رحيل الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم في القاهرة

فضيلي جماع: برحيله انفصل الصندل عن الجمر

محمد المكي أحد مؤسسي «مدرسة الغابة والصحراء» (الشرق الأوسط)
محمد المكي أحد مؤسسي «مدرسة الغابة والصحراء» (الشرق الأوسط)
TT

رحيل الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم في القاهرة

محمد المكي أحد مؤسسي «مدرسة الغابة والصحراء» (الشرق الأوسط)
محمد المكي أحد مؤسسي «مدرسة الغابة والصحراء» (الشرق الأوسط)

تزايد نزف المبدعين السودانيين، برحيل الشاعر والدبلوماسي الموسوم بـ«شاعر الأكتوبريات» محمد المكي إبراهيم، في العاصمة المصرية القاهرة، إثر علّة لم تمهله، وأصيب محبو أشعاره وأغنياته بحزن عميق، وانفطرت القلوب حزناً على رحيله، وعلى مواراة جثمانه خارج التراب الذي أحبّ وتغنّى له بجميل الأغنيات، وكتب فيه أجمل الأشعار وأعذبها.

نعى الناعي، الأحد، أن شاعر «ديوان أمتي» وشاعر أول الثورات السودانية (ثورة أكتوبر 1964)، انتقل إلى رحاب رب رحيم، ودُفن في القاهرة التي اختارها مقراً لإقامته ليكون قريباً من التراب الذي أحبّ، علّ نزيف الدم والخراب يتوقف فيعود إلى ديار «الخلاسية»، وليغني من جديد للثورة السودانية التي تحتشد في أحشاء التراب، وتتحدى كل خراب وخرائب الحرب، لكن «الموت نَقّاد» اختاره قبل أن يعود ليُدفن في مدافن أجداده في مدينة الأبيض (غرب البلاد).

وهزّ رحيل «ود المكي» أو كما يحلو لمقربيه مناداته، الوجدان السوداني الذي أسهم في تشكيله، بقصائده وفكره، وعدّ رحيله امتداداً للنزيف الذي أصاب أعداداً كبيرة من مبدعي البلاد من شعراء وفنانين وكتاب ومفكرين، ربما انفطرت قلوبهم بسبب الحرب، وما خلفته من دمار في النفوس والمعاني، قبل أن تدمر البنيان.

لحق «ود المكي» بصديقه الشاعر «كمال الجزولي» الذي فُجع السودانيون أيضاً برحيله فجأة في القاهرة أيضاً، ليلحق الرجلان بالهرم الغنائي الراحل «محمد وردي» الذي غادر الدنيا قبلهما بسنين، ليتركوا السودان وحيداً تتناوشه البنادق وأحذية الجنود، والطبيعة المعاندة معاً.

ولد محمد المكي إبراهيم في مدينة الأبيض حاضرة ولاية شمال كردفان عام 1939 من أسرة متصوّفة، وهو ينتمي إلى سلالة زعيم المتصوفة «إسماعيل الولي»، درس في مدارس المدينة، قبل أن يدرس بالمدرسة الثانوية الشهيرة «خورطقت»، ثم يدخل جامعة الخرطوم ليدرس الحقوق، قبل أن يدرس الدبلوماسية واللغة الفرنسية في «السوربون».

عمل الشاعر دبلوماسياً في وزارة الخارجية السودانية منذ عام 1966، وترقّى في مدارج العمل الدبلوماسي ليصل لمرتبة سفير، عمل في عدد من المحطات منها: «براغ، ونيويورك، وجدة، وباكستان، وتشيكوسلوفاكيا، وزائير».

إحدى «أيقونات» الغناء الثوري في السودان (الشرق الأوسط)

وتُعد قصيدته «أكتوبر الأخضر» إحدى «أيقونات» الغناء الثوري في السوداني، كتبها عقب انتصار ثورة السودانيين الأولى، وإطاحة نظام حكم الديكتاتور الفريق إبراهيم عبود، تغنى بها «أيقونة» الغناء السوداني الراحل «محمد وردي»، وما تزال تلهب مشاعر الناس، يقول فيها: «اسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب إيماناً وبشرى... وعلى الغابة والصحراء يلتف وشاحا... وبأيدينا توهجت ضياءً وسلاحا... فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا... سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرة... ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا إسماً وذكرى... باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغنّي... والحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمنّي... والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي... باسمك الشعبُ انتصر... حائط السجن انكسر... والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي».

