة ما خلال المهمة الجريئة، اشتعلت النيران في شعر كولبيرت، لكنه ليس مستاءً، حيث قال مازحاً: «أبدو وكأن رأسي ممتلئ بالشعر الآن، أليس كذلك؟ إنه لشيء رائع، لكن كل ذلك رماد».

مطاردة اللصوص

واضطرت المجموعة أيضاً لمطاردة اللصوص الذين جاءوا لمداهمة المنازل الخالية من سكانها، الخميس. وقال كولبيرت: «بدأت بالصراخ عليهم فهربوا. ثم نزلت إلى سيارتي، وقمت بتشغيل سيارتي والأضواء، حتى يعلموا أننا هنا».

وقال غريفيث إنه إذا كان هناك شيء واحد يمكن تعلمه من هذه المأساة المُدمِّرة، فهو يريد أن يتعرف الناس على جيرانهم. وشدد: «لم نتمكن من القيام بذلك إلا لأننا مجتمع متماسك».

وختم كولبيرت حديثه قائلاً: «عندما يكون لدي الوقت، أعتقد أنني سأكون عاطفياً». أما بالنسبة لغريفيث، فيمضي عطلة نهاية الأسبوع «في الخدمة» مرتدياً مشدات رجل الإطفاء حامياً منزله ومنازل جيرانه، وسيعود يوم الاثنين إلى وظيفته اليومية جراح دماغ.