جوزيف مطر... 80 عاماً على تحرُّر اللوحة من إنجازها باليد فقط

التشكيلي اللبناني تحدّث لـ«الشرق الأوسط» عن اكتمال الرسم بالمعارف

جوزيف مطر وهب سنوات العُمر للفنّ (حسابه الشخصي)
جوزيف مطر وهب سنوات العُمر للفنّ (حسابه الشخصي)
TT

جوزيف مطر... 80 عاماً على تحرُّر اللوحة من إنجازها باليد فقط

جوزيف مطر وهب سنوات العُمر للفنّ (حسابه الشخصي)
جوزيف مطر وهب سنوات العُمر للفنّ (حسابه الشخصي)

تذويب الحبر بالماء منح التشكيلي اللبناني جوزيف مطر الخطوة الجدّية الأولى نحو اكتشاف الأسلوب. ذهب أبعد في تحديد ما يعنيه الشغف حين لم يرسم؛ لأنه «ينبغي» على الأولاد بناء علاقة مع الألوان لإرضاء المدرسة والأهل. خبّأ قروشه لشراء مواد تتيح ولادة خربشاته. استمرّ في التجربة الفردية حدّ إدراك أنها ناقصة لشقّ مسار احترافي.

يرى الفنّ مَكْرمة من الله ومحاكاة للخلق (صور جوزيف مطر)

وُلد عام 1935 ويقف اليوم على عتبة التسعين. يضمّ إلى حساباته البدايات حين لم يفقه معنى الرسم ولم يعلم عن مدارسه وعباقرته، وهو يحصي سنوات العمر الموهوبة للفنّ: «أرسم منذ 80 عاماً ومستمرّ»، يقول لـ«الشرق الأوسط» في حين يتّخذ موقعاً هادئاً لإجراء الحوار، مُرسلاً ريشته إلى الاستراحة حتى إنهائه.

يُعدّد مَن تتلمذ عليهم، وهم كثر أشعلوا رغبته في المعرفة لئلا يقتصر الرسم على خواطر بل يُبعَث من دراسات وتحضير. يتطلّع جوزيف مطر إلى ماضيه، فيرى الكتب التي قادته إلى إنجاز لوحات لا يهمّ إحصاء عددها بقدر أهمية إتاحتها شعوراً بالاكتفاء الداخلي. ولطالما رسم وأعاد المحاولة، و«خربش» ثم هذَّب الخربشات لتبلغ اكتمالها، «وهو لا يتحقّق باللمحة البدائية لتاريخ الفنّ، بل بالغوص في أعماقه».

رسمُه لا يقتصر على خواطر بل يُبعَث من دراسة (صور جوزيف مطر)

يُحلّل الشكل ويُخضِعه للقياس، مُنطلقاً من رأيه بأنّ «الرسم لا تولّده اليد التي هي الوسيلة. تولّده العينان والذكاء». أمضى السنوات يُهذِّب تلك العينين، حدّ قدرتهما على التقاط شكل الحركة لشيء يسقط من علوّ 3 أمتار مثلاً: «عليَّ ألا أرى السقوط وحده، بل كيفيته».

ربطُه الرسم بـ«القلب والدماغ» يُحرّره من كونه مجرّد منتَج يدوي. وإن أمعن التأمُّل في رحلة العمر، لأعادته إلى محطات عنوانها مراكمة الثقافة. يقول جوزيف مطر إنه قرأ للكتّاب الروس والفرنسيين ليُجنّب رسمه الحَصْر بالآفاق الضيّقة. كانت تلك أيام الليرة والقروش، حين مرَّ بمكتبة تُنذر بإغلاق أبوابها تماماً. اشترى كنوزها من كتب ومراجع، فكثُرت أسئلته حول الإنسان ودوره في العالم: «هذه أسئلة الفنّ، والقراءة تجعلها مُلحَّة. نلتُ شهادات في كبرى الجامعات، لكنّ ذلك وحده لا يجعل الرسام حقيقياً. المعرفة تفعل. لأرسم ساعتين عليَّ القراءة لساعات. ليس الرسم هو مزج الألوان وتمرير الريشة على فضاء تشكيلي. إنه قواعد لم تعد جوهرية. فمثلاً يمكن اليوم لطالب حقوق يهوى الرسم تنظيم معرض لبيع أعماله. أيعقل ذلك؟ الرسام مجموعة معارف وثقافات بها يكتمل رسمه».

الرسم موقفه مما يحصل في العالم (صور جوزيف مطر)

شهدت سنواته على اختمار مرحلة التكوين، وهي بتعريفه «كل ما يبذله الفنان من أجل فنّه؛ ونقيضها اليوم هيمنة السهل وندرة ولادة معظم النتاج الإبداعي من الجهود الكبيرة». يُعلي مرتبة الفنّ لكونه «مَكْرمة من الله ومحاكاة للخلق العظيم»، فلا يُبرّر جرّه إلى الهوان ووقوعه في الأيدي المتسرِّعة: «أرسم كما أرفع صلاتي. يستوحي الرسام أشكال الخلق من عطاءات الخالق. بالإمكان رسم المشهد نفسه مرّات، أو عبر مجموعة فنانين، لكنه في جميع حالاته لن يتشابه. هنا أهمية إجراء البحث للتجديد. إنْ تغزَّل شاب بصبيّة قائلاً لها: (تُشبهين القمر)، فهذا يعني أنه لم يُضف شيئاً. سبقه كثيرون إلى هذا السائد».

