ماجدة شعبان تترجم في لوحاتها عشقها لبيروت

التشكيلية اللبنانية لـ«الشرق الأوسط»: إن «أبطالنا» حملت الأمل والتحدّي من قلب الدمار

لوحة «أبطالنا» استوحتها من مشهد واقعي (ماجدة شعبان)
لوحة «أبطالنا» استوحتها من مشهد واقعي (ماجدة شعبان)
TT

ماجدة شعبان تترجم في لوحاتها عشقها لبيروت

لوحة «أبطالنا» استوحتها من مشهد واقعي (ماجدة شعبان)
لوحة «أبطالنا» استوحتها من مشهد واقعي (ماجدة شعبان)

كان بمقدور الفنانة التشكيلية ماجدة شعبان أن تكون اليوم في أميركا مع أولادها، ولكنها سارت عكس الموجة وقرّرت البقاء في بيروت المدينة التي تعشق. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «بيروت هي مدينتي وبيت ذكرياتي وطفولتي. ولم يكن بمقدوري الابتعاد عنها، وهي تعيش أصعب أيامها».

العلاقة الوثيقة التي تربط ماجدة شعبان في المدينة سبق أن ترجمتها أكثر من مرة بلوحاتها. رسمت طبيعتها وطرقاتها وأحياءها، وكذلك منازلها وأهلها البيروتيين القدماء وهم يعتمرون الطربوش الأحمر على رؤوسهم.

ماجدة شعبان توقّع أحد كتبها (ماجدة شعبان)

وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «عندما أبتعد عن بيروت أشعر بالانسلاخ فأحزن وأتعب. أقمت معارض عدة في غاليري (غاليريست) لأكثر من مجموعة تحكي عن العاصمة». ولكن هذه المرّة أمسكت ماجدة بريشتها لتعبّر عن أفكارٍ راودتها من قلب بيروت المجروحة والمدمّرة. رسمت لوحة «أبطالنا» التي تتناول فيها الدّور البطولي الذي تلعبه شركة طيران الشرق الأوسط. فهي تُقلع وتهبط على أرض المطار في أثناء قصف قوي تتعرّض له بيروت. تُصوَّر الطائرة كنسرٍ شامخ يشق طريقه بين النيران، فيحلّق بأجنحته عالياً بين الحياة والموت من أجل إكمال رسالته.

تعلّق ماجدة لـ«الشرق الأوسط»: «هذا المشهد استرعى انتباهي لا شعورياً، كما كثيرين غيري من اللبنانيين. وكان في كلّ مرة يعرض المشهد، خلال نشرة أخبار إحدى محطات التلفزة، يستوقفني».

استوحت ماجدة هذا المشهد من واقع مريرٍ يعيشه اللبنانيون اليوم خلال الحرب الدائرة على أرضهم. فهذه الوسيلة لنقل الناس من بلد إلى آخر بقيت قشّة الأمل الوحيدة بالنسبة لهم، معها يغادرون على أمل العودة، بين الدخان والنار والقذائف يخترقون الغيوم لتحقيق أحلامهم.

وتضيف: «هناك من يسافر بهدف رؤية أولاده والإقامة معهم لفترة. وآخرون يعودون على متن هذه الطائرة ليبقوا بقرب بلدهم وأهلهم. استحضرت مشاعر الخوف عند قائد الطائرة وركّابه. وتخيّلت نفسي أشاهد بيروت تحت القصف من نافذة الطائرة. فهذه الأرزة التي تزيّن طائراتنا عنت لي كثيراً. فهي سرمدية خضراء تشق طريقها فوق السحاب متحدّية أوجاعنا وواقعنا».

