المسرحي العراقي سعدي يونس يُحاور جاره الرسام كلود مونيه

المُخلص لجمهور الهامش نقل بطله المفضَّل جلجامش إلى مدارس باريس

مراكب كلود مونيه (أرشيفية - غيتي)
مراكب كلود مونيه (أرشيفية - غيتي)
TT

المسرحي العراقي سعدي يونس يُحاور جاره الرسام كلود مونيه

مراكب كلود مونيه (أرشيفية - غيتي)
مراكب كلود مونيه (أرشيفية - غيتي)

ليس غريباً أن يُفاجئنا سعدي يونس بحري وهو يختار لعروضه المسرحية أماكن خفيّة وغير معهودة. إنه مُخلص لجمهور الهامش. يقدّم ما يُسمَّى بعرض الرجل الواحد (وان مان شو) ولا يعنيه إنْ كان على مسرح معروف أو في شارع أو مدرسة أو مستشفى. وهو قبل هجرته إلى فرنسا منذ عقود، تجرأ ونقل ممثليه وممثلاته لتقديم مسرحية لنزلاء سجن «أبو غريب» في بغداد.

لا أحد يعرف كم عمره لأنه مثل بطله المفضَّل، جلجامش، يبحث عن عشبة الخلود ويتمرَّن كل يوم ليحافظ على قوام ممثّل في لياقة الشباب. لا يبوح بعام ميلاده، لكنه يقول إنَّ ولادته كانت على ضفّة نهر دجلة في الرابعة من فجر نهار بغدادي رائق. درس الحقوق هناك، ثم السينما في باريس مع المُعلّم القدير جان روش، وعاد ليصبح أستاذاً في أكاديمية الفنون الجميلة. مارس التمثيل السينمائي، والإخراج، والتأليف، والغناء، وكتب الشعر، وتجوَّل في أرجاء العالم يقدّم ملحمة الخلود العراقية للصغار في المدارس، وللكبار حيثما كانوا. نادته باريس مجدّداً، فلبّى النداء واستقرّ فيها. وبهذا يمكن وصف الدكتور سعدي يونس براهب المسرح الذي يُعاقر الخشبة منذ 6 عقود.

لوحة انطباعية رسمها مونيه لمنزله وحديقته (شاترستوك)

هذه المرة جاءت الدعوة إلى عرض في مسرح «لورم» الواقع في الدائرة 19 من باريس. تصل إلى العنوان، فتجد نفسك في مجمع سكنيّ من المباني التي تخصّصها الدولة لذوي الدخل المحدود. تدلف إلى الساحة وتنزل درجات عدّة تحت الأرض نحو باب يقود إلى فسحة تتوزّع فيها مقاعد متهالكة للمشاهدين. ثم تكتشف أنّ المكان كان كهفاً لتخزين «كراكيب» السكان، وبفضل جهود بعض الناشطين صار يستقبل عروضاً فنّيةً.

المسرحية الجديدة تأتي بمناسبة مرور 150 عاماً على ولادة الانطباعية في فرنسا. كتب النصّ سعدي يونس وأدّاه بمفرده بالفرنسية. والانطباعية حركة فنّية في مجال الرسم بدأت في القرن الـ19 واستمدت اسمها من لوحة بعنوان «انطباع شروق الشمس» للرسّام الفرنسي كلود مونيه، أنجزها عام 1872 وتمثّل مشهداً لميناء «الهافر». وكان الناقد الأدبي لويس لوروا قد استفاد من عنوانها ليُطلق على الأسلوب الفنّي مصطلح «الانطباعية» في مقالته.

يروي الممثل لابنته ياسمين، الطفلة المُفترضة التي لا تظهر على المسرح، حكاية ضاحية أرجنتوي التي عاش فيها وكان الرسّام مونيه قد أقام فيها لفترة من الزمن. كانت ضاحية خضراء هادئة على ضفة السين، قبل أن تجتاحها المصانع والمباني الإسمنتية وتفسد طبيعتها. يحكي لها عن الرسّام الذي اعتاد الرسم في الهواء الطلق، وتصوير النهر مراراً وتكراراً من دون أن تشبه لوحة أختها. وهناك مثلٌ شهيرٌ يقول: أنت لا تنزل إلى النهر نفسه مرّتين. يصف البطل لياسمين المويجات وزنابق الماء والطحالب ومستنقع الضفادع والقطار الذي كان يمرّ من هناك. مناظر الفطور على العشب والنساء في الحديقة والمتنزّهين المبكرين والألوان المشرقة.

