في معارضه السابقة ظهر تأثر الفنان التشكيلي المصري كلاي قاسم في لوحاته بروائع الأدب العالمي والعربي، فضلاً عن الأعمال الأوبرالية الشهيرة والأساطير الشيقة، فجاءت أعماله انعكاساً لنصوصها وشخوصها وعوالمها السحرية المُفعمة بالخيال والجمال، لكن في معرضه الجديد اختلف الأمر كثيراً.
انتقلت لوحات الفنان هذه المرة إلى أرض الواقع؛ في سياق فلسفي مادي؛ فالمعرض الذي يحمل عنوان «رسائل مؤجلة» تدور فكرته حول قضية إنسانية شائكة، تعكس الأحلام الضائعة، والأمنيات والخطوات التي توقفت على أعتاب الانتظار من دون أن تجد الجرأة للخروج إلى النور، وكأنها ضلت طريقها إليه؛ بسبب تكرار تأجيلها، وتجاهلها؛ انشغالاً بلحظات راهنة، ومهام لا تنتهي ولن تنتهي وفق رؤيتهم.
«تجسد أعمال المعرض كيف يمكن للإنسان أن يبقى طوال الوقت في أداء أمور روتينية، لا تحقق له السعادة، في حين يقوم بتأجيل الخطوات التي قد تنقله إلى مرحلة أخرى مختلفة تماماً في حياته، أو يتجاهل اقتناص لحظات من البهجة والتأمل والراحة، تنتشله من مهامه اليومية»، بحسب الفنان.
ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «يبقى الإنسان في حالة انفصال عن الأشياء التي يتمنى تحقيقها، إلى أن يصل إلى لحظة ما لم يعد أمامه فيها سوى الحزن على مصير حلمه المؤجل».
في إحدى لوحات المعرض المقام حتى 12 ديسمبر (كانون الأول) الحالي بغاليري «موشن» بالقاهرة نشاهد أبوين، يجلسان معاً، ينسجان أحلامهما تجاه أبنائهما الذين يلهون بجوار شجرة، بينما يتساءل المتلقي إلى متى سيستمر الأبوان يخططان ويرسمان المستقبل للصغار، وكم من أمنيات ولحظات سيضحيان بها من أجلهم، وكأن الفنان ينبّه الآباء إلى أنه بينما يستغرقان في رسالتهما الأبوية يضيع العمر رويداً رويداً.
وفي عمل آخر نعيش مع ثلاث سيدات، في عمر متقدم، يقضين لحظات سعيدة على أرجوحة كبيرة، في محاولة متأخرة لتعويض العمر الذي مرّ سريعاً، بينما تطالعنا في خلفية اللوحة، سبورة رسم عليها الفنان جانباً من ذكرياتهن، وألعابهن المفضلة، في تنبيه للمرأة للاستمتاع بالحياة قبل أن تصير عجوزاً مثلهن.
ويسود الصمت اللوحات؛ فلا تشعر أنك أمام شخوص يتبادلون الأحاديث، أو حتى النظرات، فلا مكان للعيون، حيث جاءت الوجوه بلا ملامح، يقول: «أليس في تأجيلنا لرسالة مهمة دون وعي اختياراً للصمت؟ هذا السؤال وغيره يستحق مننا التأمل؛ فنحن أحياناً لا ندرك قيمة اللحظة إلا بعد فواتها، ولا نعلم أهمية الرسالة إلا حين يفوت الأوان على إرسالها».
وفي قصيدته «حلم مؤجل» يسأل كذلك الكاتب الأميركي لانغستون هيوز: «ماذا يحدث للحلم المؤجل؟ هل يجف مثل الزبيب في الشمس؟ أم تتراكم عليه القشرة والسكر مثل الحلوى؟»، وعلى الرغم من أن هيوز لا يقدم إجابات صريحة عن هذه الأسئلة وغيرها مما طرحه في عمله الشهير، فإنه يشير مع ذلك إلى حقيقة أساسية من سمات الحالة الإنسانية، وهي أن تأجيل الأحلام المهمة لفترة طويلة جداً يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة».
ويقول كلاي: «يحمل المعرض رسائل غير مباشرة للمتلقي، تقول له فلتكف عن التأجيل، والانتظار؛ لأن العمر يمر بسرعة أمام عينيك، والفرص لا تعوض؛ لماذا لا تعمل على تحقيق أمنياتك المهمة بالتوازي مع أمورك اليومية، بدلاً من شطب بعضها من قائمة أولوياتك؟».
ومثل هيوز لا يقدم كلاي إجابات عن أسئلته، إنما يترك الأمر للمشاهد، «أعرف أنني أوجعه بما أطرحه أمامه من مشاهد، وأسئلة، لكنها ضرورية لكي توقظ كل من هو في بحث دائم ولهث وراء متطلبات الحياة».
ويتابع: «بات لزام علينا التوقف للحظة مع أنفسنا ومراجعة ما إن كان هذا بالفعل هو ما نحتاج إليه وما نبتغيه من الحياة أو أن نغير طريقنا إلى وجهة أخرى؛ ولهذا فإن معرضي هو دعوة إلى الوقوف مع الذات للحظات بسيطة ومحاولة تحقيق الرسائل التي بداخلنا لنستمتع بالحياة الجميلة التي وهبها الله لنا».
تخلو اللوحات من الزخارف، والمفردات التي استدعاها كلاي من عالم الأساطير والنصوص الأدبية على مسطح أعماله في معارضه السابقة، ولم يستخدم كذلك أوراق الفضة والذهب التى التقينا بها من قبل؛ حيث جعل اللون هو الأساس الذي يحقق به تأثيرات الزخارف، في حين نعثر لأول مرة على بعض الكتابات وأبيات الشعر الواضحة في بعض الأعمال، التي وظفها لتعزيز الثيمة الأساسية لمعرضه الحالي.
وتتخذ شخوصه أشكالاً أكثر قرباً للمجسمات التي تتحرك في فضاء المسطح، وتكسبه حركة لا تتوقف، بطريقة سردية بصرية تركز على المغزى، وهو انشغال الإنسان بأموره اليومية على حساب أحلامه؛ وربما لذلك وضع غمامة على عيون الكثير منهم، فهم يسيرون في الحياة من دون أن يروا واقعهم بوضوح.