«الحمل الثقيل» لوحة تحمل معاني عدّة (ماجدة شعبان)

لوحة أخرى رسمتها ماجدة شعبان مستوحاة من بيروت المثقلة بالحرب وتداعياتها. هذه المرة اختارت حيواناً أليفاً كي تترجم فكرتها، على ظهر حمار ينحني تحت ثقل حمله، رسمت بيوت بيروت وطرقاتها والمنارة وغيرها من رموز المدينة. توضح في سياق حديثها: «هذه اللوحة تحمل معاني عديدة، لها أكثر من وجه. الحمار حيوان يتحلّى بالصبر، ويتحمّل ويقاوم ويتعايش مع كل الظروف. وهو يشبه إلى حدّ ما حياتنا نحن اللبنانيين. فإذا ما استعدنا حقبات سابقة من تاريخنا لاحظنا مدى صبرنا على الأوجاع والمعاناة، فتصوّرت وكأننا نحمل تاريخنا وبيوتنا وهمومنا ونسير قدماً متمتعين بالصلابة والاستمرارية».

بيروت تلهم ماجدة شعبان (ماجدة شعبان)

ترسم ماجدة بيروت بريشة دافئة ومضيئة في آن. برأيها أنه مهما بلغت العتمة بهذه المدينة يبقى هناك نور يشع من مكان ما. هذه الصورة التي تحملها عن بيروت تحضّها على إرفاق لوحاتها عنها بخلفية بيضاء. فتقول: «لا أستطيع رسم بيروت حزينة، فهي بنظري دائماً متألّقة ومشعّة. لبيروت طابعها الخاص وخلطة حياة وناس لا تشبه غيرها. أدق تفاصيل مدينتي تجذبني؛ لذلك أرسم (منشر غسيل) وشرائط كهرباء متصلة بسطوحها، كما أهتم بنوافذ بيوتها الخشبية الملوّنة. بيروت بنظري تتألف من مزيج تراثي وثقافات متعددة لا يمكن التغاضي عنها».

الطربوش الأحمر من رموز أهل بيروت الأصيلين (ماجدة شعبان)

تخصّصت ماجدة شعبان بتصميم المجوهرات، وعملت في مجالها لسنوات عدة. اليوم تتفرّغ للرسم ولكنها تتقنه كمن يصوغ المجوهرات. كما ألّفت 3 كتب كان آخرها «وج قفا». تتحدث عنه قائلة: «أحكي فيه عن فتاة كانت تبحث عن رمز لباب حازت على مفتاحه في حلم رأته. وتعلّق لوحاتها على الجدران لتفصل بين عالمها والآخر الخارجي. فقفزت فوق الأحداث السلبية لتحوّلها إلى فرصة إيجابية وجميلة».

وعما إذا كانت لوحتا «أبطالنا» و«الحمل الثقيل» هما باكورة مجموعة لوحات تنوي تنفيذها عن بيروت خلال أيام الحرب، تختم لـ«الشرق الأوسط»: «بالفعل أخطط لهذا الموضوع، سيما أن أفكاراً مختلفة راودتني من خلال لوحة (أبطالنا). لديّ نواة لوحة تحكي عن أحد الركاب في الطائرة ينظر إلى القذائف والصواريخ التي تهاجم بيروت. بذلك أوثّق مرحلة من مراحل المدينة الصعبة، فتصبح ذكرى نتمنى ألّا نسترجعها. صدمَتُنا برؤية بيروت تشتعل ألهمتني كثيراً، وجاءت لوحاتي لتكون بمثابة صرخة خرجت من أعماقي وقدمتها على طريقتي».


مقالات ذات صلة

دراسة تحذّر الحوامل: المكياج وصبغة الشعر يزيدان مستويات المواد السامة بحليب الثدي

صحتك استخدام الحوامل لمنتجات العناية الشخصية يؤدي إلى ارتفاع مستويات «المواد الكيميائية الأبدية» السامة في دمائهن (رويترز)

دراسة تحذّر الحوامل: المكياج وصبغة الشعر يزيدان مستويات المواد السامة بحليب الثدي

حذرت دراسة جديدة من الاستخدام الزائد لمنتجات العناية الشخصية مثل المكياج وخيط تنظيف الأسنان وصبغة الشعر بين النساء الحوامل.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك الرجال المتزوجون يتقدمون في العمر أبطأ من الرجال العزاب (رويترز)

الزواج يبطئ شيخوخة الرجال

أظهرت دراسة جديدة أن الرجال المتزوجين يتقدمون في العمر أبطأ من الرجال العزاب، إلا إن الشيء نفسه لا ينطبق على النساء.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق النجم الشجاع أنقذ الموقف (مواقع التواصل)