الفنان على المسرح (الشرق الأوسط)

يشرح الأب، على لسان الممثل، وبالاستعانة بأدوات بسيطة تؤدّي أصوات الخرير والرياح وحفيف الشجر، كيف كان كلود مونيه ينقل الواقع من الطبيعة مباشرة، كما تراه العين المجرَّدة، في ضربات لونية مُتقنة، بعيداً عن التخيّل والتزويق، داعياً زملاءه إلى الخروج من المرسم واقتناص تغيّرات الطبيعة وتحوّلات نور الشمس ما بين ساعة وأخرى. وبما أنّ الممثل يعيش في البلدة التي سكنها مونيه، فإنه يدخل في حوار متخيَّل معه، ويتّخذ من حياة الفنان مادّة لوصف علاقته بالبيت الذي أقام فيه الرسّام. بيت ذو نوافذ مؤطَّرة باللون الأزرق، يتخيّل ساكنَه يطلّ عليه ويُحادثه من الطابق الثاني. يروي له علاقته بأبرز زملائه الرسامين روّاد الحركة الانطباعية: سيزلي، وبيسارو، ورينوار، وديغا. لكن إقامة مونيه لن تطول؛ وهو سينتقل عام 1883 إلى بلدة جيفرني في مقاطعة النورماندي، بعدما شاهدها من نافذة القطار وأعجب بها. وهناك سيسكن بيتاً أوسع ذا حديقة شاسعة، تحوّل اليوم مزاراً ومقصداً سياحياً عالمياً يستقبل سنوياً نحو نصف مليون زائر.

لا تتوفّر في مسرح «لورم» أبسط الوسائل التقنية. مكان مطليّ باللون الأسود وإضاءة شحيحة. هذا ما يُطلَق عليه المسرح الفقير القائم على الاقتصاد في الأدوات المسرحية، أو الاستغناء عنها بالكامل. الاعتماد التام يقع على الممثل. هو العنصر الحيّ والفعّال المتحرّك على الخشبة، فيعوّض بجسده جميع العناصر المشهدية. لا إكسسوارات، لا أزياء، لا ديكورات. هناك طاولة صغيرة بجوارها كرسي يجلس عليه الممثل ويسرد الأحداث بأصوات متغيّرة على ألسنة شخصيات عدّة. وأحياناً يقف ويتحرّك إلى الأمام، مستخدماً ذراعيه وأصابع كفّيه، مخاطباً الجمهور مباشرة، ومتلوّناً في طبقات صوته، حسب الحدث. لكن المسرحية لم تقتصر على تقديم التحية للانطباعية في ذكراها، بل عرف الممثل كيف يتسلّل بنا إلى بغداد وحياته الفنّية فيها، كما جاء على ذِكْر النحات والرسّام العراقي جواد سليم، صاحب نصب الحرّية الذي درس الفنّ في باريس بأربعينات القرن الماضي.

وياسمين الصغيرة، نسمعها في النهاية تعيد قصَّ حكاية كلود مونيه ولوحاته وألوانه الحارّة والزاهية لرفيقاتها في المدرسة. وهي مناسبة أيضاً لأنْ يقرأ سعدي يونس مقاطع من قصائده باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية.


مقالات ذات صلة

«شرم الشيخ المسرحي» يُختتم بعيداً عن «صخب المشاهير»

يوميات الشرق حفل ختام مهرجان شرم الشيخ المسرحي شهد غياب مشاهير الفن (شرم الشيخ المسرحي)

«شرم الشيخ المسرحي» يُختتم بعيداً عن «صخب المشاهير»

اختتم مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي فعاليات دورته التاسعة، مساء الأربعاء، بعيداً عن صخب المشاهير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق مجموعة نشاطات فنّية يقدّمها الفريق في كل مركز (فضاء)

مؤسّسة «فضاء» تؤرشف للمسرح خلال الحرب

يختصر عوض عوض أكثر ما لفته في جولاته: «إنهم متعلّقون بالحياة ومتحمّسون لعيشها كما يرغبون. أحلامهم لا تزال تنبض، ولم تستطع الحرب كسرها».

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق إيفان كركلا يُهدي رئيس أكاديمية الرقص في بكين كتاباً عن مهرجانات بعلبك (فرقة كركلا)

إيفان كركلا: لبنان لا يموت وهو حاضر أبداً بمبدعيه وتاريخه

هذه هي المرة الثانية على التوالي التي يُدعى فيها المخرج إيفان كركلا إلى هذا المنتدى العالمي، بعد إدراج «مسرح كركلا» عضواً بـ«جمعية العالم للفنون المسرحية».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق الكاتب الراحل مروان نجار (زياد نجار)

«عريسين مدري من وين» استعادة الابتسامة في زمن لبنان - الحرب

رغبت عائلة الكاتب المسرحي الراحل في هذه الخطوة من باب تحريك عروض المسرح في زمن الحرب. واليوم بعد مرور نحو 40 عاماً على عرضها الأول تعود إلى الحياة.