وظلت قصيدته «بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت» طَوال أكثر من قرابة نصف قرن، ديواناً للعشق والعاشقين، تكتبها الصبيّات خلسةً في دفاتر عشقهن، ويستلهم منها العشاق الطريق إلى الحبيبات تقول: «الله يا خلاسية... يا حانةٌ مفروشةٌ بالرمل... يا مكحولة العينين... يا مجدولة من شعر أغنية... يا وردة باللون مسقيّة... بعض الرحيق أنا... والبرتقالة أنت.. يا مملوءة الساقين أطفالاً خلاسيين... يا بعض زنجيّة... وبعض عربيّة.. وبعض أقوالي أمام الله».

رثاه صديقه وابن بيئته الشاعر فضيلي جماع، بقوله: «سيبقى شعر محمد المكي إبراهيم الناضح بالحكمة والجمال ما بقيت أمتنا»، وتابع: «أبت هذه السنة كبيسة الأحزان إلا أن تفجعنا في رحيل شاعر الأمة محمد المكي إبراهيم. وبرحيله تصدق مقولته في رثائه لأستاذه وصديقه محمد المهدي المجذوب: برحيله ينفصل الصندل عن الجمر».

وتساءل الصحافي المخضرم محمد راجي: «كيف ترتحل الآن، والمتاريس منصوبة والعدى حُضَّر؟»، وقال: «الشاعر السوداني الوحيد، الذي يتسق شعره تمام الاتساق مع شخصيته، هو محمد المكي إبراهيم»، وتابع: «هذا رأي قلته قبل سنوات طويلة، وأيّده، في حينها، وبقوةٍ بعضٌ من أساتذتي وأصدقائي».

الشاعر الراحل محمد المكي إبراهيم

ونعاه رئيس مجلس السيادة قائد الجيش الفريق الأول عبد الفتاح البرهان بتغريدة على منصة «إكس» بقصيدته: «من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصرْ... من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسيرْ... من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمة... جيل العطاءِ المستجيش ضراوة ومصادمة... المستميتِ على المبادئ مؤمنا... المشرئب إلى السماء لينتقي صدر السماءِ لشعبنا... جيلي أنا...».

ومحمد المكي إبراهيم هو آخر القناديل المضيئة من مؤسسي «مدرسة الغابة والصحراء»، وهي حركة شعرية ثقافية تأسست عام 1962، مع زملائه الشعراء الراحلين «النور عثمان أبكر، ومحمد عبد الحي، ويوسف عيدابي، وعبد الله شابو»، وما زالت تُعد من أبرز تيارات الحداثة الأدبية في السودان، وترمز للتمازج الثقافي العربي والأفريقي في السودان، ورمزت للعرب بالصحراء ولأفريقيا بالغابة، وكانت خطاباً عميقاً حول قضية «الهوية السودانية».

نُشرت لمحمد المكي دواوين: «أمتي» (1969)، «بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت» (1976)، «في خباء العارية» (1986)، «يختبئ البستان في الوردة» (1989)، إلى جانب مؤلفاته: «الفكر السوداني... أصوله وتطوره»، «بين نار الشعر ونار المجاذيب».

نال وسام الآداب والفنون 1977 من وزارة الثقافة والإعلام السودانية، واختير قبل أسبوع من رحيله من قبل لجنة المُحكَّمين بالاتحاد العالمي للشعراء لعام 2024 «شاعر السودان»، وهي لجنة مكوّنة من نقّاد أكاديميين كبار سودانيين وعرب، ويُمنح سنوياً لأحد الشعراء العرب.


مقالات ذات صلة

روائع متحف نابولي في «مرايا» العُلا

يوميات الشرق قاعة «مرايا» تستضيف مجموعة تحف فنية مأخوذة من عدة مواقع أثرية إيطالية (واس)

روائع متحف نابولي في «مرايا» العُلا

تحتضن قاعة «مرايا» في العلا (شمال غرب السعودية) معرض «روائع متحف نابولي الوطني للآثار» الذي يقدم مجموعة تحف فنية مأخوذة من عدة مواقع أثرية إيطالية.