يُبدي رأيه بالأحداث حوله عبر الشكل واللون (صور جوزيف مطر)

يُبدي رأيه بالأحداث حوله «عبر الشكل واللون، عوض تركيب الجُمل»: «الرسم موقفي مما يحصل في العالم. الحروب وموجات التسونامي مثلاً أجعلها موضوعي، أسوة بأخرى أغرفها من الكتاب المقدّس والحضارة الأوروبية. أرسم الخلاص وسط كل اختناق لإيماني بالحلول. إنها متاحة، لكنّ الإنسان يرفضها. وكما أُجسِّد الشمس والأنوار في رسومي، أُصوِّر الواقع. فنّي محاكاة للصورة المُقنِعة من حولي. وهو عصارة العلاقة الحميمة بين الفنون، المتأتّية من مبدأ التداخُل الحاصل بين الفكرة والصورة مثلاً، أو الصورة والتمثال، أو الكلمة والموسيقى...».

الرسم لا يتحقّق باللمحة البدائية لتاريخ الفنّ بل بالغوص في أعماقه (صور جوزيف مطر)

ذلك يقوده إلى اعتراف ليس مردّه الانتقاص أو تقليل الشأن: «فنّي يقيم في الحضارة، وليس مُعلّقاً بطربوش أجدادي. أرسم بأفكاري ومعارفي وقناعاتي ونظرتي إلى وحدة الكتلة الفنّية واستحالة استقلال فنّ عن آخر».

يذهب أبعد في إعلان إرخاء هَمّ البيع وحده عن كاهله: «أرسم أولاً لأشعر بالاكتفاء، فتُشبعني لوحاتي. أدرك غلبة النَّفَس التجاري وتورُّط السوق بالاستهلاك. ورغم إقامتي معارض في دول حول العالم، وتقاضي المال عن أعمالي، لا أرسم من أجل ذلك. العقود مع الغاليريهات أحياناً مقيِّدة، والفنّ حرّ».

الكتب قادته إلى إنجاز لوحاته (صور جوزيف مطر)

أمام سنواته التسعين، يُسجّل الفنان التشكيلي اللبناني جوزيف مطر موقفاً ضدّ التكاسُل. ينهض ويعمل ساعات بلا استراحة. يُسلّم أيامه لثلاثية القراءة والكتابة والرسم: «مثل اليوم الأول قبل 80 عاماً، أمنح أقصى قوّتي للوحة وأنبض بالألوان».


مقالات ذات صلة

«مفكرة أبريل»: 3 أيام من الإنصات العميق لما تخفيه الذاكرة وتبوح به الأصوات

يوميات الشرق عمل الفنانة السعودية تارا الدغيثر استند إلى أساطير سومرية (الشرق الأوسط)

«مفكرة أبريل»: 3 أيام من الإنصات العميق لما تخفيه الذاكرة وتبوح به الأصوات

لا ترى «مفكرة أبريل» في بينالي الشارقة نقطة وصول، وإنما سبيل يتشعَّب إلى طرق وأساليب تُواصل التشكُّل والتطوُّر حتى بعد انتهاء الفعالية...

فاطمة عبد الله (الشارقة)
يوميات الشرق الورد جعله عطاراً (موقع متحف ديور)

حدائق «ديور» الساحرة تستقبل الزوار في منزل طفولة المُصمّم الشهير

من الأزياء الراقية إلى الإكسسوارات التي رأت النور عام 1947 وعطر «مِسْ ديور»، إلى أحدث الإبداعات التالية، يتجلّى موضوع الحدائق ويحضُر في جميع مجموعات الدار.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الطفولة تبرز في لوحات معرض «في الطريق إلى البيت» (الشرق الأوسط)

«في الطريق إلى البيت»... موعد مع شغف العودة

تروي ميسم هندي بلوحاتها الصراع الذي كانت تعيشه على طريق العودة إلى البيت وخوفها من الظلمة. فأدرجت ألوان الأكليريك الداكنة والفاتحة لتُترجم مشاعرها تلك.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق الفنانة والمغنية اليابانية يوكو أونو (د.ب.أ)

«موسيقى العقل»... يوكو أونو تحوّل «غروبيوس باو» إلى مساحة للتأمل والمشاركة

تُسلط العاصمة الألمانية برلين، الضوء على الرسامة اليابانية يوكو أونو بإقامة معرضين جديدين لها، افتُتحا في 11 أبريل (نيسان) الحالي.

