رحيل صفية بن زقر صاحبة «موناليزا الحجاز»

رائدة الفن السعودي كانت تحلم بكتابها الأخير ولوحات الرقصات الشعبية

صفية بن زقر (دارة صفية بن زقر)
صفية بن زقر (دارة صفية بن زقر)
TT

رحيل صفية بن زقر صاحبة «موناليزا الحجاز»

صفية بن زقر (دارة صفية بن زقر)
صفية بن زقر (دارة صفية بن زقر)

صفية بن زقر... اسم يتردد دائماً عند الحديث عن تاريخ الفنون في السعودية، تبعث سيرتها بنفحات فنية جميلة معطرة بذكريات حارات جدة حيث نشأت وملابس النساء التراثية في المملكة. يعرف الناس لوحتها الشهيرة «الزبون»، حتى وإن كانوا لا يعرفون اسم الفنانة التي نفذتها. وأمس رحلت عن عالمنا صاحبة اللوحة التي أطلق عليها البعض اسم «موناليزا الحجاز». رحلت صاحبة أول متحف خاص في المملكة الذي أقامته لأعمالها وأرشيفها، وأطلقت عليه اسم «دارة صفية بن زقر»؛ حيث احتضنت الصغار والكبار من الفنانين، أقامت المسابقات الفنية للصغار واللقاءات الثقافية للكبار، وحققت من خلال دارتها أحلام ومشاريع العمر.

صفية بن زقر «الأم الروحية للفنون في السعودية» نعاها محبوها أمس على وسائل التواصل الاجتماعي، وترافقت الدعوات لها بالرحمة مع الثناء والمحبة التي نثرتها على كل من عرفها، قالت عنها الفنانة لولوة الحمود إنها «أيقونة وقامة فنية»، وأضافت لـ«الشرق الأوسط»: «فقدنا في عام واحد اثنين من أعمدة الفن والثقافة في المملكة، وهما الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن، واليوم صفية بن زقر»، وأضافت: «صفية بن زقر كانت رائدة للفن السعودي مع الراحلة منيرة موصلي، ظلت نشيطة للنهاية، وعزاؤنا هو ما تركته لنا متمثلاً في دارتها». تأثرت الحمود بفن صفية بن زقر: «كانت تعطينا الكثير، وأثرت فينا، ولا سيما في ممارسة الطباعة الفنية التي تعلمت أساليبها في أثناء دراستها في كلية سانت مارتن بلندن. عطاؤها لم يتوقف، واستمر حتى نهاية عمرها، ومن أحب أعمالها لدي هي سلسلة الملابس التراثية».

نعى الفنانة قسورة حافظ الذي نسق مؤخراً معرض «خمسين... رحلة الفن السعودي» الذي أقيم في قاعة سوذبيز بلندن، وحرص فيه على عرض نسخة من لوحة «الزبون» لصفية بن زقر، قال لـ«الشرق الأوسط» إنها «سيدة كريمة ولطيفة مع الناس... تذكرك بالناس الطيبين من الأجيال السابقة أو من يطلق عليهم (أهل أول)». ومن الناحية الفنية لم يجد وصفاً أنسب من «رمز وأيقونة ثقافية». يرى أن من أهم إنجازاتها ما سجلته بالريشة والقلم من توثيق لمظاهر الحياة اليومية في منطقة الحجاز بشكل لم يسبقها فيه أحد: «كأن لوحاتها هي أدواتنا للعودة بالزمن إلى حياة قديمة لم تسجلها الكاميرا أو الأفلام». ويصف أسلوبها الفني بالواقعي المختلط بلمحات تأثيرية.

من لوحات صفية بن زقر (دارة صفية بن زقر)

الباحثة والمؤرخة الفنية الدكتورة إيمان الجبرين كان لها حديث طويل مع «الشرق الأوسط» حول ذكرياتها مع الراحلة صفية بن زقر، تحدثت عنها بحب وتقدير وشغف، في بداية حديثها تقول إنَّ الاحتفاء بالراحلة يجب أن يكون بتحقيق آخر أمنياتها «لآخر لحظة، وفي أيامها الأخيرة كانت تلهج بالدعاء أن يسمح لها العمر برؤية مشروعها الأخير، وقد تحقق، وهو كتاب يحمل عنوان (درزة)»، تقول الجبرين: «استغرق العمل في الكتاب عشرة أعوام، وأعده قيمة تاريخية حيث كتب بثلاث لغات، العربية والإنجليزية والفرنسية، وضمت فيه رسومات لكل الأزياء الشعبية، ولم تتوقف عند ذلك بل عملت رسوماً توضيحية لكل التفاصيل مثل الغرز وأساليب الخياطة وأسمائها حتى لا يندثر هذا التراث، وحرصت على أن تترجمها بطريقة صحيحة واضحة وبـ3 لغات، حتى صورة الغلاف التي تمثل ثوباً نادراً».

