«خيال صحرا» أحلام مكسورة والعبرة لمن اعتبر

بطلاها جورج خباز وعادل كرم ثنائي استثنائي

في التحية الختامية لمسرحية «خيال صحرا» (المكتب الإعلامي)
في التحية الختامية لمسرحية «خيال صحرا» (المكتب الإعلامي)
TT

«خيال صحرا» أحلام مكسورة والعبرة لمن اعتبر

في التحية الختامية لمسرحية «خيال صحرا» (المكتب الإعلامي)
في التحية الختامية لمسرحية «خيال صحرا» (المكتب الإعلامي)

تحمل نهاية مسرحية «خيال صحرا» التي تُعرض على خشبة «كازينو لبنان» درساً قاسياً ومؤثراً، وتوصل رسالة واضحة يقول فيها كاتبها ومخرجها جورج خباز: «كنت أحلم بأن أكون قدوة، ولم أكن أعلم أنني سأصبح عبرة».

وطن خباز يتألم ويحتضر، وأهله يئنون تحت حمل أحلامهم المكسورة، يعيشون الهواجس ويتنفسون العبثية، وعيبهم هو أنهم لا يقرأون تاريخهم.

وفي «خيال صحرا» استعادة لشريط ماضٍ قريبٍ. اللبناني لا يزال يتقلّب بين صفحات حروبه منذ السبعينات حتى اليوم.

عملٌ مسرحي غني بعناصره الفنية يضع النقاط على الحروف. قد يختلط الأمر على مشاهد المسرحية. فبين الضحكة والابتسامة تطفو غرزات جروح عميقة، يحاول جورج خباز طمسها بكوميديا سوداء، ولكنه يبقى متمسكاً بغدٍ أفضل يعطينا الدرس تلو الآخر، والعبرة لمن اعتبر.

جورج خباز كاتب المسرحية ومخرجها وبطلها (المكتب الإعلامي)

«ممنوع التصوير» هي العبارة التي يزودك بها طاقم الاستقبال وأنت تبحث عن رقم مقعدك، فمنتج العمل طارق كرم يصرّ على قراره كي لا تنكشف قصة المسرحية وكواليسها. الجميع يلتزم وأجهزة الخلوي بقيت مطفأة. يتذكّر الجمهور لاشعورياً الجمهور أيام عرض مسرحيات البيكاديللي للرحابنة. عندما كان يعمّ الصمت ويركّز الناس على المسرحية وأبطالها.

بطلا المسرحية جورج خباز وعادل كرم يتوهجان على الخشبة. فهما ثنائي يطلّ على المسرح لأول مرة، يمثلان ويرقصان ويغنيان وكذلك يعرفان كيف يمسكان بزمام الأمور على الخشبة من دون مبالغة. جورج خباز متسلح بخبرات متراكمة يتفنن بالأستذة، في حين عادل كرم بحضوره الأخّاذ يثبت عن جدارة ماذا تعني كلمة بطولة عمل مسرحي.

يزوّد الثنائي خباز وكرم الحضور بجرعات درامية وكوميدية في آن. تهمّ دموعك بالسقوط على وجهك من شدة تأثرك بأداء خباز، فيتلقفها كرم بأسلوبه السهل الممتنع لينتشلك من الحالة. فهما ذابا بهذه الثنائية إلى حدّ الانصهار، فصارا وجهين مختلفين لعملة واحدة. نص يتألف من 162 صفحة، وقد حفظا دور بعضهما فيه عن ظهر قلب. وهو ما أتاح لهما فرصة إحراز ما يشبه لقاء القمم. ومن الند للند صنعا الفرق، فعرفا كيف يوصلان رسائل سياسية واجتماعية بسلاسة وإتقان.

الثنائي خباز وكرم نجحا في جذب جمهورهما العريض (المكتب الإعلامي)

تفتح ستائر المسرح على مشهدية بيروت المدمرة في حرب السبعينات. يجلس المسلحان كلٌ على كرسيه الجلدي المحاط بأكياس الرمل. فهما يحرسان خطوط التماس لمناطقهما. وعلى شاشة عملاقة تتوسط المسرح تظهر شاشتا تلفزة بالأسود والأبيض. واحدة منهما تمثل القناة «11» والثانية القناة «7». في إشارة إلى الصبغة السياسية التي ينتمي إليها المسلحان. فالحرب أفرزت يومها منطقتين: بيروت الشرقية والغربية. تدور أحداث المسرحية في ساعات هدنة تمّ خلالها وقف إطلاق النار. وبانتظار ما يمكن أن يصدر عن قمة بغداد العربية في ذلك الوقت بشأن وقف الحرب، يبدأ المشوار بين الصديقين اللدودين. فهما متأهبان، يحملان سلاحهما، حتى في فترة استراحتهما.