فيفيان حداد (بيروت)

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
TT

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)
لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)

حظي مسلسل «رقم سري»، الذي ينتمي إلى نوعية دراما الغموض والتشويق، بتفاعل لافت عبر منصات التواصل الاجتماعي، وسط إشادة بسرعة إيقاع العمل وتصاعد الأحداث رغم حلقاته الثلاثين.

ويُعرض المسلسل حالياً عبر قناتي «dmc» و«dmc drama» المصريتين، إلى جانب منصة «Watch IT» من السبت إلى الأربعاء من كل أسبوع، وهو من إخراج محمود عبد التواب، وتأليف محمد سليمان عبد الملك، وبطولة ياسمين رئيس، وصدقي صخر، وعمرو وهبة، وأحمد الرافعي.

ويعد «رقم سري» بمنزلة الجزء الثاني من مسلسل «صوت وصورة» الذي عُرض العام الماضي بطولة حنان مطاوع، للمخرج والمؤلف نفسيهما. وينسج الجزء الجديد على منوال الجزء الأول نفسه من حيث كشف الوجه الآخر «المخيف» للتكنولوجيا، لا سيما تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن تورط الأبرياء في جرائم تبدو مكتملة الأركان.

السيناريو تميز بسرعة الإيقاع (الشركة المنتجة)

وتقوم الحبكة الأساسية للجزء الجديد على قصة موظفة بأحد البنوك تتسم بالذكاء والطموح والجمال على نحو يثير حقد زميلاتها، لا سيما حين تصل إلى منصب نائب رئيس البنك. تجد تلك الموظفة نفسها فجأة ومن دون مقدمات في مأزق لم يكن بالحسبان حين توكل إليها مهمة تحويل مبلغ من حساب فنان شهير إلى حساب آخر.

ويتعرض «السيستم» بالبنك إلى عطل طارئ فيوقّع الفنان للموظفة في المكان المخصص بأوراق التحويل وينصرف تاركاً إياها لتكمل بقية الإجراءات لاحقاً. يُفاجَأ الجميع فيما بعد أنه تم تحويل مبلغ يقدر بمليون دولار من حساب الفنان، وهو أكبر بكثير مما وقع عليه وأراد تحويله، لتجد الموظفة نفسها عالقة في خضم عملية احتيال معقدة وغير مسبوقة.

وعَدّ الناقد الفني والأستاذ بأكاديمية الفنون د. خالد عاشور السيناريو أحد الأسباب الرئيسية وراء تميز العمل «حيث جاء البناءان الدرامي والتصاعدي غاية في الإيجاز الخاطف دون اللجوء إلى الإطالة غير المبررة أو الثرثرة الفارغة، فما يقال في كلمة لا يقال في صفحة».

بطولة نسائية لافتة لياسمين رئيس (الشركة المنتجة)

وقال عاشور في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «المخرج محمود عبد التواب نجح في أن ينفخ الروح في السيناريو من خلال كاميرا رشيقة تجعل المشاهد مشدوداً للأحداث دون ملل أو تشتت، كما أن مقدمة كل حلقة جاءت بمثابة جرعة تشويقية تمزج بين ما مضى من أحداث وما هو قادم منها في بناء دائري رائع».

وأشادت تعليقات على منصات التواصل بالمسلسل باعتباره «تتويجاً لظاهرة متنامية في الدراما المصرية مؤخراً وهي البطولات النسائية التي كان آخرها مسلسل (برغم القانون) لإيمان العاصي، و(لحظة غضب) لصبا مبارك؛ وقد سبق (رقم سري) العديد من الأعمال اللافتة في هذا السياق مثل (نعمة الأفوكاتو) لمي عمر، و(فراولة) لنيللي كريم، و(صيد العقارب) لغادة عبد الرازق، و(بـ100 راجل) لسمية الخشاب».

إشادة بتجسيد صدقي صخر لشخصية المحامي (الشركة المنتجة)

وهو ما يعلق عليه عاشور، قائلاً: «ياسمين رئيس قدمت بطولة نسائية لافتة بالفعل، لكن البطولة في العمل لم تكن مطلقة لها أو فردية، بل جماعية وتشهد مساحة جيدة من التأثير لعدد من الممثلين الذين لعبوا أدوارهم بفهم ونضج»، موضحاً أن «الفنان صدقي صخر أبدع في دور المحامي (لطفي عبود)، وهو ما تكرر مع الفنانة نادين في شخصية (ندى عشماوي)، وكذلك محمد عبده في دور موظف البنك».