من أهم منجزات الراحلة؛ إقامة «دارة صفية بن زقر» التي حرصت على الإشراف على كل صغيرة وكبيرة بها، تقول الجبرين إن الراحلة حرصت حتى على اختيار قطع البلاط، «كل بلاطة فيها اختارتها، وهي على فراش المرض حين كانت في سويسرا للعلاج، الدارة مكان قيم، بسبب التفاصيل، لها قيمة لا يمكن تعويضها فهي تضم مقتنيات تراثية مثل الملابس وقطع فنية قيمة وأرشيف الفنانة نفسها حيث أودعت كل لوحاتها والأرشيف الصحافي الذي يغطي أخبارها وأخبار معاصريها. هناك أيضاً المساحات الخاصة بها التي تضم الاستوديو، وشهاداتها كلها موجودة، بالإضافة إلى الجناح التي كانت تسكنه، وأضافته للمبنى، في وسط الجناح هناك مقتنيات لا يعرف عنها سوى القلائل من المقربين منها، فهي كانت عندها هواية جمع أشياء نادرة قد لا تخطر على بال أحد، مثل المراوح اليدوية تجمعها من كل دول العالم، ومن المزادات، كذلك أطقم البورسلين المصغرة التي كانت تصنع في الحقبة الفيكتورية».

تحمل الدكتورة إيمان الجبرين الكثير من الذكريات والقصص مع الراحلة التي كانت موضوع رسالتها للدكتوراه، وتقول إنها كانت مبهورة بها وبطاقتها الإيجابية. تتحدث عن مبادراتها السابقة لعصرها فقد أقامت جوائز للأطفال، وكان عندها مجلس نسائي شهري. تتحدث عن مشروع كانت الراحلة تنفذه، وكانت لوحات بطول 12 متراً مقسمة لأجزاء تتناول فيها الرقصات التراثية في المملكة، كانت تحلم أن تعرضها كجدارية تماثل جدارية كنيسة سيستينا في الفاتيكان للفنان مايكل أنجلو.

من لوحات الفنانة (دارة صفية بن زقر)

كانت للراحلة مخاوف من عرض بعض الأعمال التي نفذتها متأثرة بصور ولوحات عالمية استشراقية حتى لا يكون الانطباع أنها تقلد أحداً، ولكن الدكتورة الجبرين ترى أن الفنانة كانت لها لمسات إضافية على تلك الأعمال نفذتها بصفتها باحثة وفنانة، ولكنها امتثلت لطلب الراحلة بعدم نشرها في رسالة الدكتوراه. «كانت لديها أعمال مستوحاة من صور استشراقية، كانت متوترة بسببها، وكانت تتدخل فيها، وتصحح تفاصيل اللباس؛ لأن أغلب الصور لا تصور اللباس الصحيح، وكانت مترددة، لئلا يقول الناس إنَّها قلدت أو نسخت صوراً استشراقية. منها مجموعة مستوحاة من مجموعة أعمال معروضة في ميوزيه دورساي بباريس أغلبها للفنانة بيث موريسو والفنان أوغست رينوار».

أسأل الجبرين عن سبب تشبيه الراحلة بالفنان العالمي بول سيزان، فتقول: «أرى أن بول سيزان كان مكروهاً من أصدقائه، ولا أحب أن نربطها بشخصه، وقد سألتها ذات مرة عن موقفها من التشبيه، فقالت لي (نحن كنا في زمن ننتظر فيه رأي النقاد فينا، وكنا نعد ذلك إطراء وثناء وقد شبهوني ببول سيزان وأيضاً ببول غوغان)».

لوحة للفنانة (دارة صفية بن زقر)

 

تصفها الجبرين بأنها الأم الروحية للفن السعودي وتستطرد قائلة: «أرى أن أجنحة الفن السعودي تتمثل في الفنانين محمد السليم وعبد الحليم رضوي، ومن السيدات صفية بن زقر ومنيرة موصلي، ولا أعتقد أننا نحتاج لأن نشبهها بأحد أجنبي لنعطيها قيمة، هي وصلت إلى أنها حصلت على وسام الملك عبد العزيز للفنون من الدرجة الأولى، هي الأولى من بين النساء والرجال».