يلعب محتوى المسرحية البصري والسمعي على تحريك ذكريات الحرب اللبنانية عند المشاهد. يلجأ مخرجها خباز إلى محتوى بسيط، ولكنه ذو مدلول عميق. ويحرص خلالها على تقديم أكثر من تحية لشخصيات إعلامية وفنية من تلك الحقبة. يستهلها بالإعلامي الراحل عرفات حجازي يتلو نشرة الأخبار أثناء الحرب على القناة «7». وتكر السبحة بعدها عندما يذكر كل من خبّاز وكرم عمالقة الفن من منطقتهما.

ويتخلل حديثهما الطويل مواجهات بينهما بالكلام وبالسلاح. فهما يشكلان نموذجاً حيّاً عن طبيعة الحرب اللبنانية. تدور بين المسلمين والمسيحيين، والطرفان يحملان الود لبعضهما البعض. ولكنهما يرضخان لأوامر عليا صادرة عن سلطاتهما المتناحرة تطلب منهما التنازع. يغتنم خباز فكرة النزاع ليستخدمها في مشهدية مسرحية من نوع المضحك المبكي. ويطل على موضوع الاختلاف الوهمي المزروع بين الطرفين. فكل منهما يعدّ نفسه صاحب السلطة الأقوى في البلاد. وكلٌ منهما يسخر من مستوى حياة الآخر، إلا أن الحقيقة تبرهن بأنهما يتموضعان في مأزق واحد فُرض عليهما.

مشهدية الحرب عزّزها خباز بأدوات وإكسسوارات تذكرنا بتلك الحقبة. أكياس الرمل المبنية لحماية المقاتلين، كما جهاز الكاسيت الضخم لتبادل الرسائل الصوتية عن بعد. أحاديث حميمة وأخرى عامة تجري بين الطرفين. ولم ينسَ كاتب العمل التوقف عند ما يُسمّى بالطابور الخامس، فيطلق الرصاص في عزّ الهدنة ليُشعل أتون الحرب من جديد. يحاول الطرفان الإمساك به، ولكن من دون جدوى. فهو مرتاح لوضعه يصفّر غير آبه بنتيجة عمله.

مقارنة ساخرة تجريها المسرحية بين طرفي النزاع. فتمرّ على العادات والأزياء والنظافة والهندسة المعمارية لكل منطقة، فكل من المتقاتلَين يتباهى بأن منطقته هي الأفضل وستفوز بالسلطة في النهاية.

تستمر عروض المسرحية طيلة شهر أغسطس (المكتب الإعلامي)

العمل حدّدت أيام عرضه حتى نهاية شهر أغسطس الحالي، وعلى مدى 80 دقيقة يذهب مشاهده برحلة فنية تتلوّن بأسلوب خباز المسرحي. حركة دائمة وكلمة رشيقة ونكتة غير متوقعة ولوحات أخرى مؤثرة تلون «خيال صحرا». الجمهور يتفاعل معها تصفيقاً وضحكاً. ومرات كان يرافق كلمات قصائد يتلوها خباز بإيقاع تصفيق حار ونغمة.

موضوعات عدّة تتناولها المسرحية من حقبة حرب لا تزال آثارها ظاهرة حتى اليوم. فكما الوحدة والنزوح والضحايا وقلق المصير. كذلك فقدان الأمل والخسارات والانكسارات موضوعات تحضر في نص «خيال صحرا».

أكثر من مرة يلامس جورج خباز وعادل كرم مشاعر وأحاسيس جمهورهما عن قرب. مرة من خلال إخبارهم بأسباب انجرافهما وراء السلاح والحرب. ومرة أخرى من خلال حنينهما لرؤية أمهما.

تتطرّق «خيال صحرا» إلى أهمية الحب والعائلة في حياتنا. فالمقاتلان هربا من منزلهما بداعي البحث عمّن يقدّرهما ويشجعهما.

نهاية عبثية ومؤثرة في آن، تُسدل عليها ستارة المسرحية معلنة ختامها، ويكتشف مشاهدها أن عنوانها بحدّ نفسه يحمل رسالة مبطنة. فأن يبقى اللبناني يتفرّج على مآسيه ومعاناته وانقساماته، هو أمر لا يصلح لبناء وطن يحلم به.


مقالات ذات صلة

موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

يوميات الشرق مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)

موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

«مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس، موسيقى ونغمات وأمل».