نجم «ديزني» يتخلّص من أفعى على الطائرة... ويتلقّى مكافأة

نجح نجم «ديزني»، الأسترالي أندري ريريكورا، في التخلُّص من ثعبان على طائرة «فيرجين إيرلاينز»... فماذا كانت مكافأته؟

«الشرق الأوسط» (سيدني)
يوميات الشرق إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)

تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

قررت بيكا زيغلر البالغة 24 عاماً، تجميد جثتها في برّاد بعد وفاتها عن طريق مختبر في برلين، على أمل محدود بإعادة إحيائها مستقبلاً.

«الشرق الأوسط» (برلين)
يوميات الشرق جمال لوتشيا بونتي من نوع مختلف عن جدّتها (موقع الحفل)

حفيدة صوفيا لورين «مختلفة الجمال» تخرج إلى المجتمع في «حفل المبتدئات»

جرتْ العادة أن تحضُر كل مُشاركة بصحبة فتى من أبناء المشاهير والأثرياء، وأن ترقص معه «الفالس» كأنهما في حفل من حفلات القصور في عهود ملوك أوروبا.

«الشرق الأوسط» (باريس)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
TT

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

في النسيج الواسع لتاريخ الفن التشكيلي، تبرز بعض الأعمال الفنية وتكتسب شهرة عالمية، ليس بسبب مفرداتها وصياغاتها الجمالية، ولكن لقدرتها العميقة على استحضار المشاعر الإنسانية، وفي هذا السياق تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود»، وهي كذلك شهادة على «قوة الفن في استكشاف أعماق النفس، وصراعاتها الداخلية».

هذه المعالجة التشكيلية لهموم البشر وضغوط الحياة استشعرها الجمهور المصري في أول معرض خاص لماهر البارودي في مصر؛ حيث تعمّقت 32 لوحة له في الجوانب الأكثر قتامة من النفس البشرية، وعبّرت عن مشاعر الحزن والوحدة والوجع، لكنها في الوقت ذاته أتاحت الفرصة لقيمة التأمل واستكشاف الذات، وذلك عبر مواجهة هذه العواطف المعقدة من خلال الفن.

ومن خلال لوحات معرض «المرايا» بغاليري «مصر» بالزمالك، يمكن للمشاهدين اكتساب فهم أفضل لحالتهم النفسية الخاصة، وتحقيق شعور أكبر بالوعي الذاتي والنمو الشخصي، وهكذا يمكن القول إن أعمال البارودي إنما تعمل بمثابة تذكير قوي بالإمكانات العلاجية للفن، وقدرته على تعزيز الصحة النفسية، والسلام، والهدوء الداخلي للمتلقي.

لماذا يتشابه بعض البشر مع الخرفان (الشرق الأوسط)

إذا كان الفن وسيلة للفنان والمتلقي للتعامل مع المشاعر، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإن البارودي اختار أن يعبِّر عن المشاعر الموجعة.

يقول البارودي لـ«الشرق الأوسط»: «يجد المتلقي نفسه داخل اللوحات، كل وفق ثقافته وبيئته وخبراته السابقة، لكنها في النهاية تعكس أحوال الجميع، المعاناة نفسها؛ فالصراعات والأحزان باتت تسود العالم كله». الفن موجود إذن بحسب رؤية البارودي حتى يتمكّن البشر من التواصل مع بعضهم بعضاً. يوضح: «لا توجد تجربة أكثر عالمية من تجربة الألم. إنها تجعلهم يتجاوزون السن واللغة والثقافة والجنس لتعتصرهم المشاعر ذاتها».

الفنان السوري ماهر البارودي يحتفي بمفردة الخروف في لوحاته (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن السعادة، ألا تؤدي بالبشر إلى الإحساس نفسه؟، يجيب البارودي قائلاً: «لا شك أن السعادة إحساس عظيم، إلا أننا نكون في أقصى حالاتنا الإنسانية عندما نتعامل مع الألم والمعاناة». ويتابع: «أستطيع التأكيد على أن المعاناة هي المعادل الحقيقي الوحيد لحقيقة الإنسان، ومن هنا فإن هدف المعرض أن يفهم المتلقي نفسه، ويفهم الآخرين أيضاً عبر عرض لحظات مشتركة من المعاناة».