الزبون من أشهر لوحات الفنانة الراحلة (دارة صفية بن زقر)

هل تعتقدين أن لوحة الزبون هي أهم أعمالها؟ تقول الجبرين إن هناك سراً وراء لوحة الزبون «رسمتها الراحلة أربع مرات، كانت تحس بأن الوجه يجب أن يليق بامرأة رفيعة المقام والملبس، قالت أتخيلها امرأة تعطي أوامر في بيتها، ولكن في الوقت نفسه متواضعة». هل كانت اللوحة ذاتية، وتصور الفنانة نفسها؟ تقول محدثتي: «سألتها عن ذلك، وكانت تقول لي إن (كثيرين يقولون إن المرأة تشبه أختي، ولم أكن أريد التسبب في مشكلات لها)، ولكنني أشرت إلى أن اللوحة أيضاً تحمل شبهاً من صفية نفسها، وكانت تضحك، وتقول رسمت لوحة الزبون بناء على صورة لأختي، وهي ترتدي الزي الحجازي، وحاولت أغير الوجه، ولكن في النهاية طلع وجهي أنا».


مقالات ذات صلة

«مجدٍ مباري» احتفاء سعودي بإرث تاريخي ممتد لـ200 عام

يوميات الشرق يقدم المعرض القصص التاريخية بتسلسل زمني (بوابة الدرعية)

«مجدٍ مباري» احتفاء سعودي بإرث تاريخي ممتد لـ200 عام

يهدف المعرض إلى تعريف الزوّار بالإمام تركي بن عبد الله، الذي يُعدُّ من أبرز القادة السعوديين وصاحب شخصية مؤثرة.

عمر البدوي (الرياض)
الخليج محققون يصلون إلى موقع حادثة الدهس التي وقعت في سوق بمدينة ماغدبورغ (إ.ب.أ)

السعودية تدين حادث الدهس في ماغدبورغ... وتؤكد نبذها العنف

أعربت السعودية عن إدانتها حادث الدهس في سوق بمدينة ماغدبورغ، الذي نتج عنه وفيات وإصابات، معبِّرةً عن تضامنها مع الشعب الألماني وأسر الضحايا.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد وزير التجارة السعودي يتحدث خلال أعمال ورشة العمل (حسابه على إكس)

القصبي: الرقمنة أحدثت تحولاً في التجارة العالمية

أكد الدكتور ماجد القصبي وزير التجارة السعودي، أن التبني العالمي المتزايد للرقمنة أحدث تحولاً في التجارة، وجعلها أكثر كفاءة وموثوقية وشفافية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
الخليج مندوب فلسطين رياض منصور يتحدث خلال اجتماع لمجلس الأمن في مقر الأمم المتحدة (أ.ب)

السعودية ترحب بقرار أممي حول التزامات إسرائيل

رحّبت السعودية بقرار للأمم المتحدة يطلب رأي محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل تجاه الفلسطينيين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان خلال لقاء وزير الكهرباء المصري محمود عصمت بالرياض (الكهرباء المصرية)

مصر تعوّل على الربط الكهربائي مع السعودية لـ«استدامة التيار»

تعوّل مصر على بدء تشغيل مشروع «الربط الكهربائي» مع المملكة العربية السعودية مطلع الصيف المقبل.

أحمد إمبابي (القاهرة )

بيروت تحتفل بـ«التناغم في الوحدة والتضامن»... الموسيقى تولّد الأمل

يهدف الحفل إلى تزويد اللبنانيين بجرعات أمل من خلال الموسيقى (الجامعة الأميركية)
يهدف الحفل إلى تزويد اللبنانيين بجرعات أمل من خلال الموسيقى (الجامعة الأميركية)
TT

بيروت تحتفل بـ«التناغم في الوحدة والتضامن»... الموسيقى تولّد الأمل

يهدف الحفل إلى تزويد اللبنانيين بجرعات أمل من خلال الموسيقى (الجامعة الأميركية)
يهدف الحفل إلى تزويد اللبنانيين بجرعات أمل من خلال الموسيقى (الجامعة الأميركية)

يشهد «مسرح المدينة» في قلب بيروت، نشاطات مختلفة تصبّ في خانة إحياء اللقاءات الثقافية بعد الحرب. ويأتي حفل «التناغم في الوحدة والتضامن» لفرقة الموسيقى العربية لبرنامج زكي ناصيف في «الجامعة الأميركية» من بينها. وهو يُقام يوم 29 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، بقيادة المايسترو فادي يعقوب، ويتضمَّن أغنيات وطنية وأناشيد خاصة بعيد الميلاد.

يوضح مدير برنامج زكي ناصيف في «الجامعة الأميركية»، الدكتور نبيل ناصيف، لـ«الشرق الأوسط»، أنّ الحفل يهدف إلى إرساء الوحدة بين اللبنانيين، والموسيقى تُسهم في تعزيزها. ويتابع: «الوحدة والتناغم يحضران بشكل ملحوظ. فالفرق الموسيقية والمُنشدة المُشاركة تطوّعت لإحيائه من جميع المناطق. لمسنا هذه الروح أيضاً من خلال مسابقة سنوية لفرق كورال المدارس، فلاحظنا تماسكها وحبّها الكبير لإعادة إحياء موسيقى زكي ناصيف. أجيال الشباب تملك علاقة وطيدة بوطنها وجذوره، عكس ما يعتقده البعض».