«الشرق الأوسط» (برلين)
كتب «الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

«الرياض» ضيف شرف في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025 بالأرجنتين

تقود هيئة الأدب والنشر والترجمة مشاركة الرياض الاستثنائية بصفتها «ضيف الشرف» في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب 2025، ضمن دورته التاسعة والأربعين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ابتكار طلاء قاتل لفيروسات الإنفلونزا و«كورونا»

يمكن أن تُشكّل الأسطح مستودعاً للبكتيريا خصوصاً في البيئات الطبية وعلى أسرّة المستشفيات (جامعة نوتنغهام)
يمكن أن تُشكّل الأسطح مستودعاً للبكتيريا خصوصاً في البيئات الطبية وعلى أسرّة المستشفيات (جامعة نوتنغهام)
TT

ابتكار طلاء قاتل لفيروسات الإنفلونزا و«كورونا»

يمكن أن تُشكّل الأسطح مستودعاً للبكتيريا خصوصاً في البيئات الطبية وعلى أسرّة المستشفيات (جامعة نوتنغهام)
يمكن أن تُشكّل الأسطح مستودعاً للبكتيريا خصوصاً في البيئات الطبية وعلى أسرّة المستشفيات (جامعة نوتنغهام)

طوّر علماء بكلية الصيدلة بجامعة نوتنغهام الإنجليزية منتجاً جديداً من «الراتنج» الذي يستخدم في عمليات طلاء مجموعة متنوعة من الأسطح، للقضاء على البكتيريا والفيروسات بفاعلية.

ووفق نتائج دراسة جديدة نُشرت، الأربعاء، في دورية «ساينتفيك روبرتس»، فإن المنتج الجديد يحتوي على مادة الكلورهيكسيدين القاتلة للبكتيريا والفيروسات، التي يستخدمها أطباء الأسنان لتنظيف الفم وعلاج الالتهابات قبل العمليات الجراحية.

وتتفاعل الكلورهيكسيدين مع سطح الخلية الجرثومية، حيث تقوم بتدمير غشاء الخلية وقتل الجراثيم.

طبق باحثو الدراسة استخدام الطلاء على مجموعة متنوعة من الأسطح للقضاء على البكتيريا والفيروسات، بما في ذلك الأنواع التي يصعب القضاء عليها، مثل المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين MRSA)) وفيروسات الإنفلونزا وفيروسات «كورونا» المسببة للإصابة بـ«كوفيد - 19».

قالت الدكتورة فيليسيتي دي كوجان، الأستاذة المشاركة في العلوم الصيدلانية للأدوية البيولوجية، التي قادت هذه الدراسة: «من المثير للاهتمام للغاية أن نرى هذا البحث يُطبّق عملياً. في بحثنا دمجنا المطهر في بوليمرات الطلاء لإنشاء طلاء جديد مضاد للميكروبات يتميز بالفاعلية، كما أنه لا ينتشر في البيئة ولا يتسرب من السطح عند لمسه».

وأضافت في تصريح نشر، الأربعاء، على موقع الجامعة: «أظهرت هذه الدراسة بوضوح أن الأسطح المطلية بهذا الطلاء خالية من البكتيريا، وأن أثر هذا الطلاء ينشط بمجرد جفافه»، وأكدت أنه سهل التطبيق وفعّال من حيث التكلفة.

أسطح من دون ميكروبات

ووفق الدراسة، يمكن تطبيق الطلاء الجديد على مجموعة متنوعة من الأسطح البلاستيكية والصلبة غير المسامية لتوفير طبقة مضادة للميكروبات.

ويمكن أن تُشكّل الأسطح مستودعاً للبكتيريا، خصوصاً في البيئات الطبية، من أسرة المستشفيات ومقاعد المراحيض. وكذلك الأسطح التي تُلمس كثيراً في الأماكن العامة، مثل الطائرات والمقاعد وطاولات الطعام. وتستطيع بعض الأنواع الميكروبية البقاء على قيد الحياة على الرغم من إجراءات التنظيف المُحسنة المعتادة.

ويمكن لهذه الكائنات الدقيقة البقاء على قيد الحياة، وأن تبقى معدية على الأسطح، لفترات طويلة، قد تصل أحياناً إلى عدة أشهر.

عمل الفريق البحثي مع شركة Indestructible Paint لإنشاء نموذج أولي لطلاء مضاد للميكروبات باستخدام هذه المادة الجديدة، ووجدوا أنها تنشط بفاعلية عند تجفيفها لقتل مجموعة من مسببات الأمراض. وهو ما علق عليه برايان نورتون، المدير الإداري للشركة: «نسعى دائماً إلى ابتكار طرق جديدة لمنتجاتنا، وهذه المادة تتيح لنا فرصة ابتكار منتج قد يُحدث تأثيراً إيجابياً في منع نمو وانتشار البكتيريا والفيروسات في بيئات متنوعة».

وأضاف: «نعمل في كثير من القطاعات، حيث يُمثل هذا المنتج فائدة كبيرة، على سبيل المثال، في طلاء مقاعد الطائرات وطاولات الطعام، وهي مناطق معروفة بنمو البكتيريا. لا يزال العمل في مراحله الأولى، لكننا نتطلع إلى إجراء مزيد من الاختبارات بهدف طرحه تجارياً».