وصل الوجع بشخوص لوحاته إلى درجة لم يعد في استطاعتهم أمامه سوى الاستسلام والاستلقاء على الأرض في الشوارع، أو الاستناد إلى الجدران، أو السماح لعلامات ومضاعفات الحزن والأسى أن تتغلغل في كل خلايا أجسادهم، بينما جاءت الخلفية في معظم اللوحات مظلمةً؛ ليجذب الفنان عين المشاهد إلى الوجوه الشاحبة، والأجساد المهملة الضعيفة في المقدمة، بينما يساعد استخدامه الفحم في كثير من الأعمال، وسيطرة الأبيض والأسود عليها، على تعزيز الشعور بالمعاناة، والحداد على العُمر الذي ضاع هباءً.

أحياناً يسخر الإنسان من معاناته (الشرق الأوسط)

وربما يبذل زائر معرض البارودي جهداً كبيراً عند تأمل اللوحات؛ محاولاً أن يصل إلى أي لمسات أو دلالات للجمال، ولكنه لن يعثر إلا على القبح «الشكلي» والشخوص الدميمة «ظاهرياً»؛ وكأنه تعمّد أن يأتي بوجوه ذات ملامح ضخمة، صادمة، وأحياناً مشوهة؛ ليعمِّق من التأثير النفسي في المشاهد، ويبرز المخاوف والمشاعر المكبوتة، ولعلها مستقرة داخله هو نفسه قبل أن تكون داخل شخوص أعماله، ولمَ لا وهو الفنان المهاجر إلى فرنسا منذ نحو 40 عاماً، وصاحب تجربة الغربة والخوف على وطنه الأم، سوريا.

أجواء قاتمة في خلفية اللوحة تجذب العين إلى الألم البشري في المقدمة (الشرق الأوسط)

وهنا تأخذك أعمال البارودي إلى لوحات فرنسيس بيكون المزعجة، التي تفعل كثيراً داخل المشاهد؛ فنحن أمام لوحة مثل «ثلاث دراسات لشخصيات عند قاعدة صلب المسيح»، نكتشف أن الـ3 شخصيات المشوهة الوحشية بها إنما تدفعنا إلى لمس أوجاعنا وآلامنا الدفينة، وتفسير مخاوفنا وترقُّبنا تجاه ما هو آتٍ في طريقنا، وهو نفسه ما تفعله لوحات الفنان السوري داخلنا.

لوحة العائلة للفنان ماهر البارودي (الشرق الأوسط)

ولا يعبأ البارودي بهذا القبح في لوحاته، فيوضح: «لا أحتفي بالجمال في أعمالي، ولا أهدف إلى بيع فني. لا أهتم بتقديم امرأة جميلة، ولا مشهد من الطبيعة الخلابة، فقط ما يعنيني التعبير عن أفكاري ومشاعري، وإظهار المعاناة الحقيقية التي يمر بها البشر في العالم كله».

الخروف يكاد يكون مفردة أساسية في أعمال البارودي؛ فتأتي رؤوس الخرفان بخطوط إنسانية تُكسب المشهد التصويري دراما تراجيدية مكثفة، إنه يعتمدها رمزيةً يرى فيها تعبيراً خاصاً عن الضعف.

لبعض البشر وجه آخر هو الاستسلام والهزيمة (الشرق الأوسط)

يقول الفنان السوري: «الخروف هو الحيوان الذي يذهب بسهولة لمكان ذبحه، من دون مقاومة، من دون تخطيط للمواجهة أو التحدي أو حتى الهرب، ولكم يتماهى ذلك مع بعض البشر»، لكن الفنان لا يكتفي بتجسيد الخروف في هذه الحالة فقط، فيفاجئك به ثائراً أحياناً، فمن فرط الألم ومعاناة البشر قد يولد التغيير.