يستضيف «مسرح المدينة» في بيروت الحفل (الجامعة الأميركية)

يمثّل الحفل لحظات يلتقي خلالها الناس مع الفرح. يُعلّق ناصيف: «لا نقيمه من باب انتهاء الحرب، وإنما ليكون دعوة من أجل غدٍ مفعم بالأمل. فالحياة تستمرّ؛ ومع قدرات شبابنا على العطاء نستطيع إحداث الفرق».

يتألّف البرنامج من 3 أقسام تتوزّع على أغنيات روحانية، وأخرى وطنية، وترانيم ميلادية. في القسم الأول، ينشد كورال برنامج زكي ناصيف في «الجامعة الأميركية» تراتيل روحانية مثل «يا ربّ الأكوان»، و«إليك الورد يا مريم»، وغيرهما.

فريق المنشدين والعازفين ينتمون إلى «مجتمع الأميركية» (صور الجامعة)

وفي فقرة الأغنيات الوطنية، سيمضي الحضور لحظات مع الموسيقى والأصالة، فتُقدّم الفرقة مجموعة أعمال لزكي ناصيف وزياد بطرس والرحابنة. يشرح ناصيف: «في هذا القسم، سنستمع إلى أغنيات وطنية مشهورة يردّدها اللبنانيون؛ من بينها (وحياة اللي راحوا)، و(حكيلي عن بلدي)، و(اشتقنا كتير يا بلدنا)، و(غابت شمس الحق)، و(مهما يتجرّح بلدنا). اللبنانيون يستلهمون الأمل والقوة منها. فهي تعني لهم كثيراً، لا سيما أنّ بعضها يتسّم بالموسيقى والكلام الحماسيَيْن».

يُنظَّم الحفل بأقل تكلفة ممكنة، كما يذكر ناصيف: «لم نستعن بفنانين لتقديم وصلات غنائية فردية من نوع (السولو)، فهي تتطلّب ميزانيات مالية أكبر لسنا بوارد تكبّدها اليوم. وبتعاوننا مع (مسرح المدينة)، استطعنا إقامته بأقل تكلفة. ما نقوم به يشكّل جسر تواصل بين اللبنانيين والفنون الثقافية، وأعدّه جرعة حبّ تنبع من القلب بعد صمت مطبق فرضته الحرب».

تتألّف الأوركسترا المُشاركة من طلاب الدراسات الموسيقية في «الجامعة الأميركية»، وينتمي المنشدون في فريق الكورال إلى «مجتمع الجامعة الأميركية في بيروت»؛ من بينهم أساتذة وطلاب وموظفون، إضافة إلى أصدقاء تربطهم علاقة وثيقة مع هذا الصرح التعليمي العريق.

أشرفت على تدريب فريق الكورال منال بو ملهب. ويحضر على المسرح نحو 30 شخصاً، في حين تتألّف الفرقة الموسيقية من نحو 20 عازفاً بقيادة المايسترو فادي يعقوب.

يُقام حفل «التناغم في الوحدة والتضامن» يوم 29 ديسمبر (الجامعة الأميركية)

يعلّق الدكتور نبيل ناصيف: «من شأن هذا النوع من المبادرات الفنّية إحياء مبدأ الوحدة والتضامن بين اللبنانيين. معاً نستطيع ترجمة هذا التضامن الذي نرجوه. نتمنّى أن يبقى لبنان نبع المحبة لأهله، فيجمعهم دائماً تحت راية الوحدة والأمل. ما نقدّمه في حفل (التناغم في الوحدة والتضامن) هو لإرساء معاني الاتحاد من خلال الموسيقى والفنون».

ثم يستعيد ذكرى البصمة الفنية التي تركها الراحل زكي ناصيف، فيختم: «اكتشف مدى حبّ اللبنانيين للغناء والفنّ من خلال عاداتهم وتقاليدهم. تأكد من ذلك في مشهدية (الدلعونا) و(دبكة العونة)، وغيرهما من عناصر الفلكلور اللبناني، وارتكازها على لقاءات بين المجموعات بعيداً عن الفردية. متفائل جداً بجيل الشباب الذي يركن إلى الثقافة الرقمية ليطوّر فكره الفنّي. صحيح أنّ للعالم الافتراضي آثاره السلبية في المجتمعات، لكنه نجح في تقريب الناس مختصراً الوقت والمسافات».