«الشرق الأوسط» (العلا)
ثقافة وفنون الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ (أ.ف.ب)

الكورية الجنوبية هان كانغ تحصد جائزة «نوبل» في الأدب

مُنحت جائزة «نوبل» في الأدب لسنة 2024، الخميس، للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ البالغة 53 عاماً، التي أصبحت الأولى من بلدها تنال هذه المكافأة المرموقة.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
يوميات الشرق جانب من تصوير فيلم «طريق الوادي» الذي تجوَّل في 10 مواقع تصوير بالسعودية (الشرق الأوسط)

صالات السينما الصينية تتأهب لاستقبال عروض الأفلام السعودية

تتأهب صالات السينما في الصين لعرض مجموعة متنوعة من الأفلام السعودية منها فيلم «طريق الوادي» و«مطارد النجوم» ضمن فعالية «ليالي الفيلم السعودي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان خلال مباحثاته مع تشانغ هوا في مقر وزارة الثقافة السعودية بالعاصمة الرياض الاثنين (واس)

مباحثات سعودية – صينية تعزز التعاون والتبادل الثقافي

بحث الأمير بدر بن عبد الله، وزير الثقافة السعودي، مع تشانغ هوا السفير فوق العادة والمفوض الجديد للصين لدى السعودية، الاثنين، سبل تعزيز التعاون والتبادل الثقافي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق المذكرة تضمنت تعزيز العمل المشترك بين البلدين في مختلف المجالات الثقافية (واس)

تفاهم سعودي - كويتي لتعزيز التعاون الثقافي

أبرم وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، ونظيره الكويتي عبد الرحمن المطيري، مذكرة تفاهمٍ لتعزيز التعاون الثقافي بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

تمتعك بحس الفكاهة يحسن علاقتك مع أبنائك

تمتع الآباء والأمهات بحس الفكاهة يساعدهم على بناء علاقات أفضل مع أبنائهم (رويترز)
تمتع الآباء والأمهات بحس الفكاهة يساعدهم على بناء علاقات أفضل مع أبنائهم (رويترز)
TT

تمتعك بحس الفكاهة يحسن علاقتك مع أبنائك

تمتع الآباء والأمهات بحس الفكاهة يساعدهم على بناء علاقات أفضل مع أبنائهم (رويترز)
تمتع الآباء والأمهات بحس الفكاهة يساعدهم على بناء علاقات أفضل مع أبنائهم (رويترز)

أكدت دراسة جديدة أن تمتع الآباء والأمهات بحس الفكاهة يساعدهم على بناء علاقات أفضل مع أبنائهم.

ووفقاً لمجلة «ساينس آليرت» العلمية، فقد قال مؤلفو الدراسة إن استخدام الآباء والأمهات الفكاهة في تربية الأبناء لم يتلق إلا القليل من البحث العلمي حتى الآن.

وأجرى الباحثون استبياناً مكون من 10 بنود لقياس تجارب وآراء 312 شخصاً، تتراوح أعمارهم بين 18 و45 عاماً، حول الفكاهة وتأثيرها في تربية الأبناء.

وقال أكثر من نصف المشاركين إنهم تربوا على روح الدعابة عندما كانوا أطفالاً، وأعرب ما يقرب من 72 في المائة عن اعتقادهم بأن روح الدعابة هي تقنية فعالة في التربية.

وأشار الباحثون إلى أن أغلب المشاركين أفادوا باستخدام روح الدعابة، أو التخطيط لاستخدامها، مع أطفالهم.

وكان المشاركون الذين أفادوا بوجود علاقة جيدة مع والديهم أكثر عرضة بنسبة 43 في المائة للإبلاغ عن استخدام والديهم لروح الدعابة في تربيتهم مقارنة بمن نفوا وجود علاقة جيدة مع والديهم.

وقال المؤلف الرئيسي للدراسة بنيامين ليفي، طبيب الأطفال في كلية الطب بجامعة ولاية بنسلفانيا: «يمكن للفكاهة أن تعلم الناس المرونة المعرفية، وتخفف التوتر، وتعزز حل المشكلات بمرونة وإبداع».

وأضاف: «لقد استخدم والدي الفكاهة وكانت فعالة للغاية في تقوية علاقتي به وتقليل مشاعر التوتر بيننا وتعزيز المرونة والتفكير الابداعي لدي. وأنا أستخدم الفكاهة في مع أطفالي وفي عملي أيضاً».

وأكد الباحثون أن الأبحاث المستقبلية يجب أن تنظر في كيفية استخدام الآباء لأنواع مختلفة من الفكاهة، وكيفية تأثير كل نوع على أطفالهم.