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الفنانة المصرية منة شلبي تقدم أول أعمالها المسرحية (حسابها على «فيسبوك»)

منة شلبي تخوض أولى تجاربها المسرحية في «شمس وقمر»

تخوض الفنانة المصرية منة شلبي أولى تجاربها للوقوف على خشبة المسرح من خلال عرض «شمس وقمر» الذي تقوم ببطولته، ويتضمن أغاني واستعراضات.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق عرض مسرحي

مهرجان للمسرح في درنة الليبية ينثر فرحة على «المدينة المكلومة»

من خلال حفلات للموسيقى الشعبية الليبية والأغاني التقليدية، استقطب افتتاح المهرجان أعداداً كبيرة من سكان درنة، لينثر ولو قليلاً من الفرح بعد كارثة الإعصار.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق حفل ختام مهرجان شرم الشيخ المسرحي شهد غياب مشاهير الفن (شرم الشيخ المسرحي)

«شرم الشيخ المسرحي» يُختتم بعيداً عن «صخب المشاهير»

اختتم مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي فعاليات دورته التاسعة، مساء الأربعاء، بعيداً عن صخب المشاهير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)

الخفافيش تتكيف مع فقدان السمع بخطة بديلة

الخفافيش تعتمد على حاسة السمع للتنقل والتواصل (رويترز)
الخفافيش تعتمد على حاسة السمع للتنقل والتواصل (رويترز)
TT

الخفافيش تتكيف مع فقدان السمع بخطة بديلة

الخفافيش تعتمد على حاسة السمع للتنقل والتواصل (رويترز)
الخفافيش تعتمد على حاسة السمع للتنقل والتواصل (رويترز)

كشفت دراسة أميركية عن استراتيجية بديلة تلجأ إليها الخفافيش عندما تفقد قدرتها على السمع، وهي حاسة أساسية تستخدمها للتوجيه عبر تقنية الصدى الصوتي.

وأوضح الباحثون من جامعة جونز هوبكنز أن النتائج تثير تساؤلات في إمكانية وجود استجابات مشابهة لدى البشر أو الحيوانات الأخرى، مما يستدعي إجراء مزيد من الدراسات المستقبلية، ونُشرت النتائج، الاثنين، في دورية (Current Biology).

وتعتمد الخفافيش بشكل أساسي على حاسة السمع للتنقل والتواصل عبر نظام تحديد المواقع بالصدى (Echolocation)، إذ تُصدر إشارات صوتية عالية التّردد وتستمع إلى صدى ارتدادها عن الأشياء المحيطة لتحديد موقعها واتجاهها. وتعد هذه القدرة إحدى الحواس الأساسية لها.

وشملت الدراسة تدريب الخفافيش على الطيران في مسار محدد للحصول على مكافأة، ومن ثم تكرار التجربة بعد تعطيل مسار سمعي مهمٍّ في الدماغ باستخدام تقنية قابلة للعكس لمدة 90 دقيقة.

وعلى الرغم من تعطيل السمع، تمكنت الخفافيش من إتمام المسار، لكنها واجهت بعض الصعوبات مثل التصادم بالأشياء.

وأوضح الفريق البحثي أن الخفافيش تكيفت بسرعة بتغيير مسار طيرانها وزيادة عدد وطول إشاراتها الصوتية، مما عزّز قوة الإشارات الصدوية التي تعتمد عليها. كما وسّعت الخفافيش نطاق الترددات الصوتية لهذه الإشارات، وهي استجابة عادةً ما تحدث للتعويض عن الضوضاء الخارجية، لكنها في هذه الحالة كانت لمعالجة نقص داخلي في الدماغ.

وأظهرت النتائج أن هذه الاستجابات لم تكن مكتسبة، بل كانت فطرية ومبرمجة في دوائر الدماغ العصبية للخفافيش.

وأشار الباحثون إلى أن هذه المرونة «المذهلة» قد تعكس وجود مسارات غير معروفة مسبقاً تعزّز معالجة السمع في الدماغ.

وقالت الباحثة الرئيسية للدراسة، الدكتورة سينثيا موس، من جامعة جونز هوبكنز: «هذا السلوك التكيفي المذهل يعكس مدى مرونة دماغ الخفافيش في مواجهة التحديات».

وأضافت عبر موقع الجامعة، أن النتائج قد تفتح آفاقاً جديدة لفهم استجابات البشر والحيوانات الأخرى لفقدان السمع أو ضعف الإدراك الحسي.

ويخطط الفريق لإجراء مزيد من الأبحاث لمعرفة مدى تطبيق هذه النتائج على الحيوانات الأخرى والبشر، واستكشاف احتمال وجود مسارات سمعية غير معروفة في الدماغ يمكن أن تُستخدم في تطوير علاجات مبتكرة لمشكلات السمع لدى البشر.